بحوث ودراسات

بداية الفتنة الطّائفيَّة وحقيقة اضطهاد المسيحيين في مصر (6 من 12)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

التَّشكيك في ثوابت الدّين…الحرب على الإسلام في أخبث صورها!

يقدّم الشَّيخ محمَّد الغزالي (1917-1996م)، أحد أشهر الدُّعاة والمجدّدين في الفكر الإسلامي في العصر الحديث، في كتابه قذائف الحقّ (1991م) تصوُّرًا عن الصّراع الدَّائر بين معسكري الحقّ والباطل منذ القِدم، والَّذي يزداد شدةً، إيذانًا بمواجهة حاسمة. يسعى أعداء الإسلام إلى القضاء عليه واستئصال شأفته، مستغلّين البلايا الَّتي يعاني منها أبناؤه، في تحالُف غادر بين اليهوديَّة العالميَّة وأقوى الدُّول المسيحيَّة، وكلا الطَّرفين يسيطران على منابع القوَّة والنَّهضة في العالم. في الوقت الَّذي يتحتَّم فيه تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة لإعادة إحياء الأمَّة وإنهاضها من كبوتها، تسعى قوى الشَّرّ إلى فرْض نظام علماني يسوّي بين الكفر والإيمان، والرُّشد والغيّ. ويرى الغزالي أنَّ المسيحيين العرب أُسند إليهم دور في تنفيذ مخطَّط التَّخريب الغربي، وقد قبل فريق منهم المشاركة في طعْن المسلمين في ظهورهم؛ حتَّى أنَّ الكنيسة القبطيَّة يعمل الغرب على استغلالها في توجيه ضربته للعالم الإسلامي. والأسوأ من ذلك أنَّ فئة من المسلمين العرب الموالين للغرب يجري توظيفهم في تنفيذ المخطَّط التَّخريبي، من باب تقويض الإسلام على يد أبنائه؛ ويتساءل الغزالي “ماذا يريد هؤلاء؟ إنَّهم يعالنون بعدم العودة إلى الكتاب والسُّنَّة، ويبشّرون بحكم مدني يخسر الإسلام فيه أصوله وفروعه، وتظفر فيه نزعات الإلحاد والشّرك بكل المغانم” (صـ12).

تابعنا في فيسبوك

يتأمَّل أديب الدَّعوة، كما يلقَّب الشَّيخ محمَّد الغزالي، في محتوى الكتاب المقدّس، متعجّبًا ممَّا يتضمَّنه من افتراءات على الله وأنبيائه، الَّذين يوصمون بالكذب والتَّحايل، أو السُّكر والعربدة، أو الزّنا، أو التَّفريط في العرض والشَّرف، ومتسائلًا عمَّا إذا ما كان رضا الغرب عن المسلمين مرهونًا بتخلّيهم عن الإسلام في مقابل اعتناق عقيدة الكتاب المقدّس بما تتضمَّنه من تجاوزات في حقّ الله والأنبياء. ومن الملفت أنَّ الشَّيخ الغزالي قد تنبَّه منذ 3 عقود إلى مخطَّط إقران الإسلام بملَّة أهل الكتاب في عقيدة مشتركة، مستبعدًا إمكانيَّة الجمع بين التَّوحيد الَّذي ينصُّ عليه القرآن الكريم، وبين التَّعدُّد الَّذي تدعو إليه ملَّة أهل الكتاب؛ وفي ذلك يقول: “نستطيع أن نوجد تلاقيًا ما بين أصحاب الأديان المختلفة، أمَّا تذويب الفوارق بين التَّوحيد والتَّعدُّد كليهما، فذاك مستحيل” (صـ41). وتعليقًا على ما جاء في مجلَّة كانت توزَّع على طلَّاب إحدى الجامعات المصريَّة عن إمكانيَّة التَّوفيق بين عقيدة التَّثليث في المسيحيَّة والتَّوحيد الَّذي يقرُّه الإسلام، فقد رأى الغزالي أنَّ ادّعاء أنَّ لله تعالى عدَّة جوانب وصفات يجمع بينها، كما أنَّ للشَّمس شكل وأشعَّة وحرارة، لا يُقبل ولا يجوز الاحتجاج به (صـ42):

إنَّ التَّمثيل بالشَّمس وأوصافها الكثيرة لا يخدم قضيَّة التَّثليث ولا التَّربيع في ذات الله، والأمر لا يعدو لونًا من اللعب بالألفاظ. إنَّ الله-خالق هذا العالم-واحد، وما عداه عبد له أوجده من الصّفر، ولن تنفكَّ صفة العبوديَّة عن أيّ موجود آخر، سواء كان ‘‘عيسى’’، أو ‘‘موسى’’، أو ‘‘محمَّد’’ أو غيرهم من أهل الأرض والسَّماء.

لا يمكن أن تنفصل عن الشَّمس إحدى صفاتها، فتفقد شكلها أو حرارتها أو أشعَّتها؛ وكذلك لا يمكن لله أن يفقد صفة الابن بأن يعلَّق على خشبة أو يُشنق. ويواصل الغزالي ردَّه على المنشور في مجلَّة توزَّع على طلَّاب الجامعات المصريَّة، بالطَّبع بهدف إقناعهم بعقيدة التَّثليث، تمهيدًا لتحويلهم إلى المسيحيَّة، ربَّما في ثوب الدّين الإبراهيمي؛ ومن المثير للاهتمام أنَّ كانت المنشور تعمَّد استغلال اسم ‘‘إبراهيم’’ في ضرْب مثل في إمكانيَّة تعدُّد صفات الشَّخص الواحد، بأن يكون أبًا ومعلّمًا ومنقذًا في آن واحد. أمَّا عن رأي الغزالي في ذلك، فهو أنَّ الكاتب يوغل في المخادعة وتزييف الحقائق، مدحضًا ادّعائه بقوله (صـ43):

تابعنا في تويتر

الله الواحد يوصف بالقدرة والعلم والرَّحمة والحكمة مثلًا، وهذا ما يذكره الإسلام. فالله ذات واحدة، لا تقبل التَّعدُّد بتةً، والرُّوح القُدُس هو جبريل عبد مخلوق له، والمعلّم المرشد الصَّالح عيسى عبد مخلوق له، وما دام العقل البشري موجودًا فلن يسيغ إلَّا هذا…أمَّا الفرار من التَّناقض الحتم إلى التَّلاعب بالألفاظ فلا جدوى منه!! إذا كان خالق السَّماء هو هو المقتول على الصَّليب فمن كان يدبّر العالم بعدما قُتل خالقه؟ بل كيف يبقى العالم بعد أن ذهب موجده؟ والعالم إنَّما يبقى لأنَّه يستمدُّ وجوده لحظة بعد أخرى من الحيّ القيُّوم جلَّ جلاله.

ولعَّل الرَّد الشَّافي على افتراءات المنصّر صاحب المنشور قول الله تعالى﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ۝ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾[سورة النّساء: 171-172[. يتناول الإمام الغزالي منشورًا آخر دُس في ذات المجلَّة تبشيريَّة التَّوجُّه، والَّتي تُترك في متناول أيدي طلَّاب الجامعات حديثي السّن وعديمي الخبرة، وهذه المرَّة يروّج المنشور إلى أنَّ الإله تجسَّد في عبد، أو اتَّخذ هيئة إنسان له شعور البشر العاديين ليجرّب بنفسه معاناتهم، وتحمَّل الآلام حتَّى الموت. وفي تعليقه على هذا “الانتحار الإلهي”، يتساءل الغزالي عمَّا إذا كان الله لا يشعر بمعاناة خلقه من البشر، وكان يتحتَّم أن يتَّخذ صورتهم البشريَّة كي يخوض تجربة البشر في تحمُّل الآلام. ولعلَّ أهم تساؤل يطرحه الشَّيخ، دون أن يطلب له إجابة، هو “إذا كان الصَّلب لفداء الضَّحايا، فهل هذا الفداء يتناول صانعي الشُّرور والآثام والمظالم أم يتجاوزهم؟” (صـ46). ليس من المستحيل أن يعيش أهل الأرض من مختلف الانتماءات الدّينيَّة في سلام ودون نزاع طائفي، وهذا كائن في الكثير من مجتمعات العالم، لكنَّ المشكلة تكمن في إصرار بعض الدُّول، ويسمّي الشَّيخ أمريكا تحديدًا، على إهانة الإسلام وإذلال معتنقيه؛ ولا يرمي ذلك إلَّا إلى إخراجهم من دينهم لصالح العقيدة المتناقضة غير السَّويَّة الَّتي يدين بها السَّواد الأعظم من أهل الأرض.

ومن بين ما تتضمَّنه منشورات المجلَّة التَّبشيريَّة قيد الحديث منشورًا يدَّعي أنَّ الإيمان بالمسيح هو قارب النَّجاة للخلاص في الحياة الأخرى، استدلالًا بقول يسوع النَّاصري في شرحه لرسالته وسبب بعثته: “وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ. لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 3، آيات 14-17). يردُّ الغزالي بقول الله تعالى ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [سورة النّساء: 110[. لا يقبل إيمان المسلم الاعتقاد في أنَّ المسيح بن مريم، عبد الله ورسوله، يمكنه أن يتحمَّل عنه خطاياه الَّتي اقترفها بإرادته، معتبرًا أنَّ في التَّرويج لخلاف ذلك ما يتطابق مع قوله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [سورة العنكبوت: 12-13[.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى