تطوافٌ بين الثورة السورية اليتيمة وبين الطوفان المدمِّر

ابتداء لا يخفى أن ثمَّة فرق بين الثورة، وبين عملية تحرر وطني ودفع للصائل المعتدي، لكن وجه الشبه أن كياناً غريباً على شكل جسمٍ بشريٍ، خطَّط الغرب لزرعه بين آسيا وأفريقيا، منذ أن اقترحه وزير الخارجية البريطاني “بيتر”، سنة 1907م، كيما تسهل السيطرة على المنطقة، ومن هنا نفهم تبنِّي الغرب لإسرائيل ودعمه لها، ودفاعه المستميت عنها، كون الكيان الصهيوني، هو مشروع للغرب بامتياز.
والنظام في دمشق هو احتلال من نوع آخر، جاء على ظهر دبابة على مرحلتين، في الثامن من مارس آذار سنة 1963م، وفي السادس عشر من نوفمبر تشرين الثاني سنة 1970م، ومدعومٌ من الغرب ومن إسرائيل معاً، وهذه حقيقة لا يجادل فيها إلا أعمى البصيرة، مكابر على المحسوس!.
الطوفان: تخطيط استراتيجي ممنهج للمواجهة، وثبات عند المدنيين وعند المجاهدين على حدِّ سواء، وثقة من الحاضنة الشعبية في غزَّة بقيادتها، وضبط للسرِّية وتفادٍ للاختراقات المحتملة للصفوف. تزامن ذلك مع سياسة “الحرب خدعة”، ومن أبرز أوجهها خداع إسرائيل وإحراج إيران، مما جعل إسرائيل في مأمن من أمرها، وإيران تتخبَّط في مواقفها.
ومن الإرهاصات وعوامل البناء مسبق الصنع، تربية جيل كجيل صلاح الدين، مستوعب لقضيته ومؤمن بها وببعدها العقَدي، ترافق ذلك مع تعبئة معنوية وروحية، لعامَّة أهل غزة ضَبَطَتْ بوصلة الهدف، نصر أو شهادة.
الجهاد في غزَّة مشروع ذو خلفيةٍ أيديولوجيةٍ قابلةٍ للانبعاث، ويرفض مشروعها الاستئصال. ومن هنا تحرَّك الغرب بقضِّه وقضيضه لمواجهته. واستطاع هذا المشروع، تحييد الرأي العام الدولي، خاصَّة على مستوى الشعوب الحرَّة، إلى التعاطف مع مآسي المدنيين في غزَّة. وعمل على إفشال جهود المثبطين والطابور الخامس فيها، ووضعتهم في زاوية ميتة لا حراك فيها.
كما تمَّ امتلاك أوراق رابحة، تفاوض ببعضها، كتائبُ القسَّام بثقةٍ بالغةٍ، وفي مقدمتها الوثائق السرية الاستخباراتية، وملف الأسرى من الصهاينة، وإدارته من موقف القوي.
ومن الأوراق أيضاً على الصعيد الإسلامي، دفاعها عن المقدسات، وفي طليعتها المسجد الأقصى. واستطاعت آلة هذا المشروع التحرري الإعلامية، إفشال الدعاية الصهيونية التي عملت على تشويه صورة مجاهدي غزّة، عبر الآلة الإعلامية المضادة، من مثل تقطيع رؤوس الأطفال، وسواها.
أما الثورة السورية اليتيمة: فقد ولدت ضمن حالة عفوية، وبنسبة ما، عاطفية، في سياق ظاهرة الربيع العربي، نظيفة قبل أن يلوثها النظام المجرم، بشوائب العسكرة والدعاية الإعلامية المغرضة، ثم باختراق صفوفها ممن باعوا ذممهم، وأغرتهم العملة الصعبة! على الصعيدين السياسي والعسكري، وحتى على صعيد بعضٍ من المنظمات الإغاثية، ومن منظمات المجتمع المدني، التي كان من أهم أنشطتها تزويد بعض أفرادها، الاستخبارات الأجنبيةَ، بتقارير عن الأنشطة الثورية، وما خفي أعظم!.
تزامن ذلك مع نفاق المجتمع الدولي، إزاء هذه الثورة المباركة، والكيل بمكاييل عديدة! وبدعم للاستبداد، تحت الطاولة غير محدود!.
نأى جزء كبير من النخبة المثقفة، وأداروا ظهورهم للثورة، مما فتح المجال لبعض الغوغائيين، تسلَّق جدار الثورة وتقدم الصفوف، وغَلَبَ على القيادات السياسية التي تصدَّرت المشهد، مهددات لأمن الثورة ولنجاحها، كان في طليعتها البراغماتية، وهذا برأيي هو من مفرزات نجاح النظام الشمولي في عاصمة الأمويين، فكَّ الله أسرها، في تحويل الشعب السوري من خانة المبادئ إلى خانة المصالح.
أما القيادات العسكرية، التي تمَّ شراء الكثير من ولاءاتها، وكانت عبيد الدرهم والدينار، ووقعت أسيرة في شباك الأنا والمصالح الشخصية الضيقة، وتاجرت بالدين، وأنا هنا أتحفظ على التعميم، فجزءٌ منها غير يسيرٍ، نظيفٌ، لكن تمَّ تقييده بفعل فاعلٍ، على أرض المناطق المشتعلة، ولم تنجح بجملتها، ومعها السياسيون يالخروج من مربع الذات إلى مربع الآخر، ومن دائرة المشروع الخاص إلى مشروع وطن.
كان افتقاد الثورة لجهاز أمني استخباراتي، ولجهاز للتخطيط الاستراتيجي، وكذا لجهاز إعلامي منظم ومتين، من أهم معاول الهدم التي نزلت بساحة الثورة، والعامل الآخر هو التشرذم المشهود وعلى رؤوس الأشهاد، بين المتنفذين الذين يبحثون عن مشاريع خاصَّة، كما سبق وأشرت! ولم يتم العمل على الحفاظ على الحاضنة الشعبية، التي تعاطفت مع الثورة في أشهرها الأولى، كما لم تنجح قيادات الثورة في التعامل مع حليفها الإقليمي الوحيد، ومُنيَت بفشل ذريع، نحمِّل مسؤوليته للآخرين، دون إنصافٍ منَّا، وحسن تقدير!.
شعارنا: “غزة مقبرة الميركافا” وشعارهم: “قتيل كل ساعة”
وختاماً ليس من المستحيل، وليس من الصعب، العودة بالثورة السورية، إلى سيرتها الأولى، لكن في حال صدقت النيات، وتقدم لقيادتها المخلصون، وعمل في صفوفها الأكفَّاء من النخبة، وهذا يستدعي إرادة فاعلة وإدارة ناجحة، تعي طبيعة الطريق، وتعرف دهاليز السياسة الدولية، وتتعامل معها بعمقٍ وبنظافة يدٍ، بعيداً عن العمالة الثقافية منها وكذا اللوجستية، وما كتبته هنا عساه أن لا يضيع سدىً في وسط من الزحام، أو أن يكون نفخةً في قربة مثقوبة، أو في كومة من الرماد، أو استنباتاً للبذور في الهواء.
اللهم تأييداً للمجاهدين في غزَّة، وانتشالاً للثورة السورية من أوحالها وشوائبها، فأنت وليُّ ذلك والقادر عليه.