ثقافة وأدب

أسمع جعجعة ولا أرى طِحْنًا

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب



رغم اختفاء النسق الطللي من حياتنا الأدبية منذ وقت غير قصير بتأثير الشعراء والنقاد التجديديين فقد سمعت من أحد النقاد تعليقا على ما كتبته الشاعرة العراقية نازك الملائكة عن الظروف التى نظمت فيها قصيدتها فى الكوليرا عام 1947م حين تفشت فى مصر وحصدت مئات الأرواح، إذ قالت إنها كانت مرتبكة فى البداية لَدُنْ نظمها تلك القصيدة بخصوص الشكل الفني الذى ينبغى أن تخرج فيه، ثم ختمت كلامها فى ذلك الموضوع بأنها تركت بيتها ولجأت إلى بيت كان تحت الإنشاء، ولم يكن هناك عمال يعملون فيه فى ذلك اليوم لأنه يوم جمعة، فوفر لها السكون والهدوء اللازمين فى مثل تلك الظروف مما كانت تفتقده فى بيتها، وبقيت هناك إلى أن انتهت من تلك القصيدة فى جلسة واحدة.

تابعنا في فيسبوك


وكان تعليق الناقد المذكور على القصيدة وما صنعته صاحبتها فى ذلك اليوم حين نظمتها هو أن الشاعرة قد استعادت، حين التجأت إلى البيت الخالى الهادئ المجاور لبيت أسرتها، الحالة الشعرية التى كان يقصد بعض الشعراء القدامى دخولها، وأن مسلكها ذاك يمثل توثيقا للعودة إلى الحالة الشعرية التراثية، وبخاصة حالة الوقوف على الطلل، وأن هذا لا يتنافى مع البيت الذى لجأت إليه، إذ كان بيتا تحت الإنشاء، فهو قريب من البيت الطللي فى مظهره الناقص، فضلا عن خلوه من البشر فى ذلك اليوم كما أشرنا، وهو ما يوازى خلو الطلل من البشر، وأن هذا المظهر البيئي للطلل التراثي قد تحول إلى مظهر اجتماعي بفعل الرحيل والافتراق الذى يباعد بين الأحباب والأصدقاء، وأن الطلل قد صعَّد من مظهره الاجتماعي ليكون حالة نفسية ممتلئة بالحنين والشوق والحزن، وهو ما حوله إلى طقس إبداعي شبه مقدس يبدأ به الشاعر قصيدته.


لكن هناك بضع ملحوظات على ما جاء فى هذا الكلام: فأولا كانت قصيدة الكوليرا هي أولى قصائد التفعيلة لدى شاعرتنا العراقية. وقصائد التفعيلة أبعد ما تكون عن الشعر القديم الذى تبتدئ كثير من قصائده المدحية بالذات بالوقوف على الأطلال. كما أن الطلل هو عبارة عن بقايا بيت كان قائما يعج بالحياة ثم انتقل عنه أصحابه فقوضوا خيامهم ومضوا فى الصحراء العريضة وخلفوه للوحشة والوحش، ومر الشاعر بالمكان المهجور الموحش الذى كانت تملؤه حبيبته حياةً وأنسًا وبهجةً أيامَ كانا يعيشان فيه مع قبيلتيهما فأثار فى نفسه الأحزان واللوعات، أما البيت الذى التجأت إليه الشاعرة العراقية فهو بيت فى سبيله إلى النهوض والارتفاع لا طلل خرب لأنه كان تحت الإنشاء. أى أنه كان يسير فى عكس اتجاه الطلل.

تابعنا في تويتر

وقد لجأت إليه الشاعرة عامدة متعمدة هروبا من ضجة بيتها ونشدانا للهدوء والسكون والسكينة لبعض الوقت حتى تنتهى من نظم قصيدتها ثم تعود إلى بيتها مرة أخرى فى دقيقة أو دقيقتين، ولم تكن مارة به مصادفة فى سفرها عبر الصحراء المتناوحة. وهو فوق ذلك كان لصق بيت أسرتها، فلم تكن حين خلت بنفسها فيه تشعر بوحشة ولا حزن ولا تؤودها الذكريات، بل كان تفكيرها يدور حول ضحايا الكوليرا فى مصر. وهذا أمر أبعد ما يكون عن الحب والنسيب كما هو واضحٌ بَيِّنٌ لا يحتاج إلى برهان.


وإذا كان الطلل الصحراوي يمثل الوحشة والانقطاع فإن البيت المذكور يقوم وسط العمران المدني حيث لا وحشة ولا انقطاع. وهذه سمة فارقة أخرى بين الطلل الصحراوي وبين ذلك البيت الحضري. وفوق هذا ليس هناك أحباب رحلوا عن المكان، بل أناس ينتظرون إكمال البيت لينتقلوا إليه ويقيموا فيه. كذلك فكلام نازك الملائكة عن البيت الذى كان تحت الإنشاء لم يرد فى القصيدة التى نظمتها، بل ورد فى ذكرياتها التى سطرتها عن ذلك الموضوع فيما بعد. والوقوف على الأطلال، ذلك الذى يسميه الزميل: “الطقس المقدس”، وما هو بمقدس كما رأينا وتَيَقَّنّا، ليس كلاما يقال خارج القصيدة بل هو جزء أصيل من القصيدة ذاتها. دعنا من أنه أول تلك الأجزاء.

اقرأ: الممارسات الاستبدادية في حياتنا ودورها في إعاقة الأمة

ثم إن الوقوف على الأطلال معناه أن القصيدة بناء متعدد الأغراض، بينما قصيدة الكوليرا تقتصر على موضوع واحد من أولها إلى آخرها. وأخيرا فإن الوقوف على الأطلال اختصاص رجالى حتى إنى “لا أذكر” امرأة وقفت على الأطلال، اللهم إلا ما كان من إشارة ليلى الأخيلية إلى ذلك من بعيد فى قصيدة يتيمة لها، وكانت الإشارة تذكرا لأهلها لا لحبيبها، وهى القصيدة التى قالتها فى مديح مروان بن الحَكَم:
طَرِبْتُ وما هذا بسَاعَةِ مَطْرَبِ
إلى الحى حَلّوا بَيْنَ عاذٍ فجُبْجُبِ

قَدِيمًا فأَمْسَتْ دارُهُمْ قَدْ تَلَعَّبَتْ
بِها خَرَقاتُ الريحِ من كُلِّ مَلْعَبِ

وكَمْ قَدْ رَأَى رائِيهِمُو وَرَأَيْتُهُ
بِها لِى مِنْ عمٍّ كَرِيمٍ ومِنْ أَبِ

فَوارِسُ مِنْ آلِ النَّفَاضَةِ سادَةٌ
ومِنْ آلِ كَعْبٍ سُؤْدَدٌ غَيْرُ مُعْقَبِ

ثم ها هي ذي نازك الملائكة بنفسها تبدى رأيها فى مقدمة ديوانها: “شظايا ورماد” الصادر عام ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين من الميلاد تجاه الوقوف على الأطلال وكل ما يتعلق بالشعر العربى القديم من وزن وقافية ومعان وعبارات وألفاظ، فتقول: “ألم تصدأ هذه اللغة لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين وسنين؟ ألم تألفها أسماعنا، وترددها شفاهنا، وتَعْلِكها أقلامنا، حتى مَجَّتْها وتقيأتها منذ قرون، ونحن نصف انفعالاتنا بهذا الأسلوب حتى لم يعد له طعم ولا لون؟ لقد سارت الحياة، وتقلبت عليها الصور والألوان والأحاسيس، ومع ذلك ما زال شعرنا صورة لـ”قِفَا نَبْكِ” و”بانتْ سعادُ”، والأوزان هي هي،والقوافي هي هي، وتكاد المعانى تكون هي هي!ويقولون: ما للغة؟ وأية ضرورة إلى منحها آفاقًا جديدة؟ فينسَوْن أن اللغة إن لم تركض مع الحياة ماتت. والواقع أن اللغة العربية لم تكتسب بعدُ قوةَ الإيحاء التى تستطيع بها مواجهة أعاصير القلق والتحرق التى تملأ أنفسنا اليوم. لقد كانت يومًا لغة موحية تتحرك وتضحك وتبكى وتعصف، ثم ابتليت بأجيال من الذين يجيدون التحنيط وصنع التماثيل”.


ثم تمضى متهمةً الشعرَ العربى القديم كله بأنه شعر لا يصف سوى المظاهر الخارجية. وهو رأى قاس تمام القسوة، وفيه تسرع ومبالغة غير معقولة ولا مقبولة، لكن دلالته ساطعة، ألا وهى أن الشاعرة لا يمكن أن يكون الوقوف على الأطلال قد شغلها أو خطر لها أو تأثرت به على أى نحو عندما كانت تنظم قصيدة “الكوليرا”.

بل إنها لتؤكد أن كل شىء فى الشعر العربى من ألفاظ وأساليب وأوزان وقوافٍ سوف يصيبه زلزال يأتى عليه، وأننا لا بد أن نتأثر بأشعار الأمم الغربية المتقدمة، أو نكفّ عن الاطلاع على ثقافتها وآدابها. ولا يمكن من تقول هذا الكلام أن تفكر، وهي تنظم قصيدة “الكوليرا”، فى استرجاع نسق الوقوف على الأطلال. وهذا إن كانت النساء يقفن على الأطلال. وهذه هي القصيدة أضعها بين يدى القراء ليتيقنوا من صدق ملاحظاتى تجاه ما قاله كل من الكاتبين:
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
فى عُمْق الظلمةِ تحتَ الصمتِ على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ

فى كل فؤادٍ غليانُ
فى الكوخِ الساكنِ أحزانُ
فى كل مكانٍ روحٌ تصرخُ فى الظُلُماتْ
فى كلِّ مكانٍ يبكى صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ

طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
فى صمتِ الفجْر أصِخْ. انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ، عشرونا
لا تُحْصِ. أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى مَوْتَى. ضاعَ العددُ
مَوْتَى موتَى. لم يَبْقَ غَدُ
فى كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ

تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
الكوليرا
فى كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
فى صمْت الأبدِ القاسى حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكُولِيرَا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادى المرِحَ الوَضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
فى كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
فى كوخ الفلاّحة، فى البيتْ
لا شىء سوى صرَخات الموتْ
الموتُ، الموتُ، الموتْ

فى شخص الكوليرا القاسى ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شىء سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ؟
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكى من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شىء سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ، الموتُ، الموتْ
يا مصرُ، شعورى مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ!


لا بل إن نازك الملائكة، حينما عالجت فى إحدى قصائدها العمودية موضوع حب قيس وليلى، لم تتحدث عن الأطلال بكلمة واحدة بل تناولت القصة بروحٍ معاصرةٍ تماما.

فقرات من كتابي: “النقد الثقافي فى كتابات نقادنا القدماء مع دراسة خاصة عن نسق الفحل عند د. الغذامي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى