بدعة الإبراهيميَّة: الباطنيَّة الجديدة تحت قناع ‘‘وحدة الأديان’’ (11 من 12)

لم يجد داعية الدُّرزيَّة المعاصر كمال جنبلاط حرجًا في الطَّعن الصَّريح في القرآن الكريم في كتابه الممسوخ، الَّذي يُسمَّى المصحف المنفرد بذاته، في استئناف لمسيرة هدْم الإسلام الَّذي بدأها سلفه حمزة بن عليّ بن أحمد، مؤسّس الفرقة الضَّالة فارسي الأصل. يقول جنبلاط عن القرآن، كما ينقل عنه الخطيب (صـ281):
لقد ضلَّ الَّذين جحدوا الحكمة واتَّبعوا فرية صُحف اكتتبوها، فهي قبلة آبائهم، يتلونها بكرةً وعشيًّا، وقالوا هذا من عند الله المعبود…وقال الَّذين كفروا منكم إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وعليه وجدنا آباءنا، قل لو كنتم على الهدى لآمنتم به، لكنَّكم لا تعلمون غير ما تهواه أنفسكم، وأنتم تجهلون، نحن أعلم بما في أيدكم ونحن المنزلون. لقد ضلَّ الَّذين يريدون أن يحكموا بالقرآن، ويتَّخذوه سبيلًا، ثمَّ به يكفرون بعد أن تبيَّن لهم الحقُّ، قل أليس الحقُّ أحقَّ أن يتَّبع؟
نصل إلى انقسام مجتمع الدُّروز إلى قسمين أساسيين، روحاني وجثماني. أمَّا القسم الرَّوحاني، فهو الَّذي يستأثر بأسرار الفرقة، ومنه عقلاء ورؤساء وأجاويد؛ وأمَّا الجثماني، فهو معني بالأمور الدُّنيويَّة، ومنه أمراء وجهَّال. يحتفظ فريق العقلاء من الدُّروز بأسرار وغيبيَّات تتعلَّق بعقيدة الفرقة، وهم يعقدون اجتماعاتهم الخاصَّة، الَّتي يطلقون عليها اسم الخلوات، ولا يُسمح للجُهَّال بحضورها كاملةً؛ بل يقتصر حضورهم على سماع المواعظ والأحاديث الدّينيَّة، بينما يبقى تبادُل أسرار الفرقة منحصرًا في طائفة العقلاء. ويرتبط بالنّظام السّرّي للخلوات عقيدة السّرّيَّة والكتمان، وهي عقيدة ترتبط بالفرقة منذ نشأتها، وهي مأخوذة من الأصل عن الإسماعيليَّة، الَّتي أخذتها بدورها عن الفلسفات اليونانيَّة القديمة. كما سبقت الإشارة، لا يؤمن الدُّروز بالأنبياء جميعًا، ويعتبرونهم أبالسة تحدَّث الشَّيطان الأكبر على ألسنتهم؛ من هنا، لا يؤمن هؤلاء بأيّ كتاب سوى ما يطلقون عليه كتاب الحكمة، أو رسائل الحكمة، المكوَّن من 111 رسالة، تعود لأكبر دعاة الفرقة، وعلى رأسهم حمزة بن علي بن أحمد والمنتقي بهاء الدّين ومحمَّد بن إسماعيل التَّميمي.
أمَّا عن موقف الإسلام من ضلالات الدُّروز، فيكتفي د. محمَّد الخطيب بالإشارة إلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (جـ35، صـ161):
كفار باتّفاق المسلمين، لا يحلُّ أكْل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم؛ بل ولا يقرون بالجزي؛ فإنَّهم مرتدُّون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين؛ ولا يهود ولا نصارى؛ لا يقرون بوجوب الصَّلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحجّ؛ ولا تحريم ما حرَّم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما. وإن أظهروا الشَّهادتين مع هذه العقائد، فهم كفَّار باتّفاق المسلمين.
الأصول الباطنيَّة لفرقة النُّصيريَّة
نشأت فرقة النُّصيريَّة في القرن الثَّالث للهجرة، على يد محمَّد بن نصير النُّميري، وهو من غلاة الشّيعة الاثني عشريَّة، وقد سُمّيت الفرقة نسبة إليه. لا تختلف النُّصيريَّة عن فِرق الإسماعيليَّة والقرامطة والدُّروز؛ حيث تشترك معها في الاعتقاد في تجسُّد الإله في ناسوت بشري، وفي تناسُخ الأرواح، وكذلك في التَّأويل الباطني للقرآن الكريم. كان ابن نصير النُّميري من معاصري الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر في تسلسُل أئمَّة آل البيت النَّبوي عند الشّيعة الاثني عشريَّة، واعتبر نفسه الباب للإمام الثَّاني عشر، محمَّد المهدي الَّذي تزعم الفرقة وجوده، في غيبته والمحتفظ بأسراره. وتقوم عقيدة تلك الفرقة الضَّالَّة على تأليه الإمام عليّ بن أبي طالب، الَّذي يدَّعون أنَّ روح الإله حلَّت عليه منذ القِدم، وهو بذلك خالق النَّبيّ مُحمَّد (ﷺ)، الَّذي خلَق بدوره سلمان الفارسي، الَّذي خلَق الصَّحابي المقداد بن الأسود، والَّذي يعتقد دعاة الفرقة أنَّه خالق النَّاس أجمعين؛ ومن هنا يطلقون عليه ربَّ النَّاس. وفي محاكاة لعقيدة الثَّالوث المقدَّس عند المسيحيين، يؤمن أتباع النُّصيريَّة بثالوث مكوَّن من النَّبيّ مُحمَّد (ﷺ)، ويُرمز له بحرف الميم؛ والإمام عليّ بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه)، ويُرمز له بحرف العين؛ والصَّحابي الجليل سلمان الفارسي، ويُرمز له بحرف السّين (رضي الله عنه وأرضاه).
وكما يزعم محمَّد بن شعبة الحرَّاني، وهو أحد دعاة النُّصيريَّة، في كتابه الأصيفر، أحد أهمّ مصادر عقيدة الفرقة، فإنَّ الإله تجلَّى في ناسوت عليّ بن أبي طالب؛ ليُظهر في شخص عليّ المعجزات وينطق بالحكمة، تقرُّبًا إلى البشر وهدايةً لهم. يُذكر أنَّ تلك الحجَّة هي ذاتها الَّتي برَّر بها الدُّروز حلول الإله في ناسوت الحاكم بأمره، وهي ذاتها حجَّة المسيحيين في تأليه يسوع النَّاصري. وليس بمستهجن استناد الحرَّاني إلى تأويل باطني لقول الله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة الزُّخرف: 84]، في الاستدلال على تجسُّد الإله وحياته تجربة البشر. ويسوق د. محمَّد الخطيب أكذوبة يردّدها أتباع الفرقة لإثبات ألوهيَّة عليّ، وهي من اختلاق الحسين بن حمدان الخصيبي، أحد دعاة الفرقة، وهي (صـ343):
لمَّا أراد مولانا (علي) إظهار قدرته عند ذاتيته، وقام سلما جلَّ وعزَّ، مثلما قام اسمه، وقال: ‘‘يا سلمان تعرفني’’، وقد ظهر له بالصُّورة الهاشميَّة العلويَّة، قال: ‘‘نعم، أنتَ لا إله إلَّا أنتَ الأزل القديم ربّي وربّ الخلائق أجمعين’’، ثم ظهر له بصورة الحسن وسائر الصُّور الإماميَّة الَّتي ظهر بها الميم، فكان كلَّما ظهر المولى لسلمان بصورة من الصُّور يقول له: ‘‘‘يا سلمان تعرفني’’، يقول: ‘‘نعم يا مولاي، أنتَ لا إله إلَّا أنتَ، أنتَ الأزل’’، ويسجد عند كلّ ظهور سجدة حتَّى سجد اثنتي عشرة سجدة، وكان كلَّما سجد سجدة أنحله حرفًا؛ فتمَّت اثني عشر حرفًا لاثنتا عشرة سجدة، وهي حروف لا إله إلَّا الله، وهي واقعة على مُحمَّد وعليّ وسلمان…
ويؤكّد محمَّد بن شعبة الحرَّاني في الأصيفر على اشتراك عليّ مع الله تعالى في الألوهيَّة، بأنَّ لعليّ النَّاسوت ولله تعالى (حاشاه أن يكون له شريك) اللاهوت، حيث يقول، نقلًا عن الخطيب (صـ344):
اسم الله وقَع على اللاهوت، واسم عليّ وقَع على النَّاسوت، وعليٌ هو الله، والله هو عليٌ؛ لأنَّ ذلك النَّاسوت عُرف باسم، كما عُرف بالنَّاسوت كلُّ مخلوق باسم.