التعادل والترجيح بين الأدلة 16- خاتمة

لقد ذكرت في البداية أن هذا البحث سيكون في التعادل والترجيح بين الأدلة من القرآن والسنة فقط، وقد يرى البعص أنه كان يجب أن أتكلم عن تعارص الأقيسة، أو تعارض باقي الأدلة المختلف فيها كالاستحسان، وشرع من قبلنا، ومفهوم المخالفة، والمصالح المرسلة؛ وكما ذكرت في البداية أن هذا موضوع صعب على كثير من طلبة العلم، وربما لا يشغل ذهن كثير من الناس، حتى من بعض طلبة العلم، ولعل البعض يقول: ما الذي يعنينا في ذلك، إنما يعنينا الحكم الشرعي.
لكن هذا البحث فيه فوائد عديدة:
أولاً: يُطلِع الأخوة الأفاضل على طُرق الترجيح والجمع بين الأدلة، وكيفية اعتماد الراجح وتقديمه في الاستدلال.
ثانياً: أن الأدلة الشرعية كثيرة وقد يبدو للبعض أنها متعارضة، فأحببنا أن نزيل هذا التعارض، ونبين طريقة العلماء في ذلك.
ثالثاً: أن المتعرض للإجتهاد والكلام على الأدلة لابد أن يكون على دراية بالمعارض ، وكيفية دفع التعارض، وكيفية الجمع، ويعلم الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، ودلالة الأمر، ودلالة النهي، وعلى علم باللغة العربية، ودلالات الألفاظ، حتى لا يستدل بدليل منسوخ، أو مرجوح، أو يستدل بعام على حكم مخصوص.
رابعاً: بطلان ادعاء البعض بأننا لا نحتاج إلى المذاهب، وأن علينا اتباع الدليل، وليس أقوال العلماء.
خامساً: أن كثيراً ما يستدل به يوجد له معارض يحتاج إلى جمع أو ترجيح، وهذا بدوره يحتاج إلى علم بطرق الجمع والترجيح.
لعل الجميع الآن أدرك أن هذا درب شاق، وطريق صعب، وليس في استطاعة كل إنسان أن يتَّبِع الدليل ويستنبط هو الحكم، ويعرف هل لدليله معارض أم لا، وإذا وَجَدَ معارضاً كيف سيجمع أو يرجح، ولا بد أن يعرف الناسخ والمنسوخ حتى لا يستدل بدليل منسوخ، كما أن عليه أن يعرف أسباب النزول، لأنها توضح المعنى المراد، وعلوم أخرى كثيرة، ليس في استطاعة كثير من طلبة العلم الإلمام بها، فضلاً عن العوام.
بل إن كثيراً من الذين ينادون باتباع الدليل وترك أقوال الفقهاء، ليس لديهم كل هذه العلوم، فهم يخوضون بحراً لا يحسنون السباحة فيه، وأقولها بصدق ما رأيت أحداً ممن ينادي باتباع الدليل وترك المذاهب إلا وهو يتبع مذهب الحنابلة، عَلِمَ بذلك أم لم يعلم، فهم يَدْعُون إلى ترك المذاهب واتباع الدليل، فإن وافقتهم أَمْلُوا عليك دليل الحنابلة.
وهم يفترضون أن كل الناس يجب عليهم الاجتهاد وليس التقليد، ولو كان زعمهم هذا صحيحاً لكان واجباً مع الاستطاعة، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن 16]ولقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة 286]ولقوله صلى الله عليه وسلم: “فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» (متفق عليه من حديث أبي هريرة)
والغريب أنهم ينكرون على الناس اتباعهم مذاهب الأئمة الأربعة، رغم اتفاق أهل العلم على جواز ذلك بالإجماع، ثم يقلدون هم من لا يجوز تقليده، ولو كانت الدعوة إلى معرفة الحكم بدليله، لكانت دعوة مقبوله لمن يستطيع فهم الدليل، وليست في حق العوام؛ ولعلي أعيد نشر ما كتبته في ذلك أيضاً، أقصد التقليد والإجتهاد، وهو أيضاً مبحث من مباحث أصول الفقه.
أما الآن فأذكر بعض الكتب المصنفة في الموضوع الذي انتهينا منه.
فقد صنف أهل العلم كتباً في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وجمعوا بينها بما يزيل التعارض الحادث في ذهن القارئ سواء كان عالماً أو طالب علم.
مثال ذلك كتاب الإمام الشافعي ت 204هـ: مختلف الحديث.
كما صنف ابن قتيبة الدينوري ت 276هـ كتابا سماه: تأويل مختلف الحديث.
وابن فورك ت 406هـ مشكل الحديث وبيانه.
وهناك مصنفات كثيرة في هذا الباب لا نطيل بذكرها.
كذلك فقد صنف بعض أهل العلم فيما يُشْكَل من القرآن على القارئ فيظنه تعارض.
ككتاب ابن قتيبة الدينوري ت 276 هـ تأويل مشكل القرآن.
وقال الأئمة لا يجوز لأحد أن يفسر القرآن وهو لا يعلم الناسخ والمنسوخ، وقال علي بن أبي طالب لقاضٍ: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا . قال: هلكتَ وأهلكتَ.
وقد صنف في الناسخ والمنسوخ من القرآن جَمعٌ من العلماء منهم القاسم بن سلام ت 224هـ، وأبو داود السجستاني ت275هـ، وأبو جعفر النحاس ت 338 هـ، وابن الأنباري ت 360 هـ.
وللحازمي كتاب رائع سماه: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار.