التعادل والترجيح بين الأدلة (15)الترجيح بين الأخبار

الحالة السابعة الترجيح بأمر خارجي
المراد بالأمر الخارجي أن ينضم إلى أحد الخبرين المتعارضين مرجح لايرجع إلى ذات الخبر، بل يرجع إلى أمر خارج عن الخبر نفسه، فهو غير المرجحات السابقة، التي ترجع إلى الخبر نفسه، كسنده أو متنه أو حكمه. (الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 216، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب 3/ 394)
وهذا الترجيح يكون بأمور منها:
1- أن يكون أحد الخبرين موافقا لدليل آخر أو أكثرمن كتاب أو سنة أو قياس فيقدم لمعاضدة الدليل الآخر له على الخبر الآخر الذى لا يوجد له هذه القوة، ولِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ. (بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب 3/ 394، قواطع الأدلة في الأصول 1/ 407، اللمع في أصول الفقه للشيرازي ص85)
وقد اختلف العلماء في الترجيح بهذا على رأيين: (الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 216، نفائس الأصول في شرح المحصول 9/ 3765).
أ. يرجح الدليل الذي يقويه دليل آخر، وهذا مذهب الجمهور. (الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 216، نفائس الأصول في شرح المحصول 9/ 3765)
فقد ذهب الشافعي ومالك وجمهور العلماء إلى أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة واستدلوا بأن الدليل المعارض لغيره أفاد ظناً، والدليل الموافق له لا بد أن يفيد ظناً آخر غير الظن الذي أفاد الدليل الأول، فيؤخذ حينئذ ظنان، الظن الذي أفاد الدليل الأول المعارض لغيره، والظن الذي أفاد الدليل الثاني الموافق له، ولا شك أن الظنين أقوى من الظن الواحد، والعمل بالأقوى واجب لأنه أقرب إلى القطع. (مختصر التحرير شرح الكوكب المنير 4/ 634، الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 216، شرح تنقيح الفصول ص420)
ولأن العمل بالدليل الموافق لدليل آخر، وإن أفضى إلى مخالفة مقابله وهو دليل واحد، فالعمل بمقابله يلزم منه مخالفة دليلين، والعمل بما يلزم منه مخالفة دليل واحد، أولى بما يلزم منه مخالفة دليلين.
والذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب تغليب الظن تلويحاً فهو مرجح على الآخر، ومجرد التلويح لا يستقل دليلاً فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحاً أولى. (البرهان في أصول الفقه 2/ 192)
ب. لا يرجح بكثرة الأدلة وهو مذهب جمهور الحنفية (الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 216، شرح التلويح على التوضيح 2/ 233، التقرير والتحبير علي تحرير الكمال بن الهمام 3/ 236)
واحتج الحنفية بأن كثرة الأدلة لو كانت سببا للرجحان لكانت الأقيسة المتعددة مقدمة على خبر الواحد إذا عارضها، وليس الأمر كذلك.
وأجاب الشافعية بأن أصل تلك الأقيسة إن كان متحداً وهذا كما قيل في معارضة ما روى من قوله عليه السلام: “أحلت لنا ميتتان السمك والجراد” السمك الميت حرام قياساً على الغنم الميتة، وعلى الطائر الميت، والبقر والإبل والخيل، بجامع الموت في كل ذلك، فتلك الأقيسة حينئذ تكون أيضا متحدة، وتكون قياساً واحداً لا أقيسة متعددة، لوحدة الجامع، فإنها لا تتغاير إلا أن يعلل حكم الأصل في قياس منها بعلة أخرى، وتعليل الحكم بعلتين مختلفتين ممنوع ، فيكون الحق من تلك الأقيسة واحداً، وإذا قدمنا عليها الخبر لم يكن قد قدمناه إلا على دليل واحد، وإن لم يكن أصلها متحداً بل متعدداً فلا نسلم تقديم خبر الواحد عليها (الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 216)،
حجة المنع: القياس على المنع من الترجيح بالعدد في البينات فإن المشهور المنع منه بخلاف الترجيح بمزيد العدالة.
والجواب: بأن الترجيح بكثرة العدد يمنع سد باب الخصومات. (شرح تنقيح الفصول ص420)
مثال للترجيح بكثرة الأدلة: حديث ” لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ ” (أخرجه الأربعة وأحمد) يُقَدَّمُ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ “لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ” (أبو داود والنسائي وابن حبان)؛ الحديثان متعارضان لأن الأول يفيد عدم صحة النكاح مطلقاً إلا بولي، بينما الثاني يفيد بظاهره عدم احتياج الثيب إلى الولي في نكاحها، فيقدم الحديث الأول، لِأَنَّ الحديث الْأَوَّلَ يُؤيدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ” الْحَدِيثَ (أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد).
