بحوث ودراسات

بداية الفتنة الطّائفيَّة وحقيقة اضطهاد المسيحيين في مصر (5 من 12)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

كما يشير عمارة، أصبحت الكنيسة، بعد أن كانت تنأى بنفسها عن المطالَبة بأيّ تمثيل سياسي للمسيحيين في الدَّولة، تباشر “مهام المشروع الطَّائفي، تخطيطًا وتنفيذًا”؛ وهكذا، اتَّخذت الكنيسة “موقعًا جديدًا غير موقعها التَّقليدي والتَّاريخي…ومسؤوليَّات سياسيَّة ومدنيَّة لا علاقة لها برسالتها الرَّوحيَّة” (صـ69). يُذكر في هذا السّياق أنَّ الأنبا شنودة استهلَّ عهده بعقد مؤتمر في الإسكندريَّة في 17-18 يوليو 1972م، أي قبل أشهر قليلة من واقعة الخانكة، اتَّخذ المشاركون فيه قرارات تتَّسم بالطَّائفيَّة، وطالبوا بحقّهم في الدّفاع عن هويَّتهم وعقيدتهم، وإلَّا “سيكون الاستشهاد أفضل من حياة ذليلة”، كما أورد جمال بدوي في كتاب الفتنة الطَّائفيَّة في مصر (1992م، صـ20). تبلورت لهجة التَّحدّي الجديدة للكنيسة بعد تولّي الأنبا شنودة منصب الباباويَّة في أحداث واقعة الخانكة، بأن سمح البابا الجديد للكهنة بالمشاركة، برغم صدور قرار سيادي بألَّا يشارك في المسيرة، وكأنَّما أصرَّ على الالتفاف على ذلك القرار. وكما يروي القمص أندراوس عزيز في كتابه الحقائق الخفيَّة في الكنيسة القبطيَّة، لمَّا عرف شنودة أنَّ عدد الكهنة المشاركين في المسيرة 160 قال “عايزكم ترجعوا ستة عشر كاهنا، والباقي يفترشوا الأرض افتراشا، وتستشهدون” (صـ27)! ومن الملفت أنَّ الأنبا شنودة قد أتبع مؤتمر الإسكندريَّة في يوليو من عام 1972م بآخر في يناير 1977م شارك فيه ممثّلو “الشَّعب القبطي”، وفق مصطلح الكنيسة، من كافَّة الطَّوائف والانتماءات، وكان من أهمّ توصياته المطالَبة بتمثيل مسيحي مُرضٍ في كافَّة المناصب والدَّوائر السّياسيَّة، ومعارضة تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة والتَّوجُّه الإسلامي في الجامعات.

 ويعتبر عمارة أنَّ معارضة غالبيَّة مسيحيي مصر التَّدخُّل الأجنبي في البلاد خلال سنوات الحملة الفرنسيَّة مطلع القرن التَّاسع عشر للميلاد قد تبخَّرت، وحلَّ محلُّها تشجيع لفرض الغرب وصايته على مصر بزعم حماية الأقليَّات، وفي ذلك يقول (صـ70):

القيادة الكنسيَّة الَّتي تولَّت الكرسي البابوي منذ سنة 1971م قد أصبح لها مشروع سياسي ومدني ودنيوي، تدافِع عنه دول أجنبيَّة-وخاصَّة أمريكا…ومعها إسرائيل-وتتدخَّل بسببه في شؤون مصر وسيادتها الوطنيَّة، بدعوة من تنظيمات أقباط المهجر…وصمْت ومباركة من قطاع أقباط الدَّاخل.

حقيقة اضطهاد المسيحيين في مصر

في فصل مستقل تحت عنوان “أوهام اضطهاد الأقباط”، يتناول الدُّكتور محمَّد عمارة حقيقة تعرُّض مسيحيي مصر للإيذاء والتَّضييق بسبب العنصريَّة ضدَّ غير المسلمين. ويستهلُّ عمارة تناوله لتلك المسألة بالإشارة إلى أنَّ غالبيَّة المعنيين بالحديث عن مظالم المسيحيين وسوء أوضاعهم الحياتيَّة في مصر هم من أعداء الهويَّة الإسلاميَّة للبلاد والمطالبين بالتَّماهي مع الثَّقافة الغربيَّة على حساب الانتماء للعالم العربي، مضيفًا أنَّ المراكز البحثيَّة المدافعة عن حقوق المسيحيين في مصر هي في الأصل مموَّلة من الخارج، وقد يحضرنا نموذج مركز ابن خلدون لصاحبه سعد الدّين إبراهيم. لم يجد إبراهيم حرجًا في التَّصريح منذ أمد بأنَّ المسيحيين في مصر لا ينعمون بقسط وافر من العدالة في توزيع الفرص، محتميًا بجنسيَّته الأمريكيَّة، وبعمله في الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، الَّتي أسَّسها المبشّر البروتستانتي، تشارلز واطسون، بتكليف من الإرساليَّة الأمريكيَّة في مصر، والَّتي تدعمها الكنيسة المشيخيَّة المتَّحدة في أمريكا الشماليَّة، بهدف التَّبشير بالمسيحيَّة وتحويل الأرثوذكس إلى المذهب البروتستانتي. ووصل الأمر بإبراهيم أن دعا خلال مشاركته في جلسة عُقدت في الكاتدرائيَّة الأرثوذكسيَّة إلى الانسلاخ من الهويَّة الإسلاميَّة في مصر، كما أقرَّ رجائي فايد في مقال تحت عنوان “كنت شاهد عيان في الكاتدرائيَّة…ماذا يريد سعد الدّين إبراهيم وصحبه؟”، نشرته مجلَّة الأسبوع المصريَّة في 14 فبراير 2000م.

من الملفت أنَّ عالم الاجتماع السّياسي قد ذكر في كتابه المجتمع والدَّولة في الوطن العربي (1988م) أنَّ عدد المسيحيين العرب لا يجاوز 7.8 مليون نسمة، لكنَّه سرعان ما عدَّل الرَّقم إلى 12 مليونًا بعد عامين في كتابه الموسوعي الملل والنّحَل والأعراق: هموم الأقليَّات في الوطن العربي؛ كما قفز تعداد الأقليَّات غير المسلمة في العالم العربي من 20 مليونًا و50 ألفًا إلى 29 مليونًا و725 ألفًا. ويفسّر عمارة ذلك بأنَّ إبراهيم قد كُلّف من مموّلي مركزه البحثي بالتَّلاعب في الأرقام، تضخيمًا لأزمة الأقليَّات المفتعلة. ويظلُّ تعداد المسيحيين الحقيقي لغزًا مبهمًا إلى عصرنا هذا، ومن نماذج التَّلاعب بهذا الرَّقم ادّعاء الكنيسة المصريَّة عام 2012م أنَّ التّعداد الفعلي هو 15 مليونًا، تحديًا لتصريح اللواء أبو بكر الجندي، رئيس الجهاز المركزي للتَّعبئة العامة والإحصاء وقتها، بأنَّ مسيحيي مصر عددهم 5 ملايين و130 ألفًا، كما نشرت صحيفة الشُّروق المصريَّة في 25 سبتمبر 2012م. ويتطرَّق عمارة إلى مسألة استحواذ المسيحيين في مصر، برغم محدوديَّة عددهم، على نسبة كبيرة من الثَّروة وموارد تحقيق الرّبح، ويكفي أنَّ قائمة أغنى أغنياء مصر لعام 2021م تتضمَّن 4 إخوة من عائلة ساويرس المسيحيَّة بثروة تجاوزت 200 مليون جنيه.

عشوائيَّات خلف أبراج نايل سيتي لعائلة ساويرس

تابعنا في فيسبوك

ويتَّضح من هذه الصُّورة الفارق الشَّاسع بين فخامة الأبراج السَّكنيَّة والإداريَّة الَّتي تمتلكها عائلة ساويرس، وحالة التَّردّي المعيشي في المناطق العشوائيَّة المحيطة بتلك الأبراج، المطلَّعة على نيل القاهرة. ومن المسائل الشَّائكة الَّتي يتناولها المفكّر الكبير الرَّاحل عدد دور العبادة المخصَّص لكلّ من المسلمين والمسيحيين، متسائلًا (صـ90-91):

إذا كانت نسبة الكنائس لعدد النَّصارى تكاد أن تساوي نسبة المساجد لعدد المسلمين، فإنَّ الواقع يقول: إنَّ الكنائس مفتوحة على مدار النَّهار والليل، والمساجد تُغلق بعد الصَّلاة! …ومنبر الكنيسة حرٌّ كلَّ الحريَّة، ومنبر المسجد مؤمَّم، لا يرقاه إلَّا من ترضاه وترضى عنه ‘‘الأجهزة‘‘! …والشَّباب القبطي المتديّن ينام في بيته آمنًا، ونظيره المسلم يعيش في رعب قوائم ‘‘الاشتباه‘‘! …وأروقة الكنائس مفتوحة أمام التَّبتُّل النَّصراني-وحتَّى الرَّهبنة-بينما الشَّاب المسلم إذا أراد الاعتكاف بالمسجد في رمضان، لا يُتاح له إلَّا إذا تقدَّم بصورة البطاقة إلى ‘‘الأجهزة‘‘، الَّتي تضعه-فورًا-في القوائم المرشَّحة لما يعرفه الجميع!! …وأوقاف الكنائس قائمة، وفي نمو-وهي تحفظ لها استقلال الموقف والتَّوجُّه والقرار-بينما أوقاف المساجد والأزهر ومؤسَّسات الخير الإسلاميَّة، قد أُمّمت واغتالتها البيروقراطيَّة الحكوميَّة، واغتالت معها حريَّة تلك المؤسَّسات في التَّوجُّه والقرار!!

فمَن هم المحظوظون في بلادنا-حتَّى في الكنائس والعبادات-؟! …ومَن هم الَّذين تكبّلهم القيود وتطحنهم الهموم؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى