ثورة الشعوب العربية رهان خاسر

يتساءل الناس أين ثورة الجماهير التي كنا نراهن عليها إذا ما دخلت جحافل العدوان الأنجلو أمريكي للعراق؟ أين هذه الجماهير المزمجرة لماذا لم تحطم القيود وتكسر الأغلال وتنقذ العراق؟ لماذا لم تتحرك هذه الجماهير؛ وبغداد تسقط أمام أعيننا جميعاً؟!
أين شعارات الجماهير وصرخاتهم التي كانت تقول: الجهـ ا د الجهـ ا د.. لن نسكت.. لن نركع .. لن ترضى.. لن وألف لن؟!.
فمن قبل لم تفعل هذه الجماهير شيئاً للمسجد الأقصى الأسير على رغم قداسته فهل كان يرجى منها فعل شيء لإنقاذ مسجد أبي حنيفة في العراق؟!!
أمر محير ومفتت للأكباد بحق.. هل ماتت الأمة؟ لماذا صرنا إلى هذا الحضيض؟
ما السر في هذا الخذلان الذي صار سمة هذه الشعوب العربية والإسلامية؟
أمة تصفق لجلاديها وتخرج في تظاهرة كروية بصورة مخزية؛ وهم يلوحون بأعلامهم الخائبة لانتصار فريقهم المغوار!! أكثر مما تخرج في تظاهرة تندد بالعدوان على إخوانهم في فلسطين والعراق؟!.
من خلال هذه التقدمة نحاول أن نفهم سر هذا الذل وهذه اللامبالاة التي جعلتنا في ذيل الأمم: فعلى سبيل المثال نستطيع أن نفسر هذه الحالة على محورين:
أولاً: التاريخي والديني.
ثانيا: طبيعة القيادة (قيادة التظاهرات: دينية/حزبية/شعبية).
المحور الأول: التاريخي والديني:
هناك حادثتان في تاريخ الأمة تعتبران خطاً فاصلاً في قضية الخروج على الحكام الظالمين وهما:
الحادثة الأولى: (حركة التوابين) في العراق؛ وهم مجموعة من العلماء، والزهاد خرجوا بدافع التكفير عن ذنوبهم، وتفريطهم في الدفاع عن الحسين بن علي رضي الله عنه، وقالوا لأنفسهم لا توبة لكم إلا بقتل من قتل الحسين أو قتل أنفسكم وخاضوا معركة انتهت بهزيمتهم على أيدي الأمويين في منطقة عين الوردة سنة 65هـ
الحادثة الثانية: ثورة عبد الرحمن بن الأشعث في العراق أيضاً .. إذ كانت مدن كاملة مؤيدة لابن الأشعث وثارت معه جماهير غفيرة، وكان جيشه يقوده جماعة كبيرة من القراء وحفظة القرآن وأهل الصلاح.. وانتصروا على الحجاج بن يوسف في بعض المعارك.. لكنّ جلد الحجاج ودهاءه؛ رغم أنه مكروه جماهيرياً؛ استطاع في النهاية أن ينتصر عليهم في المعركة الحاسمة في دير الجماجم سنة 81هـ.
بعد هاتين الحادثتين رأى بعض علماء المسلمين منهم الحسن البصري عدم الخروج على الحكام والصير عليهم نظراً للخسائر الفادحة التي حلت بعوام الناس.. طبعاً تلقف الحكام هذه الفتوى وتبنوها وصارت لازمة لكل فقيه أن يؤكد على هذه قضية عدم الخروج على الحكام وعدم إثارة الفتن!
ومن هنا ظهر مذهب الإرجاء الذي كان في بدايته فقهياً محضاً إلى أن تبنته السلطة الحاكمة لتحقيق مآربها في استعباد الجماهير.. وتضخم هذا المذهب الإرجائي الذي يرى أنه لا يضر مع الإيمان معصية.. طالما الإنسان مؤمن فلا يضره أن يكون مقترفاً للذنوب والآثام فنهايته في الجنة.. إذن كان هذا المذهب هدية لهؤلاء الحكام لضمان عدم خروج الشعوب عليهم .. وانتشر هذا المذهب التخديري عبر العصور حتى صار السمة البارزة لجميع الحكومات التي تحكم الشعوب العربية والإسلامية تلك الحكومات التي هي أصلاً لا تطبق الشريعة الإسلامية.. لكنها تتمحك في هذا المذهب عندما تثور الجماهير عليها، وتخرج الفتاوى التي تحذر الجماهير، من مغبة الخروج على الحكام: فالحاكم المستبد الطاغية مطمئن حتى لو باع البلاد، والعباد وحول المآذن إلى مواخير!! فلا ضير عليه لأنه في نهاية الأمر سيدخل الجنة والرعية المغلوبة المقهورة..
لزام عليها السمع والطاعة وإلا ستكون خارجة عن الشريعة وشاقة لعصا الطاعة ومن ثم يجب محاربتها باسم الدين طبعاً.. وكان من جراء ذلك شيوع الأمثال الشعبية الانهزامية مثل: دع الملك للمالك.. خليك في حالك .. أنت ها تصلح الكون.. (أنا مالي)! .. هذه الأمثال وغيرها قد رسخت في ذهنية الجماهير جيلاً تلو جيل حتى صارت حجة عرفية لدى أي شخص تقول له هل توافق على ظلم الحكام! هل يرضيك العدوان على إخوانك في فلسطين؟! هل رأيت القنابل العملاقة وهي تسقط على أطفال العراق؟ أجابك بالحجة الدامغة: دع الملك للمالك!!!
ومن هنا نفهم سر تأميم السطات الحاكمة، لهذه المؤسسة الدينية حيث صارت العلاقة بينهما كعلاقة العبد بسيده! المؤسسة الدينية ذلك العبد المطيع الذي يفصل لسيده الحاكم الفتاوى حسب المزاج لتخدير الشعوب والرضا بالمكتوب باسم الدين!! لذلك يجب مكافحة هذه الحالة المزرية لعلماء الدين الذين يقودون أزمّة هذه الشعوب.. فتحرير هذه المؤسسة الدينية من رق العبودية لأنظمة حاكمة فاسدة تعمل ضد صالح هذه الأمة واجب شرعي.
المحور الثاني: (طبيعة قيادة التظاهرات( دينية/حزبية/شعبية):
قديماً قال الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم** في النائبات على ما قال برهانا
فهل فينا مثل الأحنف بن قيس الذي كان يغضب لغضبه مائة ألف ولا يسألونه لم غضب؟! لعلها تكون مدخلاً للعلاقة بين القيادة والشعب.. أقصد القيادة الشعبية لا قيادة السلطة ونطرحها على النحو التالي:
عدم ثقة الجماهير في القائمين على تنظيم هذه التظاهرات الشعبية فبعض هذه القيادات يملك حنجرة ثورية يهيج بها مشاعر المتظاهرين لكن نفس هذه الجماهير تعلم أن هذا القائد الذي يقودهم في تلك التظاهرة يتاجر باسمهم وهو مجرد كاتب تقارير للسلطة الحاكمة فصاحبنا متظاهر بالنهار.. وكاتب تقارير بالليل!! فكيف يطمئن الناس إلى هذه القيادات الفضائية!!
لكن هناك قيادات صالحة بحق تقود هذه التظاهرات لكن لا حول لها ولا قوة أمام بطش قوى الأمن وكتاب التقارير الذين يقفون معهم في نفس المنصة أو يهتفون معهم في الميادين العامة.
وهناك قيادات مترددة بحيث صار الحدث التاريخي أكبر منها ومن ثم فوتت فرصاً سانحة للجماهير المتعطشة لتغيير هذه الحكومات فعلى سبيل المثال:
موقف المستشار عبد القادر عودة:
- في مصر خرج المستشار عبد القادر عودة قائلاً لمئات الألوف من المتظاهرين: انصرفوا راشدين رغم أن النظام القائم كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط وكانت النتيجة قيام زوار الفجر بالقبض على آلاف الشباب ومحاكمة عبد القادر عودة واعدامه!
موقف الشيخ الزنداني في اليمن: - في اليمن خرج أكثر من مليون متظاهر مسلح وكان في إمكانهم أن يسقطوا الحكومة القائمة بأسرها لكن الشيخ الزنداني تدخل وصرف الجماهير.
جبهة الإنقاذ في الجزائر:
- في الجزائر نجحت جبهة الإنقاذ في الانتخابات ومنع الجيش وصولهم للحكم واندلعت تظاهرات عارمة لكن الجيش قمعها واستتب الأمن لزمرة منبوذة لشعب يكرهها.. فهنا تدخلت القوة الغاشمة وكانت لها الغلبة بسبب افراط قادة الإنقاذ في الثقة في صناديق الانتخابات.
ثورة 1919 تواطؤ بعض القيادات مع الإنجليز:
- تعتبر ثورة 1919 الأنموذج الأقرب إلى مفهوم الثورة بالمعنى الاصطلاحي لأنها كانت تضم معظم فئات الشعب والعدو ظاهر للعيان: الاحتلال الإنجليزي.. وقد خرجت من جامع الأزهر وقمعها الإنجليز بمنتهى السهولة بسبب تواطؤ بعض الزعماء مع السلطة القائمة سواء القصر أو الإنجليز.. فلو كانت هذه الثورة مسلحة وكانت عامة وبنفس الزخم في جميع أرجاء مصر وكانت تحت قيادة أمينة لطرد الإنجليز ولما ظلوا محتلين لأرض الكنانة إلى سنة 1956م.
السير أنتوني ناتنج عن ناصر ومحمد نجيب:
- ذكر السير أنتوني ناتنج وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في حكومة رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدين، وكان ناتنج صديقاً لجمال عبد الناصر في كتابه (ناصر) أن محمد نجيب المؤيد من الشعب سواء في مصر والسودان لم ينجح .. وناصر المؤيد من الجيش نجح.. والإخوان المسلمون استطاع ناصر أن يتنصر عليهم رغم شعبيتهم الجارفة.. إذن فأين هذه الجماهير التي تستطيع أن تقاوم السلطة المدججة بكافة أنواع الأسلحة!! معنى ذلك أن منطق القوة هو الأحسم للصراع وخاصة في ظل قيادة لم تكن نهازة للفرص المتاحة لهم فاللواء محمد نجيب كان ضعيف الشخصية متردداً وقيادة الإخوان كانت تسير على طريقة: بين بين!
هكذا غالباً ما تكون قيادة الجماهير سبباً في تفويت الفرصة في التغلب على الحكومات المستبدة أو تغييرها… تماماً مثلما يحدث من تظاهرات عارمة في باكستان حيث يظن المشاهد لهذه الجماهير وهي غاضبة أنها ستقلع الأخضر واليابس!! لدرجة أننا ظننا أنهم سيحررون أفغانستان من أيدي الأمريكان.. أو سيدمدمون القصر الجمهوري في إسلام آباد ويجعلونه قاعاً صفصفاً.. ويعلقون برويز مشرف الخائن على أعواد المشانق!! لم يحدث هذا ولا أقل من ذاك.. لكن الحقيقة أن هؤلاء البسطاء تستغلهم قيادة التظاهرات وهم مجموعة من العلماء والملالي باتفاق مع السلطة لمجرد التنفيس ليس إلا…!!تظاهرات 1977أو انتفاضة بمصر: - تظاهرات 1977 ضد الغلاء التي أطلق عليها السادات (انتفاضة الحرامية) حركها الشيوعيون وبعض القوى اليسارية.. ورغم أنها كانت تظاهرات عارمة ومنظمة وقوية ولم تفلح وزارة الداخلية في إخمادها.. وقد استخدم المتظاهرون طريقة حرب الشوارع والمدن من حرق إطارات السيارات ووضع متاريس في الشوارع وكادت القاهرة أن تسقط نهائياً في أيديهم غير أن الجيش دخل وقمع التظاهرات بوحشية وهدأ الأمر واستتب الأمن للحاكم الذي كان قد فر بطائرته إلى أسوان.. وجدير بالتنويه أن نقول: لو كانت معظم محافظات مصر ثارت على نفس هذه الطريقة وكانت هناك قيادة عامة آسرة ترفع شعارات تلامس عقيدة الشعب المصري ولم تكتف فقط بالتنديد بغلاء الأسعار لكتب لهذه الانتفاضة النجاح لكنها للأسف الشديد ضيقت واسعاً .. فكانت أشبه بثورة الأرز!
انتفاضة الأمن المركزي بمصر عام 1986 وموقف قيادات الجماعات الإسلامية وغيرها:
- انتفاضة الأمن المركزي وتمردهم على وزارة الداخلية في مصر وكادت أركان الدولة أن تقوض وكانت طائرة الرئيس مبارك على أهبة الاستعداد للطيران من قصر العروبة إلى دولة عربية قيل المملكة المغربية ومنها إلى أمريكا مباشرة.
ونزل الجيش ولم تستثمر هذه الفوضى أية حركة إسلامية أو قومية أو وطنية معارضة للنظام .. وكان في إمكان أي جماعة أو تنظيم قوي أن يستولى على الدولة والملفت للنظر هنا أن الجماهير لم تتلاحم مع هذه الانتفاضة رغم سرورهم بذلك ولم تستطع أية حركة أن تجيش الجماهير لإسقاط النظام.. لدرجة أن عساكر الأمن المتمردين لما فتحوا السجون ومنها سجن ليمان طرة وفيه كبار قادة الجماعة الإسلامية والجهاد.. قالوا لهم: اخرجوا يا مشايخ السجن مفتوح!
جلس القادة يتشاورون هل يجوز الخروج من السجن أم لا… تخيل الحرية أمامهم!! وظلت الأبواب مفتحة وهرب الحراس!! وقادة الحركة الإسلامية الجهادية يتشاورون! حتى هدأ الوضع واستتب الأمن للسلطة التي عارضوها وخرجوا عليها ثم جاء السجان وأغلق عليهم الأبواب مرة أخرى ولم تفتح إلى يومنا هذا!!
وبعد هذه الحادثة استفاد النظام المصري من تجربته، ومن ثم توحش وأحكم قبضته على البلد بديمومة قانون الطوارئ الأبدي والمحاكم العسكرية، وقوانين الإرهاب وخصخصة قطاعات الدولة لصالح القوى الصهيوأمريكية، وصار النظام المصري يعمل عمل (أبي رغال) يسهل الطريق للقوات الأمريكية لابتلاع الدول العربية دولة بعد أخرى!!
صفوة القول
بعد هذا التطواف السريع حول عينة من هذه الأحداث آنفة الذكر استبان لنا قصور في القيادة التي تقود هذه التظاهرات سواء؛ من الإسلاميين أو القوميين أو التيارات الأخرى!. وإلا كيف يفسرون لنا ما حدث؟!؛ نظام مكروه من شعبه، جاثم على حريته يفعل بهم الأفاعيل!!؛ ورغم ذلك لم تستطع قيادة هذه المعارضة أن تحرك هذه الجماهير!!.. فأين الخلل إذن؟! هل العيب في الشعب أو في هذه القيادات أو في كليهما معاً؟!
المصدر مركز المقريزي للدراسات التاريخية
26 صفر 1424هـ ـ 28 إبريل 2003