بدعة الإبراهيميَّة: الباطنيَّة الجديدة تحت قناع ‘‘وحدة الأديان’’ (9 من 12)

يكرّر عبيد الله المهدي استهزاءه بالحُكم الشَّرعي الَّذي يحرّم البنات والأخوات على الرّجال، مصداقًا لقول الله تعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ [سورة النّساء: 23]، ويعتبر أن ذلك التَّحريم من قلَّة العقل، ويراه قيدًا فرَضه النَّبيُّ (ﷺ) على المسلمين دون داعٍ. ومن التَّجاوزات الصَّارخة للقرامطة، بعد إباحة الفواحش والمنكرات واستباحة أجساد المحارم، تعطيل صلاة الجمعة والجماعة وإباحة عدم الصَّوم، كما يذكر الرَّحَّالة الإسماعيلي ناصر خسرو عمَّا رآه في الإحساء، وهي منطقة تقع شرقي شبه الجزيرة العربيَّة كانت جزءً من إمارة البحرين زمن القرامطة، وينقل عنه سامي العيَّاش في الإسماعيليون في المرحلة القرمطيَّة (1979م)، مضيفًا أنَّ لحوم القطط والكلاب والحمير كانت تُباع، إلى جانب لحوم البقر والخراف (صـ243-244). ويعلّق الخطيب على ذلك بقوله إنَّ القرامطة إنَّما أرادوا النَّيل من الإسلام من خلال الانقلاب على أحكامه وتحدّيها، مستغلّين ضعْف نفوس أتباعهم، ولم تكتفوا باستباحة الأعراض، بل استباحوا كذلك الأموال بزعم تحقيق العدالة في توزيع الثَّروات، وفي ذلك ما يذكّر بإشاعة اليهود لمبادئ الشُّيوعيَّة في العصر الحديث، بزعم إعادة تنظيم المجتمعات بما يتَّفق مع متطلّبات زمن الحداثة، بينما هدفهم هو الاستيلاء على أموال الشُّعوب وإقصار امتلاكهم على المؤسَّسات الرَّسميَّة؛ لضمان خضوع الشَّعوب لسُلطان اليد الخفيَّة الَّتي تحكم العالم من وراء السّتار.
نشأة فرقة الدُّروز وأصل عقيدتهم
لا تختلف فرقة الدُّروز عن فرقة القرامطة في أنَّها من فروع الإسماعيليَّة المستقلَّة عنها، والمختلفة عنها في بعض العقائد، وإن اتَّفقت معها في الجوهر. ويتمركز أتباع فرقة الدُّروز في الشَّام، في منطقة الشُّوف شمالي لبنان؛ وفي منطقة جبل الدُّروز جنوبي سوريا؛ وفي منطقة هضبة الجولان الحدوديَّة بين فلسطين وسوريا؛ وفي شمال فلسطين. نشأت فرقة الدُّروز في القرن الخامس للهجرة، الموافق للقرن الحادي عشر للميلاد، على يد المعمَّم الشّيعي فارسي الأصل محمد بن إسماعيل نشتكين الدُّرزي، الَّذي ينتمي إلى منطقة بخارى في أوزبكستان، وقد لُقّب بالدُّرزي، الَّتي تعني الخيَّاط بالفارسيَّة، على أغلب الظَّن. أمَّا عن نشأة الفرقة، فكانت قبيل قدوم محمَّد بن إسماعيل نشتكين إلى مصر، وقتئذ كانت خاضعة لحُكم الدَّولة الفاطميَّة، وتحديدًا في عهد أبي عليّ المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي، الَّذي عُرف بلقب بالحاكم بأمر الله، ثمَّ أطلق هو على نفسه الحاكم بأمره، بعد أن ادَّعى الألوهيَّة. كانت الفرقة قد تأسَّست بالفعل على يد الخرساني حمزة بن علي بن أحمد عند قدوم محمَّد بن إسماعيل نشتكين إلى مصر، ولكنَّها خضعت على يد الأخير لتطوُّرات جذريَّة، حيث كان أوَّل من أدخل فرية تجسُّد الإله في صورة البشر وأيَّد تأليه أبي عليّ المنصور؛ ممَّا أشعل العداء بينه وبين حمزة بن علي بن أحمد على زعامة الفرقة. وبعد صراعات ومناوشات، نجح حمزة بن علي بن أحمد في قتْل محمَّد بن إسماعيل عام 1020م تقريبًا.
أمَّا عن سبب تأسيس حمزة بن علي بن أحمد لفرقة الدُّروز المستقلَّة عن الإسماعيليَّة، فكان عدم رضا بعض أتباع الفرقة عن الكثير من عقائدها وأفكارها؛ فأرادوا تكوين عقيدة إيمانيَّة جديدة تعبّر عن فكرهم. وبرغم احتلال أبي عليّ المنصور، أو الحاكم بأمره، مرتبة الإمامة في فرقة الدُّروز، ما يعني أنَّه ممثّل العقل الأوَّل أو الإله وفق عقيدة الإسماعيليَّة، فقد لقيت فكرة تأليهه رفضًا من حمزة بن علي بن أحمد، المؤسّس الأصلي للفرقة. وبقي موقف أبي عليّ المنصور من تأليهه غامضًا؛ فقد رأى البعض ترحيبه به، بدليل تغيير لقبه من الحاكم بأمر الله إلى الحاكم بأمره؛ بينما ادَّعى آخرون رفْضه لذلك، بدليل أنَّه لم يحمِ محمَّد بن إسماعيل نشتكين من خصمه وقاتله، حمزة بن علي بن أحمد، بل ويُقال إنَّ الحاكم بأمره هو الَّذي أمَر بإعدام محمَّد بن إسماعيل بسبب غلوّه.
بوجه عام، عُرف عن الحاكم بأمره الانحراف الفكري والاضطراب الذّهني؛ حيث اعتاد على إصدار أوامر بتحريم بعض الأمور، ثمَّ يُبعها بأوامر أخرى تبيحها؛ كما اعتاد على تصفية معارضيه من الخدم والكتبة، خاصَّةً قبيل إعلان ألوهيَّـته. وبخلاف السَّبب المذكور من قبل لنشأة الفرقة، هناك مَن يرى أنَّ نشأة فرقة الدُّروز يرجع إلى تأسيس الحاكم بأمره مركزًا لدعاة الإسماعيليَّة أطلق عليه ‘‘دار الحكمة’’، جمَع فيه عددًا من الملاحدة المنتمين إلى الفرقة الشّيعيَّة الضَّالَّة ممَّن اقتنعوا بفكرة تأليهه، كما يذكر محمَّد عبد الله عنان في الحاكم بأمر الله وأسرار الدَّعوة الفاطميَّة (1937م). وقد ذكر المؤرّخ المصري ابن تغري بردي في كتابه الشَّهير النُّجوم الزَّاهرة في ملوك مصر والقاهرة عن الحاكم بأمره وفترة خلافته ما يؤكّد تناقُض تصرُّفاته وعدم اتّزانه الفكري، لدرجة اتّهام البعض له بالجنون (جـ4، صـ176-177):
وكانت خلافته متضادّة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبّة للعلم وانتقام من العلماء، وميل الى الصَّلاح وقتل الصُّلحاء. وكان الغالب عليه السَّخاء؛ وربّما بخل بما لم يبخل به أحد قطّ. وأقام يلبس الصُّوف سبع سنين، وامتنع من دخول الحمَّام؛ وأقام سنين يجلس في الشَّمع ليلًا ونهارًا، ثمّ عنّ له أن يجلس في الظُّلمة فجلس فيها مدَّة. وقتل من العلماء والكتَّاب والأماثل ما لا يحصى؛ وكتب على المساجد والجوامع سبّ أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزّبير ومعاوية وعمرو بن العاص (رضى الله عنهم).
وقد أجمع أبو يعلي القلانسي في ذيل تاريخ دمشق وغريغوريوس الملطي في تاريخ مختصر الدُّول وأبو الطَّاهر أحمد بن محمَّد السَّلفي في تأريخه لفترة حُكم الحاكم بأمره أنَّ ذلك الحاكم كان فظًّا غليظ القلب، سليط الّلسان، سفَّاك للدّماء، مؤذيًّا لأهل الذّمَّة، وإن شُهد له بالكرم والجود على الفقراء. ويذكر محمَّد عبد الله عنان في الحاكم بأمر الله وأسرار الدَّعوة الفاطميَّة (1937م) أنَّ الحاكم بأمره كان يفتعل بعض الأزمات لإراقة الدّماء؛ لبثّ الرُّعب في قلوب الرَّعيَّة، وإجبارهم على استرحامه وطلْب العفو منه. أمَّا عن موقفه من الذّميّين، فكان الملاحقة والإيذاء، في صورة تعطيل أعيادهم الدّينيَّة، والأمر بتهديم بيوت العبادة الخاصَّة بإقامة شعائرهم، ونهْب أموالهم؛ ممَّا دفع كثيرين منهم إلى دخول الإسلام، هربًا من بطْش الحاكم المتجبّر، خاصَّة بعد أن فُرض عليهم ارتداء ملابس معيَّنة تميّزهم عن المسلمين، كما يروي عبد الله عنان (1937م). وكما سبق القول، دأب الحاكم بأمره على سبّ الصَّحابة الكرام وبعض أمَّهات المؤمنين، واتَّخذ موقفًا غريبًا، ومتناقضًا أحيانًا، من شعائر الإسلام، بأن منَع صلاتي الضُّحى والتَّراويح ثمَّ أمَر بإعادتهما، كما ألغى جمْع الزَّكاة. وممَّا يروى عن تصرُّفات الحاكم بأمره غير المعقولة أنَّه تصوَّف في إحدى فترات حياته؛ فأطال شعره، وامتنع عن قصّ أظافره، والتزام بارتداء ملابس سوداء.
اعتقاد الدُّروز في ألوهيَّة الحاكم بأمره
هذا، وبعد ذلك التَّحوُّل في حياة الحاكم بأمره، بدأت الدَّعوة الجهريَّة إلى اتّخاذه إلهًا على يد محمد بن إسماعيل نشتكين عام 408ه تقريبًا، ويشير د. محمَّد الخطيب إلى أنَّ حمزة بن علي بن أحمد والحسن بين حيدرة الفرغاني، وكلاهما من دعاة الإسماعيليَّة مثل نشتكين، أيَّدا تلك الخطوة، على عكس ما يرويه بعض المؤرّخين عن معارضة حمزة بن علي لتأليه الحاكم بأمره. ويعلّق الخطيب على نشأة الفرقة المنحرفة بقوله إنَّها “قامت على أيدي دعاة الفُرس ومَن كان على شاكلتهم، الَّذين كانوا يقدّسون ملوكهم، ويؤمنون بنظريَّة الحقّ الملكي المقدَّس” (صـ208). وقد أبان الخطيب في كتابه عقيدة الدُّروز: عرْض ونقْد (1980م) أنَّ سبب قتْل محمد بن إسماعيل نشتكين الدُّرزي، بتدبير من حمزة بن عليّ، لم يكن إلَّا لتسرُّع الدُّرزي في الجهر بمبادئ الفرقة وانحرافه عن تلك المبادئ لاحقًا عند دعوته إليها في بلاد الشَّام. تخلَّص حمزة بن علي من الحسن بين حيدرة الفرغاني هو الآخر؛ فأصبحت السَّاحة خالية أمامه ليتزعَّم الفرقة الضَّالَّة ويخلع على نفسه ألقابًا، منها ‘‘هادي المستجيبين’’ و ‘‘قائم الزَّمان’’ و ‘‘العقل’’، باعتباره نبيَّ الحاكم بأمره. ويفسّر الخطيب (1984م) ميل الحاكم بأمره إلى تأليه نفسه كما يلي (صـ212):
الحاكم تولَّى مقاليد الحُكم وهو صغير السّنّ، وقد أحيط بهالة خاصَّة ممَّا أسبغته العقيدة الإسماعيليَّة على أئمَّتها، فتأثَّر بهذه العقائد، إلى جانب أنَّه رأى حاشيته ورعيَّته يسجدون له كلَّما مرَّ بهم، فشاء طموحه أن يكون إلهًا مثل الملوك الأقدمين، من الفراعنة، واختمرت هذه الفكرة في نفسه، ولكنَّه لم يعلنها للنَّاس، ولعلَّه أسرَّ بها إلى بعض الدُّعاة حوله، فتسابقوا إلى إشباع نزواته وتنميتها مع مرور الزَّمن. والشَّيء المؤكَّد إذًا أنَّ السّياسة الَّتي اتَّبعها الحاكم كانت مقرَّرة، ليُفهم من أفعاله أنَّه الخالق، وأنَّه هو المحيي المميت، والرَّازق الوهَّاب، إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى، وصفاته الجلي، فها هو الحاكم بأمر الله يسرف في القتل ليُقال عنه: أنَّه مميت، ويرزق النَّاس ويهبهم ليُقال: أنَّه رزَّاق وهَّاب، ويعفو عمَّن يستحق القتل ليُقال: أنَّه محيي.
ويشير د. محمَّد الخطيب إلى أنَّ عقيدة فرقة الدُّروز تنبني في الأصل على ألوهيَّة الحاكم بأمره، بوصفها حقيقة لاهوتيَّة لا يمكن للحواسّ إدراكها، ولا يمكن للعقل تكوين رأي عنها. وكما يرصد د. أحمد كامل حسين في كتابه طائفة الدُّروز: تاريخها وعقائدها (1962م)، فإنَّ اعتقاد الدُّروز في لاهوتيَّة البشر نابعٌ من عقيدة الإسماعيليَّة في تقديس الأئمَّة واعتبارهم تجسيدًا للإله وصورة للعقل الأوَّل المبدع. لا يعني ذلك أنَّ الدُّروز يعتقدون في حلول الإله في جسد بشري، إنَّما في احتجابه عن العامَّة باتّخاذه صورة البشر من خلال اختيار ناسوت يعبّر الإله من خلاله عن عقيدة الإيمان به للعامَّة. وتشير ‘‘الرّسالة المرسومة بكشف الحقائق’’ لحمزة بن علي بن أحمد إلى ذلك، كما ينقلها الخطيب (صـ224):
أنتم جميع المسلمين واليهود والنَّصارى، تعتقدون بأنَّ الله عزَّ وجلَّ خاطَب موسى بن عمران من شجرة يابسة، وخاطَبه من جبل أصمّ، وسمَّيتموه كليم الله لمَّا كان يسمع من الشَّجرة والجبل، ولم ينكر بعضكم على بعض، وأنتم تقولون أنَّ مولانا جلَّ ذكْره يملك أرباب ألوف كثيرة ما لا يُحصى ولا يُقاس فضيلته بفضله، شجرة أو حجر، وهو أحقُّ أن ينطق الباري على لسانه، ويُظهر للعالمين قدرته منه، ويحتجب عنهم منه. إذا سمعنا كلام مولانا جلَّ ذكْره قلنا: قال الباري سبحانه: كذا وكذا؛ لا كما كان موسى يسمع من الشَّجرة هفيفًا قلنا: سمعتُ من الله كذا وكذا، وهذه حُجَّة عقليَّة لا يقدر أحدهم ينكرها…فالَّذي يعقل ويفهم أحقُّ أن يكون حجاب الله ممَّن لا يعقل ولا يفهم، وكيف يجوز للباري سبحانه أن يحتجب في شجرة ويخاطب كليمه منها، ثمَّ تُحرق الشَّجرة ويتلاشى حجابه سبحانه الإله المعبود عمَّا يصفون…لكنَّه سبحانه أظهر لنا حجابه الَّذي هو محتجب فيه، ومقامه الَّذي ينطق منه ليُعبد موجودًا ظاهرًا، رحمةً منه لهم، ورأفةً عليهم.