بحوث ودراسات

بداية الفتنة الطّائفيَّة وحقيقة اضطهاد المسيحيين في مصر (8 من 12)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

ينصح الأنبا شنودة في ذلك الاجتماع باستخدام اللباقة والهدوء والكلام المعسول في استمالة المسلمين، من خلال تقديم الدَّعم في المحن، والتَّهنئة في المناسبات، وإظهار المودَّة؛ ولا يجد البابا حرجًا من التَّأكيد على ضرورة إفساد عقيدة المسلمين وتحريفهم عن صحيحها، تسهيلًا لمهمَّة فرْض السَّيطرة الصَّليبيَّة، الغربيَّة قبل الشَّرقيَّة، على دار الإسلام؛ فإن لم ينضم المسلمون إلى المعسكر الصَّليبي، فلن يقووا على الانتفاض لمواجهته. وكما ينقل الإمام الغزالي، تقدَّم بابا الأقباط بعدَّة طلبات إلى الدَّولة تمتاز بطابع سياسي بحت، على رأسها أن يصب منصب البابا في البروتوكول السّياسي التَّالي لمنصب رئيس الدَّولة وقبل منصب رئيس الوزراء، والحصول على تمثيل كافٍ في الوزارات والأجهزة السّياديَّة، مع حقّ البابا في ترشيح أسماء لتلك المناصب والاعتراض على تعيين البعض. ويعلّق الغزالي بقوله إنَّ عدد المسيحيين الحقيقي دائمًا ما يُخفى، وإنَّه أقل كثيرًا من المعلن، الَّذي يُستغلُّ في المطالَبة بمضاعفة عدد الكنائس، الَّتي تُبنى بدورها دون تحديد سبب مقنع لذلك، معتبرًا أنَّه “المباهاة، وإظهار السَّطوة، وإثبات الهيمنة على مصر” (صـ77). ومن المفارقات أنَّ الأنبا شنودة ما كان ليكشف عن حقيقة نواياه وأهدافه في خطاب رسمي معلن، ويعتبر الغزالي أنَّ نفي رئيس لجنة تقصّي الحقائق الحكوميَّة صحَّة صدور ذلك الخطاب عن بابا الأقباط من باب الخداع، مناشدًا المسيحيين “أن يتريَّثوا، وأن يأخذوا على أيدي سفائهم، وأن يبقوا بلادنا عامرة بالتَّسامح والوئام كم كان ذلك ديدنها من قرون طوال” (صـ77).

مساعٍ خفيَّة لإعادة مصر إلى ماضيها القبطي

تحت الاسم المستعار “أمجاد”، نشر باحث، أو ربَّما مجموعة من الباحثين، مؤلَّفا عنوانه لعنة جماعة الأمَّة القبطيَّة، يتناول حقيقة جماعة الأمَّة القبطيَّة، الَّتي ادَّعى مؤسّسها المحامي، إبراهيم فهمي هلال، أنَّ هدفه من تأسيسها النُّهوض بأحوال المسيحيين في مصر وإدخال إصلاحات جذريَّة على الكنيسة القبطيَّة وإحياء التُّراث القبطي. في تحدٍّ صريح لتلك الأهداف النَّبيلة، يؤكّد الكاتب على أنَّ تلك الجماعة هي “أخطر جماعة قبطيَّة متطرّفة وأكثرها إجرامًا تحكم مصر”، مشيرًا إلى أنَّ تعصُّبها للملَّة الأرثوذكسيَّة أعمى لدرجة ارتكاب جرائم في حقّ كافَّة المعارضين والمخالفين، من المسلمين وغيرهم (صـ2). يصرُّ الكاتب على أنَّ لأعضاء تلك الجماعة تاريخًا ملوَّثًا بالإجرام والتَّقتيل والإرهاب، وبدايتها الفعليَّة ليست في 11 سبتمبر 1952م على يد المحامي فهمي هلال كما هو شائع، إنَّما أوائل القرن العشرين، قبل ثورة 1919م، وعلى يد راهب يُدعى أنطونيوس، اختار لنفسه ذلك الاسم تيمُّنًا باسم مؤسّس الرَّهبانيَّة، المصري أنطونيوس الكبير (يناير 251-يناير 356م).

تابعنا في فيسبوك

أمَّا عن السَّبب الَّذي دفَع الرَّاهب أنطونيوس إلى تأسيس تلك الجماعة فكان غيرته على الملَّة الأرثوذكسيَّة، الَّتي خشي عليها من التَّحريف مع تسهيل الاستعمار البريطاني لمصر دخول الإرساليَّات التَّبشيريَّة الكاثوليكيَّة والبروتستانتيَّة؛ فوضع الرَّاهب تصنيفًا لألدّ أعداء الكنيسة القبطيَّة، ثمَّ حدَّد أنسب الوسائل لسحْقهم. يأتي اليهود على رأس قائمة أعداء الكنيسة القبطيَّة؛ كونهم حرَّضوا على قتْل المسيح ولم يعلنوا توبتهم؛ ومن بعدهم يأتي الكاثوليك، الَّذين أذاقوا مسيحيي مصر في عهد الرُّومان أقسى ألوان العذاب، ويعتبرون الأقباط مهرطقين، وأنَّ القبطيَّة “مزيج من المسيحيَّة مشوَّهة بمعتقدات متوارثة عن الفراعنة”، ويتجلَّى ذلك في مراسم الموت والخميس والأربعين (صـ3). ومن بعد ذلك، يأتي البروتستانت، الَّتي لم تحصل كنيستهم على سند كهنوتي من أحد رُسُل يسوع النَّاصري؛ وأخيرًا يأتي المسلمون، بوصهم غزاة احتلُّوا أرض مصر، مستغلّين حالة الضَّعف الَّتي عانى منها الأقباط في ظلّ الحُكم الرُّوماني. وبرغم ما واجه الرَّاهب أنطونيوس من معارضة كهنوتيَّة، على اعتبار أنَّ أفكاره مخالفة لتعاليم الكنيسة، فقد أصرَّ على المضي في طريقه، وأسَّس ديرًا مستقلًّا في أقاصي الصَّحراء الغربيَّة، منشقًّا عن الكنيسة الأم. وكما يرى الكاتب، فقد تجلَّى تأثُّر رجال الكنيسة القبطيَّة بأفكار جماعة أنطونيوس إبَّان ثورة 1919م، عند مشاركتهم في العمل السّياسي.

ولمَّا بدأت تعاليم جماعة الأمَّة القبطيَّة تجد ترحيبًا من شباب المسيحيين، خاصَّة مع استغلال أموال الإرساليَّات في خدمة أهداف الجماعة دون انحراف عقائديًّا إلى ملل تلك الإرساليَّات الأجنبيَّة، اشتدَّ الصّراع بين الكنيسة القبطيَّة وتلك الجماعة النَّاشئة، ولكن كان التَّوفيق من نصيب الجماعة، الَّتي برع أعضاؤها في التَّنسيق مع الإرساليَّات لدفع المسيحيين إلى منحهم تأييدها. فبتدبير من تلك الجماعة، أصبحت المدارس الأجنبيَّة التَّابعة للإرساليَّات تقدّم للطُّلَّاب إعفاءات من المصروفات الدّراسيَّة، وتوفّر تعليمًا راقيًا للغات الأجنبيَّة والمهارات العلميَّة والتّقنيَّة الحديثة؛ ممَّا فتَح أمام خرّيجي تلك المدارس المجال لنيل أفضل الفرص المتاحة، وكفل ذلك بدوره لهم السَّيطرة على النَظامين السّياسي والاقتصادي للدَّولة، بما يخدم مصالح الاستعمار. نالت الجماعة قسطًا كبيرًا من المؤيّدين الجُدد من خلال رفْع شعار “مهّدوا الطَّريق لقدوم الرَّبّ”، الَّذي صاغه يوحنَّا المعمدان، لكنَّ ذلك لم ينجح في استمالة أعضاء السّلك الكنسي من الملتزمين بتعاليم الأرثوذكسيَّة. على ذلك، انصبَّ تركيز جماعة الأمَّة القبطيَّة على الشَّباب المسيحي الطَّامح إلى الوصول إلى أسمى الغايات الحياتيَّة، من مناصب وثروات ونفوذ، وكان غالبيَّة هؤلاء من أنصار الفكر العلماني الاشتراكي المنادي بتطبيق الدّيموقراطيَّة. وفي ذلك يقول الكاتب (صـ7):

تابعنا في تويتر

قد يصعب على الكثير التَّصديق بأنَّ معظم الأقباط النَّصارى من مثقَّفي مصر وذوي المناصب العليا في شتَّى المجالات وخاصَّة الصَّحافة والخارجيَّة وحتَّى من الوزراء الأقباط النَّصارى هم ممَّن ينتمون قلبًا وقالبًا لفكر تلك الجماعة المتطرّفة (جماعة الأمَّة القبطيَّة) …بل من الأعضاء المهمّين الَّذين يوكل إليهم المهام الكبيرة الصَّعبة للعمل لصالح الجماعة.

والمفاجأة الأشدُّ قسوةً هي أنَّ كافَّة أصحاب الأموال من رجال الأعمال المسيحيين في مصر هم من أتباع جماعة الأمَّة القبطيَّة، بل ومن المموّلين لنشاطاتها، بما يخدم أهدافها، سواءً في الفن أو الإعلام أو السّياسة. وممَّا يثير الدَّهشة أن تجد أنَّ أبرز رجال الكنيسة القبطيَّة في النّصف الثَّاني من القرن العشرين “من تلامذة قياديّ جماعة الأمَّة القبطيَّة”، وعلى رأسهم عازر يوسف عطا، الَّذي كان يعمل في السّياحة، ثمَّ انضمَّ إلى السّلك الكنسي ليصبح البابا الـ 116 للكنيسة باسم البابا كيرلُّس السَّادس (1959-1971م)، والصَّيدلي يوسف إسكندر المتأثّر بالفكر الشُّيوعي ثم أصبح الأب متَّى المسكين، ونظير جيّد، تلميذ متَّى المسكين في دير السّريان، الَّذي أصبح لاحقًا الأنبا شنودة، البابا الـ 117 للكنيسة (صـ8). يعني ذلك أنَّ الجماعة نجحت منذ أربعينات القرن العشرين في تشكيل الهيكل الدَّاخلي للكنيسة القبطيَّة، من خلال ترشيح أعضاء السّلك الكنسي، وصولًا إلى رأس الكنيسة. غير أنَّ الجماعة عجزت حتَّى ذلك الحين عن توجيه مسار الكنيسة بما يتوافق مع رؤيتها وأهدافها، حيث واجهت الجماعة معارضة من الأنبا يوساب، أو يوسف، الثَّاني، البابا الـ 115 للكنيسة (1946-1956م)، الَّذي عني بملاحقة أعضاء تلك الجماعة وطرْدهم من الأديرة والكنائس، إلى جانب إيقاف الخطاب التَّحريضي الَّذي استنَّه الجماعة. كان الأب متَّى المسكين، معلّم الأنبا شنودة وأبوه الرَّوحي، من بين الكوادر الَّتي أقصاها الأنبا يوساب الثَّاني، بعد أن ثبت لديه تلقينه تلامذته تعاليم مخالفة لصحيح العقيدة، ويرى الكاتب أنَّ تنحية يوساب الثَّاني حينها صارت حتميَّة لكي تباشر الجماعة تنفيذ أهدافها بلا عوائق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى