مختارات

الجدل وقواعد النظر الموضوعي كما يرسمها القرآن

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب

يعتبر الجدل أداة معرفية استخدمها الإنسان منذ بدء فهم التصورات والاختلاف على هذه التصورات العقلية ولقد قال سبحانه وتعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (سورة الكهف الآية 54)، الآية تثبت أن الجدل لا ينفك عن الإنسان في الغالب، فهو في معظم حياته يجادل من يختلف معه للوصول إلى اثبات تصوره الصحيح.
لذلك لم يكن الإسلام بعيدا عن مفهوم الجدل من حيث التقعيد له ،وضبط قواعده ومنهجه حفاظاً على الجدل العلمي الموضوعي الذي يعتبر أداة معرفية يصل العقل من خلالها لتصويب مفاهيمه وتصوراته من خلال الجدل والحوار مع الآخر.
أما الحاجة إليه فهي في الدعوة إلى الدين الحق وإقامة الحجة على الخلق. والحاجة بشكل أخص مع أولئك الذين يحتاج إليه معه وليس مع كل أحد، إذ تسبقه وتتقدمه الحكمة والموعظة الحسنة. والخالق سبحانه يعلم أن من الناس من يبقى متردداً، أو متشككاً في الحق الذي جاءت به النبوة الخاتمة، أو أنه يكون معانداً جاحداً له؛ مع وضوح دلائله وصفاء مصادره، فهذا الذي يدعى بالجدل.
أما شكل هذا الجدل وصفته فهو ليس بالجدل الذي قعد له اليونان، أو مارسه وفق هواه وشهوته أي إنسان، وإنما هو شكل مختلف وإن تشابهت الأشكال، ووصف معين وإن تقاربت الأسماء، إنه باختصار، وكما عبر عنه كتاب ربنا جل شأنه بأوجز لفظ وأجزل عبارة (بالتي هي أحسن)، وذلك في قوله تعالى: ادْعُ إلى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظةِ الْحَسَنةِ وَجَادِلْهُمْ ِبالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. (سورة النحل: آية: 125). وإذا تصفحنا القرآن الكريم وقرأناه وجدنا فيه قصة وبيانا متعلقا بالمجادلات التي دارت بين أشخاص، وأمم ودون ذلك كثير، وكلها لأجل خدمة الإسلام وإخضاع الناس لرب الناس.
وهذ المقال المتواضع يهدف إلى محاولة الإسهام في تجلية مفهوم الجدل العلمي الموضوعي الذي يطرحه القرآن.

تابعنا في تويتر

أما الجدل من حيث هو علم، فقد عرفه بعض العلماء بأنه “علم باحث عن الطرق التي يُقْتَدَرُ بها على إِبراٍم وَنقْض، وهو من فروع علم النظر “. والمقصود إبرام أي وضع أُريد وَنقْضِ أي وضع كان. بمعنى أن هذا العلم يقتدر به على حفظ أي وضع يريده المجادل، حتى ولو كان باطلاً، وهدم أي وضع يريد هدمه، حتى ولو كان حقا.
قال النووي ـ رحمه الله ـ:” الجدل والجدال والمجادلة: مقابلة الحجة بالحجة، وتكون بحق وباطل، وأصله: الخصومة الشديدة، ويسمى جدلا؛ لأن كل واحد منهما يحكم خصومته وحجته إحكاما بليغا على قدر طاقته تشبها بجدل الحبل، وهو إحكام فتله “.
وعرفه حسن حبنكة: بأنه “حوار كلامي يتفهم فيه كل طرف من الفريقين المتجادلين وجهة نظر الآخر، ويعرض فيه كل طرف منها أدلته، التي رجحت لديه استمساكه بوجهة نظره ثم يأخذ بتبصر الحقيقة من خلال الانتقادات التي يوجهها الطرف الآخر لأدلته، أو من خلال الأدلة التي يبين له بها بعض النقاط التي كانت غامضة عليه “. هذا هو تعريف الجدل عند العلماء. ويظهر في هذه التعريفات أثر المعنى اللغوي للجدل، فقد سبق أن الجدل هو المفاوضة على سبيل المنازعة، ولا شك أن كلا المتفاوضين يعرض أدلته التي ترجح رأيه وتدعمه، ويحاول أن يظهر معتقده بأية وسيلة كانت، ليثني صاحبه عن رأيه، ويفحمه ويلزمه بما يريد.

تابعنا في فيسبوك


والحديث حول الجدل في القرآن الكريم وحسن بيانه ومنهجه والأسس التي يقوم عليها، لا تكتمل صورته الا بالنظر في المناهج العالمية والنظريات المعرفية في الجدل لأن الأشياء تُعرف بأضدادها كما يرى المناطقة، لذلك يمكننا التعرف على مناهج الجدل في العقل الغربي والغوص في النظريات التي تبنتها، والتي كانت سببا في تكوين العقل الغربي لمفهوم الجدل اليوم ولأهمية المنهج السفسطائي والديالكتيك في العقل الغربي القديم والمعاصر الذي شكل وجوده أساسا لكثير من المناهج الأوربية في الجدل؛ لذلك سنلقى الضوء على ملامح هذه المناهج والبعد الفلسفي الذي قامت عليه.
يصف أفلاطون منهج السفسطائية القائم على الزخرفة والاستعراض البلاغي والبياني، وأنه غاية عند السفسطائيين ويضيف استخدامهم للأسطورة لجذب التلاميذ يقول “ونلاحظ وجود تنافس بين السفسطائيين الثلاثة على جذب الأنظار إليهم، يعني تلاميذ جدداً وحظاً أوفر من الأجر، وهم من أجل هذا يستخدمون كل ألوان الدعاية الممكنة، ويشبهون بالفعل”.
وهكذا يصورهم أفلاطون “أنهم كالتجار الذين يعرفون كيف يعرضون سلعهم في الأسواق، ويبرزون عضلاتهم ليجتمع من حولهم المشاهدون، وعضلات السفسطائيين من كلمات، وأذرعتهم من الألسن وساحاتهم هي ساحات النقاش، وأسلحتهم البرهنة والخطبة والأسطورة كذلك”.
وذهبت المدرسة السفسطائية بمفهوم الجدل أكبر من ذلك لمناقشة المغالطات السفسطائية، كأغلوطة ” الكذب” التي تنسب إلى” أربليس” ومفادها ان الانسان إذا كذب وقالاني كاذب فهو صادق أم كاذب، وإذا كان الجواب إنه صادق فكيف كذب إذا؟ وإذا كان الجواب إنه كاذب فماذا عن اعترافه بالكذب، وكيف يمكن أن يكون بالتالي صادقا وكاذباً في آنٍ معا، وغيرها من الأغاليط السفسطائية التي انتشرت في المنهج الجدلي.
إذن فنحن على مستوى جدل لغاية الجدل ذاته، فالبعد الفلسفي للجدل عند السفسطائيين هو عدم وجود الحقيقة الواحدة وان الحقيقة نسبية وتختلف بين شخص وآخر، ولعلنا نتساءل هنا ما الفائدة للجدل بهذا المعنى السفسطائي الذي مارسته المدرسة اليونانية. التصور الغربي بملامحه السابقة يجعلنا نسلط الضوء ومن خلال نفس المنطلقات التي استوعبنا بها ومن خلالها الجدل الغربي المرتبط بالديالكتيك والسفسطائية للنظر في مفهوم الجدل القرآني في ضوء الواقع والفكر وانعكاس كل منهما على الآخر في الفهم القرآني. فعلى الصعيد النظري كانت الغاية من الجدل القرآني الوصول للحقيقة اليقينية الثابتة، وأولى هذه الحقائق اثبات وجود الله سبحانه وتعالى وصولاً لأثبات التوحيد، لذلك مارس الجدل القرآني البراهين والأدلة وطرق الاستدلال الصحيح التي ساقها للمخالفين في الرأي، فالبعد النظري للجدل القرآني هو إثبات الحقائق اليقينية لا تداول الجدل للوصول إلى جدل آخر للوصول إلى الكمال كما ترى الديالكتيك، أو لغايات الاستعراض اللغوي والأساليب في اثبات الاحتجاج فقط كما ترى السفسطائية، لذلك استخدم القرآن الكريم من خلال الجدل سياق الأدلة والبراهين لأنها لا تقبل الظن قال تعالى: (….قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) فالقرآن الكريم بمنهجه العلمي استخدم الجدل للوصول للحقائق من خلال البرهان والدليل الحسي والعقلي، ولا يقبل الجدل القائم على الدور والتسلسل اللامتناهي نظريا وواقعياً، فالغاية في الجدل القرآني هي الوصول لليقين، لذلك سلك القرآن كل ما يتصوره العقل من الطرق والبراهين والوسائل والبيانات لإثبات الحق.
ومن جانب آخر استطاع الجدل القرآني توجيه العقل في الجانب الغيبي (الميتافيزيقي ) ، وبين أن جميع المناهج قاصره عن أدراك هذا الجانب وتوظيفه في الجانب الجدلي وأن الوحي هو المصدر الوحيد في ذلك وهذا ما وصلت إليه الفلسفة الغربية الحديثة ، يقول “أمانويل كانت” الفيلسوف الألماني في مقدمة كتابة ” نقد العقل المحض”: وليس في وسع العقل أن يقدم إجابات شافيه في مسائل الميتافيزيقيا ، وخلق العالم والروح لأن قدرته كلها دون ذلك . وهذا يؤكد شمولية الجدل القرآني في مجال المعرفة في (عالم الغيب وعالم الشهادة): فمجال عالم الشهادة هو الإيمان بالمحسوس فجاء الجدل القرآني يتطرق إلى هذا الجانب ويشبعه من الناحية الاستدلالية، وكذلك جاء الجدل القرآني وغذى المجال الغيبي هو الإيمان بالا محسوس، الذي افتقرت إلية المناهج الغربية القديمة والمعاصرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى