كلمة في شيخِ الـمُحققين بشار عواد معروف

في فترة سبقت غير بعيدة، أثار بعضُ الجهال نقاشا قديما دُرِسَ ليس فيه فائدة، موضوعُه هو عقيدة الإمام المجتهد الكبير أبي حنيفة النعمان، أحد رواد المدارس الفقهية الإسلامية الأربعة، وكان الموضوع يتراوح بين القدح والمدح، والتكذيب والتصديق.. فلما اضطلع العلامة الجهبذ بشار عواد معروف بتحقيق كتاب (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، والذي أورد فيه مؤلفه في ترجمة أبي حنيفة الغثَّ والسمينَ عنه، كان من عمل بشار أن دقَّق التحقيق في روايات هذه الترجمة، وهو المحقق النحرير، فكان اسمُه بشار بهذا حاضرا في سوق الجدل الذي خاضه الجهَّال، ولكن على سبيل القدح والجرح!
ولستُ بصدد مسألة الإمام أبي حنيفة بين الدِّفاع عنه و الطَّعن عليه، فهي مسألةٌ علميةٌ لَربمـا للمُجتهِد فيها –و إن أخطأ– أجرٌ إن شاء الله إذا توافر فيه الدِّينُ و العلمُ و النيةُ الـمُخلصَة.. و إنمـا أريدُ التذكير بمكانة هذا العَـلَـم الخبير، و العالِـم النحرير، و الـمُحقِّـق القدير، و الـمُحدِّث الكبير، و الـمُؤرِّخ الخطير؛ أبي البُندار بشَّار عوَّاد معروف العُبيدي البغدادي الأعظمي، أحدُ عمـالقة الـمدرسة العراقية الـمُعاصرة في التحقيق و التأريخ و التحديث، بل هو –على الصحيح– عملاقُها الأكبر الذي لا يُشقُّ له غُبار، ولا يُصطلى بنار، ذي المكارِم و الأفضال، و عظيمِ الإنجازات و الأعمـال.. وإنَّ زمنَـنا قد تطاولَ فيه الأصاغِرُ الأغرار على الأكابِر الأبرار، واستشرى فيه داءُ التعالُم على ذوي العلم، وظهر على الأمة فيه أُناسٌ يدَّعون العِلمَ و يزعمونَ الفهمَ، وهم أولى بأن يُـعَدُّوا في صدارة ذوي الجهل والبلادة، فكان ضررُهم أكبرُ مِن نفعِهم إن كان لهم نفعٌ، وخطأهُم أكثرُ مِن صوابِهم إن أصابوا، وحسِبوا إفسادَهم إصلاحًا لِـجهلهم وسوء فهومِهم وصِغَـرِ عقولهم، فليت شعري: أيُّ أثرٍ سيِّـئٍ هذا الذي جناه على الأمة هؤلاء القوم وعلى أنفسهم!!
وبعد؛ فإنَّ الشيخ البروفيسور بشَّار عوَّاد على عقيدة سلفية صحيحة بالإجمال، زاد مِن صِحَّتها نهلُه مِن معين أهل الحديث حتى صار محسوبا على مدرستهم؛ فهو مُـحدِّثٌ مِن الطِّراز الأول، وإن كانت مرتبتُه -كما يقول الشيخ البحَّاثة أبو محمد سعيد هرماس- أدنى مِن مرتبةِ جملةٍ مِن مُحدِّثي العصر؛ على غرار الألباني رحمه الله.. كمـا أنَّ الشيخَ قد جمع –إلى علوم الحديث– عِلمَ التاريخ بأقسامه و عِلمَ التحقيق، فهو يكادُ يُـحيطُ بذينك العِلمين اطِّلاعًا واضطلاعًا، فهمًـا ودِرايةً، مُـمارسةً ودِراسةً، تعليمًـا وتدريسًا، وهو على استطاعة بأن يعجنهمـا عجنا فيُخرجَ مِن هذا العجين لعلمـاء الأمة وطُلَّابِها ما تقرُّ به أعيُـنُهم مِن جيِّـد التواليف والـمُصنَّفات، ومُتقَـنِ الدِّراسات والتحقيقات، وقد فعلَ حتى زادت إصداراتُه التي ألَّفها على 20 كتابا، والتي حقَّقها على 25 عنوانا (وكثير منها مُطوَّلات)، أما الأبحاث والمقالات فشيء كثير جدا.
أما مَن أراد أن يُدرِكَ طرفًا مِن علوِّ كعب الشيخ بشَّار عوَّاد في التحقيق، وتضلُّعه فيه، فليقرأ شيئا مِن موسوعة الإمام الـمِزِّي (تهذيب الكمـال)، أو موسوعة الإمام الخطيب البغدادي (تاريخ مدينة السلام)، أو موسوعة الإمام ابن عذاري (البيان الـمُغرِب)، أو (موطَّأ) الإمام مالك برواية الليثي، فهو فيها –وفي غيرها، وهي مِن تحقيقه– قد أبان عن نَفَسٍ طويلٍ، وإتقانٍ باهِرٍ، ونقدٍ بنَّاءٍ، واطِّلاعٍ واسِعٍ على الـمُصنفات القديمة والحديثة، وخِبرةٍ عاليةٍ في كشف الأغلاط و الأخطاء العلمية و التحقيقية التي كثيرا ما يقعُ فيه الـمُصنِّفون والـمُحقِّقون، وذاك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء.
وأما التأريخ الـمُجرَّد فالشيخُ بشَّار هو أحدُ أوعيته، قد بلغ فيه رُتبةً لا يُدانيها أيُّ مؤرِّخٍ مُعاصِرٍ عُلوًّا و سُمُوًّا، و خاصَّـة ما يتعلَّق مِن التاريخ بتراجِم الأعلام وأسمـاء الرِّجال الإسلامية؛ فهو يضبِطُ جملةً هائلةً منهم ضبطًا، ولا يكادُ يجهلُ منهم أحدًا إلا ما شاء الله، وإن كان هو نفسه لا يعد نفسَه مؤرخا، وهذا يكون صحيحا فقط إذا ما قارنّا إنتاجَه التاريخي بإنتاجه التحقيقي أو الحديثي، أما من حيث البضاعة فالأمر مختلف تماما لأنه -بناءً عليها- سيكون مؤرخا بلا ريب.
ولطالـمـا حدَّثني عنه الشيخُ الـمِفضال ذي الكرم والإحسان أبو محمد سعيد هرماس الذي حرص –مُذ أن تعرَّف على الشيخ بشَّار وانعقدت الصِّلـةُ بينهمـا قبل ما يزيدُ عن العقد مِن الزمن– على ديمومة التواصُل معه، ومُعاهدته بالسؤال عنه وعن حاله.. فحدَّثني –ولا زال يُـحدِّثني– مِن أخبارِ الشيخ بشَّار و فوائده ونُـكته و أخلاقه ما لا يزيدُني مع توالي الأيام إلا توقيرًا وإجلالاً له، ومِن صور تواضعه الذي ليس له حد أنَّ الشيخ أبا محمد كان كلما اتصل بالشيخ بشَّار بالهاتف ولم يرد عليه لسبب ما، عاد بشار لاحقا ليتصل بأبي محمد في أقرب فرصة ويعتذر له عن عدم رده، وكثيرا ما يعلق الشيخ أبو محمد على هذا الفعل بقوله متأسِّفا: “هذا بشَّار في الشرق يأبى في كل مرة إلا أن يُعيد الاتصال بي بنفسه ويعتذر وهو مَن هو في علمه ومنزلته! بينما عندنا في منطقتنا مِن المغمورين مَن لا يرد على اتصالي مُطلقا ويحسبُ نفسَه ذا شأن وهو مغمور!“.. ومنها ما ذكره الشيخ أبو محمد بقوله: “إنني على اتصال بالشيخ بشّار منذ شنوات طويلة، ووالله ما ناداني باسم مُجرَّدا قط، بل هو دائما يسبقه بكلمة (شيخ) أو (أستاذ)”.
فلله دُرُّ العلامة بشَّار عواد معروف مِن عالِـمٍ أبت عليه هِـمَّـتُه إلا أن تسمو به وتعلو ليُناطِـح العلمـاء الـمُعاصِرين الكِبار الذين انعقد رأيُ الأمة فيهم على إمامتهم الدينية والعلمية، فمـا أسعدَ حظَّنا إذ قد عاصرْنا رجلاً مثل بشَّار عواد معروف!