قراءة نقدية في كتاب “الخلافة وتطورها إلى عصبة أمم شرقية” للدكتور عبدالرزاق السنهوري (1)

التعريف بالكاتب
ولد عبدالرزاق السنهوري (1895-1971) في محافظة الإسكندرية، التحق بمدرسة الحقوق العالية بالقاهرة وحصل على الليسانس في الحقوق في 1917 وعمل معاونا للنيابة العامة في المنصورة قبل أن ينتقل إلى تدريس الفقه المقارن في مدرسة القضاء الشرعي.
سافر إلى مدينة ليون الفرنسية في 1921 وحصل على درجة الدكتوراة في 1925 عن رسالة أعدها بإشراف المستشرق الفرنسي إدوارد لامبير كان عنوانها “القيود التعاقدية على الحرية الفردية للعمل في القضاء الإنجليزي” ثم أنجز رسالته “الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية” تحت إشراف لامبير وحصل بها على درجته الثانية للدكتوراة في 1926.
بعد عودته من فرنسا اشتغل مدرسا للقانون المدني في كلية الحقوق بالجامعة المصرية، كما مارس المحاماة لفترة؛ وفي 1936 نشر بحثاً في مجلة القانون والاقتصاد بعنوان “وجوب تنقيح القانون المدني المصري وعلى أيّ أساس يكون هذا التنقيح” دعا فيه إلى تنقيح القانون المدني المصري وفقا للمنهجية العلمية التي كان اقترحها في أطروحته في “الخلافة وتطورها” والقائمة على الاستفادة من منهج القانون المقارن بحيث يتم الإرتقاء بالشريعة الإسلامية إلى مستوى القانون الغربي.
وفي أذار 1936 تم تشكيل لجنة لهذا الغرض، عُيّن السنهوري عضواً فيها ولكنها لم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر،ثم تم تشكيل لجنة ثانية في تشرين الثاني 1936 للغرض ذاته، ولكن تم حلها في أيار 1938 قبل أن تُكمل عملها، ثم طالب السنهوري بتشكيل لجنة تنحصر عضويتها عليه وعلى استاذه المستشرق الفرنسي إدوارد لامبير، المدرّس في كلية الحقوق المصرية حينها، وتمت الموافقة على اقتراحه، فقام بمعية لامبير بإنجاز تنقيح القانون المدني المصري وتم إقراره كقانون من البرلمان في 1948.
فأصبحت نسخة القانون المدني المصري أساساً انطلق منه السنهوري في صياغة القانون المدني في كل من العراق وسوريا وليبيا والكويت والجزائر وقطر وفلسطين والبحرين.
ما جعل البعض يطلق عليه لقب “أبو الدساتير المدنية”. كما كان له عشرات الأبحاث القانونية. شغل منصب وكيل وزارة المعارف أربع مرات،وعين بعد ذلك رئيسا لمجلس الدولة لمدة 5 سنوات، ومع أنه أيد انقلاب يوليو 1952 إلا إنه اصطدم مع مجلس الثورة ففُصل من مجلس الدولة ومُنع من العمل السياسي.
التعريف بالكتاب
الكتاب كُتب باللغة الفرنسية ونشرَتْه دار جوتنير في باريس في 1926، وقام د. توفيق الشاوي وزوجته د. نادية عبدالرزاق السنهوري بترجمته إلى العربية(صدرت النسخة الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1989 والنسخة التي نشير إليها هنا هي الطبعة الثانية 1993).
ولكن الترجمة شابتها ملاحظات، ذكرها د. سمير تناغو (ن 15)، تمنع اعتمادها نصاً أساسياً في استعراض الكتاب، ووجدنا أن الترجمة التي نشرها مركز نهوض للدراسات والنشر، طبعة بيروت 2019، هي أدق من ترجمة د الشاوي (نرمز إليها لاحقا ب ش)، ولكن لا تخلو من شوائب سنشير إليها في موضعها، فنعتمد في هذه القراءة على نسخة مركز نهوض (نشير إليها ب ن)، فأرقام الصفحات المذكورة تعود إلى طبعة ن، وحيث أمكن نستفيد من حواشي وتعقيبات ترجمة د. الشاوي.
وحيث لزم الأمر نعود إلى الأصل الفرنسي وهي طبعة دار جوتنير باريس 1926. مع الإشارة إلى أن نسخة مركز نهوض تضمنت دراسة تحليلية قرابة 50 صفحة للدكتور علي فهد الزميع انتصر فيها لطروحات السنهوري، لن نتناولها في هذه المناقشة خشية الإطالة من جهة ولكون مناقشة كتاب السنهوري تكفي.
أهمية الكتاب
تأتي أهمية الكتاب من الدور المحوري الذي قام به د. عبدالرزاق السنهوري في صياغة القانون المدني في مصر ابتداء ثم استنساخه في كثير من الدول العربية، هذا القانون المدني تم البدء بصياغته ليكون “قنطرة” عبور إلى تطبيق الشريعة في ظل الخلافة التامة، كما زعم السنهوري، ولكنه أدى في الواقع إلى طمس الشريعة وتغييبها.
كما أن السنهوري قدم فذلكة فقهية عن نظام الحكم في الإسلام قام آخرون، منهم د. محمد عمارة و د. محمد مختار الشنقيطي ود. توفيق الشاوي على سبيل المثال لا الحصر، باعتماده نموذجاً صالحاً للواقع المعاصر، وتستند هذه الفذلكة الفقهية إلى منهج الشيخ رشيد رضا والشيخ محمد عبده في “تطوير” الفقه الإسلامي ليوافق مقتضيات الحضارة المعاصرة، فمناقشة الكتاب، كما سيمر معنا، هي أيضا مناقشة لهذا المنهج الذي انتشر في أوساط كثيرة من العاملين للإسلام.
اقرأ: كيف تحولت عدن من جنة الدنيا إلى سلخانة موت؟!!
مناقشة أهم طروحات السنهوري
أ -سند وجوب الخلافة: السنهوري يشكك في وجود نصوص من الكتاب والسنة على وجوب الخلافة
1- يرى السنهوري أن أهل السنة يرون أن سند وجوب الخلافة هو الإجماع (ن83).. وهناك فريق أضاف إلى الإجماع مصادر أخرى من الكتاب والسنة (ن84)… وإن بدا أن هذا الرأي لم يكن راجحاً”؛ ويورد ملاحظة أوردها لامبير بأن علماء الكلام برروا الحجية التي منحت للإجماع بالاعتماد على أحاديث منسية (oublies بالنص الفرنسي الأصل وليس كما جاء في ترجمة ن بأنها أحاديث غير مشهورة) وأن الإجماع بحد ذاته يكشف عن وجود هكذا أحاديث.
ويعتذر السنهوري عن عدم وجود أحاديث صريحة تفيد بوجوب إقامة الخلافة بالقول:”يبدو لنا أن ثمة إمكانية وجود سند (لوجوب الخلافة) من أحكام القرآن و كذلك من السنة التي تُذكر أحيانا(!) كأساس مباشر لوجوب الخلافة”(ن84)، ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك!
2- بعد أن يذكر الحديث “الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكا عضوضاً” يستغرب السنهوري (ن 198/ ش 209) ورود كلمة الخلافة في الحديث، “حيث لم يُعرف لقب الخليفة إلا بعد وفاة النبي، وأنه كان يستخدم كلمة إمامة للدلالة على الحكومة الإسلامية بعده”؛ و مع أنه (ن84) نقل الحديث الذي ذكره التفتازاني “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”، ولم يخرّج الحديث، علما أن هذا الحديث فيه مقال، فقد قال الشيخ ناصر الدين الألباني فيه (سلسلة الأحاديث الموضوعة 4/42)”لا أصل له، وقد قال ابن تيمية: والله ما قاله رسول الله ﷺ هكذا وإنما المعروف ما رواه مسلم “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.
ومع ذلك شكك السنهوري في دلالة “إمام زمانه” على وجوب الخلافة، إذ عقّب قائلا: ويفسر الخيّالي كلمة الإمام لغوياً على أنها النبي”، ثم يحيل إلى كتاب الشيخ رشيد رضا “الخلافة” قائلا: “ويأخذ رشيد رضا على الفقهاء عدم ذكر أحاديث تدل على وجوب الخلافة.
وفي الحقيقة تُعتبر الآيات والأحاديث التي تم إيرادها في هذا غير متصلة تحديداً بنوع معين من الحكم يمثّل الخلافة بخصائصها الثلاث ولكنها تكتفي بوجوب إقامة حكومة للأمة الإسلامية “.
وهذه صيغة تمريض تكاد تخلص إلى نفي وجود من النصوص ما يدل على وجوب الخلافة. وهذا الطرح هو تكرار لما سبق أن قاله علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) : “وليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن أيضا قد تركتها ولم تتعرض لها، ويدلك على هذا أن العلماء لم يستطيعوا أن يستدلوا في هذا الباب بشيء من الحديث ولو وجدوا لهم في الحديث دليلا لقدموه في الاستدلال على الإجماع..” وقد قام العلماء يومها بالرد الكافي لدحض أوهام علي عبدالرازق.
3- والواقع فموقف السنهوري هو شبيه بموقف الشيخ رشيد رضا في كتابه الخلافة (18)، ففي بحثه لـ “حكم الإمام ونصب خليفة” أحال رشيد رضا الوجوب إلى إجماع الصحابة ولم يستند إلى القرآن ولا السنة، بل عقّب على ما أوردهالسعد التفتازاني في متن مقاصد الطالبين بقوله: “وقد غفل هو وأمثاله عن الاستدلال على نصب الإمام بالأحاديث الصحيحة الواردة في التزام جماعة المسلمين وإمامهم، وفي بعضها التصريح بأن “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ” رواه مسلم”.
واكتفى رشيد رضا بهذا الحديث اليتيم للدلالة على وجوب نصب الخليفة برغم وجود حشد من الأحاديث التي تنص على وجوب نصب الإمام ومبايعته وطاعته وحرمة تعدد الخلفاء؛ ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به”، وما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة قال: “قال رسول الله ﷺ: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم” ، وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ:”إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما “، فكيف يشكك السنهوري بكلمة الخلافة؟ علما بأنه (ن 198) أورد الحديث “الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً عضوضاً”!!
4- بنقل السنهوري (ن84) “ويذكر ابن حزم في هذا الموضوع (الدلالة على وجوب الخلافة) الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) كما أشار إلى أن هناك العديد من الأحاديث تأمر بطاعة الأئمة دون أن يذكر أيّاً منها”.وهذا انتقاء مخل يكشف عن غرض مُبيّت عند الكاتب، وكان حريّاً به، وهو في معرض البحث عن الأدلة الشرعية على وجوب الخلافة أن ينقل ما قاله ابن حزم قبل أسطر قليلة مما اقتطعه، نورده هنا لفائدة القارئ:” اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله ﷺ، حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد.
وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه”. ويريد السنهوري، كما الشيخ رشيد رضا من قبله، بحصر (أولي الأمر منكم) بأنهم أهل الحل والعقد التمهيد لنظريته عن الإجماع، التي سنتناولها لاحقا، وهذا زَعْم سبق أن ردده علي عبدالرازق في تعقيبه على الاية:” وغاية ما يمكن إرهاق الآيتين به أن يقال إنهما تدلان على أن للمسلمين قوما ترجع إليهم الأمور..”. بينما ذكر كثير من رجال التفسير الأعلام أن المراد بأولي الأمر هم الخلفاء والأمراء، ومنهم الإمام الطبري والإمام القرطبي وغيرهما.
5- إذا رجعنا إلى المحلى بالآثار لابن حزم نجد أنه ، تحت كتاب الإمامة المسألة 1773 ، 1774، 1775 (م 8/ 420) أورد طائفةً من الأحاديث للدلالة على وجوب نصب الخليفة، منها، بالإضافة إلى الحديث “ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية”، ما رواه مسلم (8/ 422) عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول ” إنه سمع رسول الله ﷺ يقول في حديث طويل: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليُطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، ومن طريق مسلم عن عرفجة – هو ابن شريح – قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه»، وما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :قال رسول اللهﷺ «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».
وما رواه مسلم عن أبي هريرة يحدّث عن النبي ﷺ أنه قال:«إنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» (المحلى، 8/423) فكل هذه الأحاديث لم يطّلع عليها السنهوري، ولم يجد غير حديثاً واحداً، لا أصل له، يفيد وجوب إقامة الخلافة! ولم يُعنّي الشيخ رشيد رضا نفسه بذكر بعض هذه الأحاديث.
6- فالسنهوري أرجع وجوب الخلافة إلى الإجماع، وأعرض عن نصوص الآيات القرآنية وعن الأحاديث الصريحة التي تدل على وجوب إقامة الخلافة لغاية في نفسه، ولم يتوانى عن القول بأن النبي ﷺ “تغاضى عن مسألة محورية تتعلق بنظام الحكومة الإسلامية بعد وفاته” (ن 244) يريد بذلك الوصول إلى القول أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبيﷺ قاموا بصياغة نظام حكم بناء على اجتهادهم البشري وليس باتباع الهدي النبوي، وهذا يصادم ما هو معروف من الدين بالضرورة أن الرسول ﷺ قد بلّغ الوحي كاملا وان الله سبحانه قد أتم نعمته على المسلمين ولم يترك الوحي الرباني، في الكتاب والسنة، من صغيرة ولا كبيرة إلا وبيّن حكمها، ولم يترك الناس هملا في تيه وجهالة!

تعليق واحد