مقالات

هل يمكن تأهيل النظام الإيراني؟

د. محمود المسافر

سياسي وأكاديمي عراقي.
عرض مقالات الكاتب

كلنا يعرف أن الهدف من عملية تبييض الأموال أو ما يعرف بغسيل الأموال القذرة هو تأمين إخفاء مصدر العائدات، والتي تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة، من أجل أن تبدو هذه الأموال القذرة مشروعة المصدر.
وغالبًا ما تتكون هذه الأموال نتيجة ارتكاب أبشع أنواع الجرائم مثل الاتجار بالمخدرات أو الاتجار بالبشر أو تجارة السلاح غير المشروعة أو تجارة الماس المسروق أو النهب أو الابتزاز أو الفساد الإداري أو المالي أو سرقة السياسيين الفاسدين لأموال الدولة وثرواتها وغيرها مئات من الجرائم.

علمًا أن ظاهرة غسيل الأموال القذرة منتشرة في كل مكان وموجودة في مجالات لا تخطر على بال أحد، وهي ظاهرة مزمنة كما أطلق عليها السياسي الماليزي المخضرم الدكتور محاضير محمد، نعيش معها ونقاومها ونحاربها من أجل تخفيف أثرها على التنمية وعلى مستوى معيشة الناس.

وتمارس الدول والمؤسسات الدولية عمليات التبييض السياسي كما يمارس الافراد وتمارس الشركات والمؤسسات عمليات التبييض المالي، ولقد تعلمت السياسة الفاسدة والسياسيون الفاسدون من التجارة الفاسدة والتجار الفاسدين طريقة شرعنة الأنظمة السياسية الفاسدة، ولا سيما تلك التي تأسست وأُوجدت في ظروف قيصرية، وإعادة تدويرها وفرضها على المجتمع الدولي على نحو عام وعلى محيطها الإقليمي على نحو خاص.

ولا بد أن أقول أن من أفسد الأنظمة السياسية في المنطقة والعالم هو النظام الثيوقراطي في إيران الذي مارس كنظام كل أنواع تلك الجرائم السابقة الذكر، وبل مارس أفسد أنواع التبييض وهو التبييض الطائفي في محاولة لفرض منهج الولي الفقيه فاسد الأصل والهدف على كل دول المنطقة وشعوبها.

ولا شك أن النظام الإيراني بعد الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) وخروجه منها منهزما وذليلا قد تعرّض لانهيار في أسسه مما أدى إلى شعور عام بأن النظام كان على وشك الانهيار لولا أن أناطت به أميركا وأوروبا دورا محوريا جديدا في حصار العراق في النصف الاول من عام 1989، فضلا عن مهمة إقلاق وضع العراق الداخلي باستخدام أدوات إيران الخبيثة في العراق من أمثال حزب الدعوة بكل فروعه والمجلس الإسلامي الأعلى ومنظمة بدر وغيرها من فروع الحرس الثوري الايراني.

وازداد دور هذا النظام أهمية بعد الغزو العراقي للكويت إثر استفزازات الكويت الحدودية وغيرها من تشنجات سياسية ومطالبات مالية، واستمرت الدول الغربية بإعادة تدوير دور ايران الإقليمي والدولي عندما أنيط بها دور التغيير الداخلي في العراق حينما أصدر الكونغرس الامريكي قانون “تحرير” العراق في أكتوبر 1998، الذي صدر في أعقاب طرد مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة في أغسطس من العام ذاته، وأصبحت مسألة تغيير النظام الوطني في العراق جزء مهم من السياسة الخارجية الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية.

ولتنفيذ هذا القانون مالت الأجهزة الاستخبارية والسياسية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاعتماد على مخرجات الحرس الثوري في العراق من عملاء إيران وما تم تسميتهم بالتوابين ليساهموا في تنفيذ قانون “تحرير” العراق.

وعندما كانت تلك الأجهزة تستخدم أدوات إيران من بعض العراقيين فإنها تعلم أن إيران لن تسمح إلا أن تكون شريكة في نتائج تنفيذ هذا القانون. فيما مثل القانون الذي أصدره الكونغرس الاميركي في أكتوبر 2002 تحت الرقم: 107–243، والذي يجيز استخدام العمل العسكري ضد العراق، حالة انسجام قصوى وتخادم مثالي بين النظام الثيوقراطي في إيران والنظام العلماني النموذجي في الولايات المتحدة الأميركية. والتي أسفرت عن تقاسم غير مسبوق لمخرجات الحرب الأمريكية العدوانية على العراق بين نظامين متضادين في الظاهر والمبادئ وعلى المستوى الإستراتيجي، ومتوافقين في الباطن والمصالح على المستوى التكتيكي.

وكان نتاج هذا التضاد والتوافق عملية سياسية مشوهة قادت العراق لمدة عقدين من الزمن لتصل به إلى مرحلة الفشل التام، ومن مظاهره، السيادة المنتهكة، والعدالة المفقودة، والمال العام المنهوب، وهروب الأموال إلى الخارج، وانهيار البنى التحتية، ومدن تعد الأسوأ للعيش فيها على المستوى العالمي، وثاني أسوأ جواز سفر في العالم، وسطوة الميليشيات، وانفلات الأمن، وضعف المركز لصالح الأطراف، وهيمنة السلاح خارج إطار أجهزة الدولة، وتفشي الفقر والأمية والمرض، وانهيار النظام التعليمي، وتوقف تام لمنظومات الكهرباء والماء وغيرها من الخدمات، وسيطرة ظاهرة الرشوة على حياة المواطنين، وانتشار الجريمة المنظمة والمخدرات ومحلات القمار وبيوت الدعارة، وتقنينها بفتاوى دينية، وتقبّل ظاهرة المثلية، وارتفاع معدل الطلاق ومعدل الزواج غير المسجل مدنيا، وسقوط المنظومة القيمية الحاكمة وظهور وتنامي العادات القبلية البائدة وغيرها الكثير من مظاهر الفشل التام.

وبذلك حقق النظام الإيراني أهم هدف يجمعه بالولايات المتحدة الأمريكية وهو تدمير وتفتيت الدولة الوطنية في العراق وإضعاف التشابكات العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان العراق يمثل محورها.

وازادت أهمية وجود النظام الإيراني مع عودة الجمهوريين لإدارة الولايات المتحدة الأمريكية وترؤس رجل الأعمال دونالد ترامب لتلك الإدارة، الذي حاول الاستفادة القصوى من وجود النظام الإيراني في تخويف وتهديد جيران إيران على الخليج العربي لتدفع دول الخليج العربي لا سيما المملكة العربية السعودية فاتورة التراجع الاقتصادي الأمريكي.

وهكذا موّل دونالد ترامب جزءًا من الخطة الاقتصادية الاصلاحية مقابل حماية الخليج من الخطر المفترض للنظام الايراني، غادر ترامب الجمهوري القوي وجاء جو بايدن الديمقراطي الضعيف ليعيد إحياء سياسة اوباما التدميرية للشرق الأوسط، مما أعطى دفعةً وأملاً لدى النظام الإيراني في مواصلة سياسة التملّص من الالتزامات الإقليمية والدولية التي قد تعطيه فرصة للوصول الى حالة فرض الأمر الواقع على المنطقة والعالم ليكون النظام رقما صعبا لا يمكن الاستغناء عنه من أجل السيطرة على أذرعه الخارجية التي أزعجت المنطقة وتوسعت خارج إطار محيط النظام الاقليمي.

ولكن، أسقط اندلاع التظاهرات ومواجهة أجهزة النظام القمعية بشراسة واجبار النظام على القبول بما كان دائما يعتبره جزءً من العقيدة ومثاله حجاب المرأة، مرة أخرى ما تبقى من هيبة النظام حتى ظن أغلب المتابعين أنه أصبح ممكنا إسقاطه من الداخل.

ولكن لم تزل بعض القوى الكبرى في العالم ترى أن إمكانية إعادة تدوير هذا النظام ممكنة ليلعب أدوارا جديدة في عالم تعصف به الصراعات والحروب بالأصالة وبالإنابة.

واستفاد النظام الإيراني من حالة صراع متجددة بين الولايات المتحدة والصين ليحصل على فرصة جديدة تمثلت في محاولات إعادة تدوير مركز النظام في طهران من خلال الاتفاقية السعودية الايرانية، واستثمار الهوامش من خلال إعادة بشار الأسد الى الجامعة العربية والمرونة الكبيرة التي أبداها الحوثيون في التعامل مع القضية اليمنية، والتنازلات الكبيرة التي قدمها حزب الله في لبنان إلى “إسرائيل”.

يأتي هذا في محاولة صينية-روسية لإعادة تدوير النظام الايراني الذي يبدو أنه فقد أهميته النسبية عند الغرب بسبب احتراق ورقته وتحوله، بدفع من الغرب ولغاية كان الغرب يخطط لها، إلى نظام تكرهه بيئته التي تم زراعته فيها إلى الدرجة التي أصبح التعايش معه صعبا، وكذلك فإن فتح صفحة جديدة مع شعبه او محيطه الإقليمي ربما يكون ضربا من المستحيل.

إن أحداثاً مثل عدم التوصل الى اتفاق نووي بين إيران والغرب ونحن على أعتاب المرحلة الأخيرة من عهد الديمقراطيين أصحاب القوى الناعمة في السياسة، وكذلك خروج الأمريكان من أفغانستان وتسليمها وفق صفقة رعتها قطر إلى طالبان، والتشنجات السياسية والعسكرية على الحدود بين إيران وأفغانستان التي من المحتمل أن تقود إلى حرب محدودة أو شاملة، وتأخر تنفيذ المشروع الصيني، وفشل أدوات إيران في العراق، وإجماع الشعب العراقي على رفض الوجود الإيراني في العراق، واستمرار النقمة الشعبية الايرانية ضد النظام الإيراني، ووصول العملية السياسية في لبنان إلى حافة الهاوية، وحالة الثبات التي وصلت اليها القضية اليمنية، والعلاقات المتوترة مع اذربيجان التي قد تصل إلى حالة صراع حقيقية في اي وقت، وتهيئة البديل الفرنسي المتمثل بمجاهدي خلق، والأمريكي المتمثل برضا بهلوي ابن شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي من أجل احتواء كل المعارضة الإيرانية الليبرالية واليسارية.

كل هذه الأحداث والوقائع تجعل الاستثمار الغربي في إعادة تدوير النظام الثيوقراطي في إيران مكلفا جدا، مما سيدفع باتجاه التهيئة لتغييره باتجاه آخر يمكن أن يخلق فرصًا إضافية للغرب وحلفائه في المنطقة.

أما محاولة الصين في تبييض النظام الإيراني ففي اعتقادي أنها لن تصل إلى مبتغاها الأخير بسبب رفض البيئة المحيطة بالنظام لوجوده واستمراره، وكذلك بسبب ازدياد حدة الصراع مع الولايات المتحدة وإصرار الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات على السيطرة الكاملة على مقدرات منطقة المياه الدافئة ذات الأهمية الاستراتيجية المتميزة لدى صانع القرار الرأسمالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى