كهنة العصر.. واغتيال العقل!

بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة شنَّ كثيرٌ من المثقفين وشخصياتٍ عربية وإسلامية معروفة هجوماً لاذعاً على الغرب ووسائله الإعلامية باتهامها بالانحياز للرّواية الإسرائيلية، والتعاطي مع القوانين بمعايير مزدوجة، ومع الضّحايا بعنصرية دون أدنى إنسانية ، و لاتمتّ لحضارتهم وقيمهم المزعومة بصلة.
وهم مُحقّون إلى حدٍ كبير في هذا الجانب ، فقد رأينا بأمّ أعيننا التّغافل الإعلامي والقانوني الذي مورس عندما قصفت إسرائيل المستشفيات والمدارس ودور العبادة والمؤسسات التعليمية والمراكز الأممية في انتهاكٍ صارخٍ لجميع الأعراف والمواثيق الإنسانية والدولية ، دون أن يردعها مجلس الأمن أو طرف دولي وازن، ناهِيكَ عن الخذلان العربي والإسلامي الرسمي .
وخلال هذه المحاكمات التي يجريها مثقّفونا على الغرب، نتفاجأ أنهم منحوا قتلة اليمن وسوريا والعراق ولبنان صكوك الغفران، بل وضع أحدهم ميليشيا الحوثي التي قتلت وحاصرت ” في مكان آخر” بعد الاستيلاء على سفينة تجارية في البحر الأحمر تبيّن لاحقاً أنها لم تصنع فارقًا، مكملا حكمه بأن ما حدث في اليمن هي ” معركة بين أبناء الوطن الواحد”، وأنّ أي فعل سياسي يتخذه السيسي -ولو اقتصر فقط على فتح المعبر لساعات -سيغفر له كل جرائمه في رابعة والنهضة والانقلاب على الشرعية وغيرها الكثير ، ومثقّفٌ آخر أرسل عبارات الشكر القلبية قبل أن تتضح تفاصيل وحيثيات وتداعيات وقيمة الحادثة، بل وصلت المراهقة السياسية والعبث بأحدهم أن تحدّث نيابةً عن أولياء الدم وقرر نيابةً عنهم أن يتسامح مع من قتلهم ودمّر بيوتهم وسلب أموالهم وانتهك أعراضهم وهجّرهم خارج بلادهم، وفتح صفحة جديدة معه فيما لو تماشى مع سياسات محدّدة بأهداف لا علاقة لها بغزة بل بتصفية حسابات بين أنظمة وجيران لن أذكر تفاصيلها الآن.
ساق هؤلاء النّخب لسلوكياتهم مبررات باردة يطلقون عليها “الواقعية السياسية” ولكن في الحقيقة كما أجمع عليها الضحايا أنها تنمّ على بلادةٍ في الحس وضياع للبوصلة واستهانةٍ واستهتارٍ فجٍّ بدماء الملايين من السوريين واليمنيين والعراقيين واللبنانيين، ولايخفى على أي عاقل (يعرف القليل من القيم الدينية والإنسانية) أن الدماء المعصومة متساوية وحرمتها عند الله أكبر من هدم الكعبة ، ولايستبيحها إلا مجرم.
وهنا نأتي للسؤال الأكبر : هل النّخب العربية أكثر عدلاً ممن عقدوا لهم تلك المحاكمات أم يتساووا معهم !! وماهو مفهوم الانحياز والإزدواجية من وجهة نظر مثقفينا و”نخبنا” هؤلاء ؟؟ وهل هم طرفٌ نزيهٌ ومؤهلٌ فعلاً للحديث عن مآسينا؟ وهل يتحدثون عن قناعة فعلاً أم أنهم كما هو الحال دائماً يتهافتون لركوب الموجة ولديهم براعةٌ منقطعة النظير في البيع والشراء والتجارة في دماء المظلومين، وهل هم لا يمارسون ذات الازدواجية والعنصرية والانحياز غير المبرر والخارج عن السياق مع الآخرين ؟؟ أستطيع وبكل ثقة -كوني أحد ضحايا الديكتاتورية والإجرام والقمع والتهجير ومثلي ملايين- أن أصف ماقام به بعض من يتصدرون المشهد الإعلامي العربي اليوم ، على أنه سقوط أخلاقي وكهانة واغتيال للعقل والمنطق ، بل ويمارسون نوع من الوصاية والإرهاب على العقل العربي لتبني رؤيتهم العوراء الخالية من الوجدان والضمير ، بل ويضفون نوع من القداسة على شعارات ومصطلحات ومسميات أكثرها باسم الله وبعض مقدسات المسلمين وهم أبعد مايكونوا عنها كَ حزب “الله” ، أنصار”الله”، فيلق “القدس” ،سرايا “الأقصى ” وغيرها كثير ، وفي حال لم تتبنَ رؤيتهم وروايتهم فالتُهم المُعلبة جاهزة ، والتفكير خارج الصندوق أصبح أحد الموبقات والمُخرجات من الملّة ، ولديهم قطيعٌ من الذباب الإلكتروني والمغرر بهم يرددون كلامهم ويغتالون معنوياً أي مخالف ، عبر البذاءة والشتائم والتخوين ، ووصلت بهم الوضاعة بل أقول الخيانة أن يجعلوا من مشاعر وعواطف عامة الشعوب العربية والإسلامية مع القضية الفلسطينية أداةٌ يحركون بها مشاعرهم نحو أهدافٍ سياسية خبيثة تخدم بالدرجة الأولى مشروع تصدير الثورة الخمينية ( الفارسيّة) للسيطرة على المزيد من عواصم بلادنا العربية لعله ينوبهم بعض الفُتات وذلك من خلال التضخيم والتفخيم والثناء والشكر للميلشيات الطائفية الإرهابية وغسل يديها من دماء ملايين العرب والمسلمين تحت ذريعة “الانتصار ” لغزة .
لاشك لدي بعد اليوم أن هؤلاء تخلوا عن المبادئ والقيم واتجهوا إلى بلاط المرشد الأعلى لينافقوه وينافقوا دول وجماعات مارقة تابعة له ، ويبرروا لهم أفعالهم بل ويمدحونهم على ما يمارسونه من ظلمٍ وعدوانٍ وتوغلٍ في بلادنا العربية تحت شعار “المقاومة” وتحرير الاقصى الذي لم يبق أفاكٌ ولا دجّالٌ ولا مستبدٌّ طامعٌ طامح إلا واستخدمها لأهدافه الشخصية والحزبية ولكسب بعض الامتيازات والحيثية والانقلاب على الشرعية ، و الأهم من كل ذلك الدراهم التي أعمت القلوب والعقول قبل الأبصار ، بعد كل هذا ، هل يحق لهؤلاء أن يتحدثوا عن الازدواجية الغربية وتأييدها للمجرمين والقتلة ؟؟ هل يحق لهم أن يرفعوا رؤوسهم أمام أبناء جلدتهم ؟؟ هل يحق لهم أن يتصدروا المشهد الإعلامي والتحليل السياسي والعسكري والاستراتيجي ؟!؟
وأنهي ببيت شعر لأبي الأسود الدؤلي ( لاتنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله … عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ .
والعار والشنار سيلاحق هؤلاء وسيسجل التاريخ مواقفهم المُخزية التي لاتعبر عن ضمير شعوب الأمة ووجدانها وتطلعاتها وآمالها ، وإذا كانت الثورة السورية العظيمة الكاشفة ، فإن حرب غزة الأخيرة هي الفاضحة .