وقد ذهب الجمهور إلى هذا الرأي، فلا يصح عندهم عقد النكاح إلا بولي. (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص 17)
2- ترجيح أحد الخبرين المتعارضين إذا وافق عمل الخلفاء الراشدين الأربعة. (العدة في أصول الفقه 4/ 1161، التمهيد في أصول الفقه 3/ 220، التحبير شرح التحرير 8/ 4212)
لحث النبي صلى الله عليه وسلم على متابعتهم والاقتداء بهم (حديث العرباض بن سارية مرفوعاً. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه عنه أبو داود وابن ماجة في مقدمة سننه وأخرجه أحمد والحاكم في مستدركه)
ويرى البعض عدم الترجيح بذلك. (التحصيل من المحصول 2/ 72، نهاية الوصول في دراية الأصول 6/ 2598، نفائس الأصول في شرح المحصول 6/ 2723)
مثال: (حديث التكبيرات في العيدين)، قدمنا خبر من روى سبعاً؛ لأنه عمل به أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم على الخبر الآخر أربع (التمهيد في أصول الفقه 3/ 220)
أَوْ لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّ الْخُلَفَاء الرَّاشِدينَ أَكْثَرُ صُحْبَةً، (بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب 3/ 394)
3- أن يكون أحد الخبرين عمل به الأئمة فيكون أولى، لأن عملهم به يدل على أنه آخر الأمرين وأولاهما، (قواطع الأدلة في الأصول 1/ 407، اللمع في أصول الفقه للشيرازي ص85)
4- الترجيح بموافقة عمل أكثر السلف: فإذا كان أحد الخبرين المتعارضين يوافق عمل أكثر السلف قدمناه على غيره، لأن الأكثر أولى بالحق وأوفق للصواب، ويرى آخرون ان هذا لا يصلح مرجحاً، لأنه لا حجة في قول الأكثر ولا في عملهم، ولا يجب تقليدهم. (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول 2/ 272، المعتمد 2/ 182، المحصول للرازي 5/ 442، الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 237، نهاية السول شرح منهاج الوصول ص388)
وقد رجح الشوكاني هذا الرأي ، لأن الحق في كثير من المسائل قد يكون مع القلة، وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ الْقِلَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول 2/ 272)
5- وَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ بِالتَّعَرُّضِ لِعِلَّتِهِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي لَمْ يُتَعَرَّضْ لِعِلَّتِهِ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي تُعُرِّضَ لِعِلَّتِهِ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ لَهُ أَقْبَلُ بِسَبَبِ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى. (بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب 3/ 394)
6- إذا اقترن أحد الخبرين المتعارضين بتفسير الراوي بفعله أو بقوله فإنه يقدم، ويكون مرجِّحاً، على ما ليس كذلك، لأن الراوي للخبر يكون أعرف بما رواه، ويكون الحكم فيه أوثق فيعمل بالأقوى (نهاية السول شرح منهاج الوصول ص377)
7- إذا عمل بأحد الخبرين أهل الحرمين فيكون أولى لأن عملهم يدل على أن الشرع استقر عليه الشرع وورثوه، ويدل أنهم دونوه عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قدمنا رواية الإفراد على رواية التثنية فى الإقامة. (قواطع الأدلة في الأصول 1/ 407، اللمع في أصول الفقه للشيرازي ص85)
8- الترجيح بِعَمَلِ الْأَعْلَمِ عَلَى غَيْرِهِ، فالْأَعْلَمُ أَحْفَظُ بِمَوَاقِعِ الْخَلَلِ وَأَعْرَفُ بِدَقَائِقِ الْأَدِلَّةِ. (بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب 3/ 394)
9- يُرَجَّحُ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ عَلَى دَلِيلِ التَّأْوِيلِ الْآخَرِ. (بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب 3/ 394)
هذا آخر ما أردنا ذكره من باب التعادل والترجيح بين الأدلة، وقد أكتفينا فيه بأدلة القران والحديث فقط، ولم نتعرض للترجيح بين الأقيسة وغيرذلك؛ والله الهادي إلى الصواب.