بحوث ودراسات

بداية الفتنة الطّائفيَّة وحقيقة اضطهاد المسيحيين في مصر (4 من 12)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

ومن نماذج التَّواطؤ الخسيس مع الاستعمار الأجنبي الدَّخيل في فترة لاحقة واقعة تعاوُن المسيحي المصري يعقوب حنَّا مع قوَّات الحملة الفرنسيَّة على مصر (1798-1801م) وجمعه أفرادًا من المرتزقة للانضمام إلى صفوف جنود الحملة. وقد ذكر المؤرّخ المصري الكبير، برهان الدّين الجبرتي، في كتابه عجائب الآثار في التَّراجم والأخبار أنَّ القائد الفرنسي قد أباح للمعلّم يعقوب حنَّا، الَّذي أطلق عليه “يعقوب اللعين”، فعْل ما شاء في المسلمين من أهل مصر؛ من هنا “تطاوَل النَّصارى-من القبط ونصارى الشَّوام-على المسلمين بالسَّبّ والضَّرب، ونالوا من أعراضهم، وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصُّلح مكانًا!! وصرَّحوا بانقضاء ملَّة المسلمين وأيَّام الموحّدين”، كما ينقل عمارة (صـ53). وبرغم فشل الحملة في تحقيق أهدافها، وانسحاب قوَّاتها من مصر بعد مقتل كليبر على يد الطَّالب الأزهري، سليمان الحلبي، لم تتخلَّ تلك الفئة الخبيثة من مسيحيي مصر عن حُلم تغريب مصر وإلحاقها بأوروبَّا بعد القضاء على كلّ ما يمتُّ فيها بصلة للإسلام؛ فراحت تدعو بريطانيا هذه المرَّة للتَّدخُّل في مصر، مستغلَّة الكنيسة القبطيَّة في خدمة ذلك المشروع.

البداية الفعليَّة للتَّوتُّر الطَّائفي في مصر

 يرى الدُّكتور محمَّد عمارة أنَّ التَّوتُّر الطَّائفي في مصر دخل مرحلة جديدة في أعقاب ثورة يوليو 1952م، بعد أن اتَّخذ الاستعمار شكلًا جديدًا لا يعتمد على الغزو العسكري، إنَّما على الغزو الفكري المستند إلى ثقافة جديدة أفرزتها مرحلة ما بعد الحداثة، وهي ثقافة تقوم على إعادة تقديم الفلسفات والمذاهب والقيم الحضاريَّة الَّتي سادت في الأمم الوثنيَّة، وأعيد إنتاجها وفق مفاهيم العصر. ومع التَّشجيع على التَّماهي مع الحضارة الغربيَّة الحديثة، سواءً من خلال البعثات التَّعليميَّة إلى الخارج وتسهيل الوصول إلى منجزات تلك الحضارة عبر وسائل الاتّصال الحديثة وغير ذلك، تغلغلت قيم تلك الحضارة في العالم الإسلامي، وبخاصَّة بين أفراد الجيل الجديد من المسلمين، وكان للنُّخب من المشاهير تأثير كبير في ذلك؛ لما لها من قبول شعبي ولابتعادها عن شبهة العمالة للغرب. أمَّا عن البداية الفعليَّة للمشروع السّياسي الطَّائفي الانفصالي لمسيحيي مصر، فكانت على يد المحامي القبطي إبراهيم فهمي هلال، بتأسيسه جماعة الأمَّة القبطيَّة، بوصفها جمعيَّة تدافع عن حقوق الأقباط، وقد اتَّخذت لنفسها شعارًا مماثلًا لشعار جماعة الإخوان المسلمين، هو “الإنجيل دستورنا، والقبطيَّة لغتنا، والموت في سبيل المسيح أسمى أمانينا”؛ وكان ذلك بُعيد الإطاحة بالحُكم الملكي في 23 يوليو من عام 1952م، وقد اختار مؤسّس الجمعيَّة تاريخ 11 سبتمبر من العام ذاته لتدشينها. بغضّ النَّظر على دلالة التَّاريخ لدى الحركات السّريَّة، فقد دلَّ السُّلوك الَّذي انخرط فيه تلك الجماعة على خلاف أهدافها المعلنة، ومنها النُّهوض بأحوال المسيحيين، وإصلاح شؤون الكنيسة القبطيَّة، وإحياء اللغة القبطيَّة، وتعليم التَّاريخ القبطي للأجيال النَّاشئة. فما ثبت لاحقًا هو أنَّ هدفها كان تأسيس نظام سياسي جديد يكون المسيحيون على رأسه؛ ولذلك، فقد دبَّرت الجماعة اختطاف البطريرك يوساب الثَّاني، بابا الإسكندريَّة الـ 115 (1946-1956م)، عام 1954م لإجباره عن التَّخلّي عن منصبه، ووصل الأمر إلى محاولة قتل البطريرك، ولكن قُدّر له النَّجاة، كما جاء في عدَّة مصادر تاريخيَّة، منها كتاب الفتنة الطَّائفيَّة في مصر (1992م) لجمال بدوي، والثَّورة المضادَّة في مصر (1979م) لغالي شكري.

تابعنا في فيسبوك

لم تشهد مصر حتَّى نهاية عهد جمال عبد النَّاصر (1956-1970م) توتُّرًا طائفيًّا يُذكر، ولكن سرعان ما تبدَّل الوضع مع وصول أنور السَّادات إلى الحُكم في أكتوبر من عام 1970م، وتولّي الأنبا شنودة الثَّالث منصب بابا الإسكندريَّة في نوفمبر من العام التَّالي. وبرغم ما شهدته فترة حُكم السَّادات من انفتاح اقتصادي مع التَّحوُّل من الاشتراكيَّة إلى الليبراليَّة الرَّأسماليَّة، وإتاحة التَّعدُّديَّة السّياسيَّة، الوصول إلى تسوية سياسيَّة مع زعماء الاحتلال الإسرائيلي أفضت إلى عزْل مصر عن محيطيها العربي والإسلامي، شهدت تلك الفترة توتُّرًا طائفيًّا يصل إلى حدّ الاحتقان، الَّذي بدأ في نوفمبر من عام 1972م، مع حريق سقف إحدى غرف جمعيَّة الكتاب المقدَّس بالخانكة، والَّتي كانت تُستخدم في أداء الصَّلوات، تمهيدًا إلى تحويلها إلى كنيسة، دون ترخيص من الدَّولة. تدخَّلت وزارة الدَّاخليَّة حينها بإزالة بعض المباني التَّابعة للجمعيَّة، ومنعت استغلال المكان باعتباره دارًا للعبادة. وما كان من الأنبا شنودة إلَّا أن أمر بتنظيم مسيرة ضمَّت مئات الكهنة جابت الشَّوارع حتَّى وصلت إلى مقرّ الجمعيَّة لأداء الصَّلاة، متجاهلين بذلك أمر الدَّاخليَّة. وكما كتب مصطفى رحومة في مقال نشرته بوابة الوطن الإلكترونيَّة بتاريخ 16 مارس 2019م، تحت عنوان “‘‘حادثة الخانكة‘‘…قصَّة أوَّل فتنة طائفيَّة في عهد البابا شنودة والسَّادات”، شعر الرَّئيس المصري الأسبق في أعقاب تلك الواقعة “أنَّ البابا يقود الأقباط وكأنه زعيم سياسي، وليس رجل دين؛ واعتبر هذه المسيرة غير المسبوقة تحديًا مسيحيًّا وتمرُّدًا علنيًّا على حُكمه”.

تابعنا في تويتر

هناك من يروّج لأنَّ السَّبب الأساسي لاشتعال شرارة الاحتقان الطَّائفي في مصر هو تمسُّك الرَّئيس السَّادات بالهويَّة الإسلاميَّة، لدرجة أنَّ صرَّح في خطابه الأخير في مجلس الشَّعب المصري في 5 سبتمبر 1981م، قبل اغتياله ببضعة أسابيع، بقوله “أنا رئيس مسلم لدولة إسلاميَّة، يعيش فيها المسلمون إلى جانب المسيحيين، والشَّعب واحد”، برغم أنَّ السَّادات أوضح أنَّ قصده كان التزامه بتعاليم الإسلام الَّتي تحضُّ على حُسن معاملة أهل الكتاب وعدم التَّمييز بين المواطنين على أساس الانتماء الدّيني. وهناك من يدَّعي كذلك أنَّ تعمُّد الرَّئيس الأسبق جعْل الشَّريعة الإسلاميَّة مصدرًا أساسيًّا للتَّشريع في مادَّة من دستور 1971م استفتى الشَّعب على تعديلها عام 1980م لاعتبار الشَّريعة المصدر الرَّئيسي للتَّشريع، كان من أسباب إثارة حفيظة المسيحيين ضدَّه، خاصَّة بعد أن طالب السَّادات عام 1976م بتقنين الشَّريعة الإسلاميَّة لتصبح قانون المجتمع. والسُّؤال: ومتى كانت الشَّريعة الإسلاميَّة تدعو إلى ظُلم المسيحيين أو تشرّع الاستيلاء على حقوقهم؟ وينقل عمارة عن الأنبا شنودة تصريحه لصحيفة الأهرام المصريَّة في 6 مارس 1985م، قال فيه:

إنَّ الأقباط في ظلّ حُكم الشَّريعة يكونون أسعد حالًا وأكثر أمانًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حُكم الشَّريعة هو السَّائد…نحن نتوق أن نعيش في ظلّ ‘‘لهم ما لنا وعليهم ما علينا‘‘. إنَّ مصر تجلب القوانين من الخارج حتَّى الآن وتطبّقها علينا، ونحن ليس عندنا في الإسلام من قوانين مفصلَّة، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام؟

بعد طرْح أهمّ ما يؤخذ على عهد الرَّئيس السَّادات فيما يتعلَّق بإذكاء الفتنة الطَّائفيَّة، يجدر استعراض المتغيّرات الَّتي طرأت على الكنيسة الأرثوذكسيَّة في مصر بعد تولّي البابا شنودة الثَّالث منصب البابويَّة في نوفمبر من عام 1971م. يرى الدُّكتور محمَّد عمارة أنَّ الكنيسة القبطيَّة خضعت إلى تحوُّل كبير من “الإطار الرَّوحي والدّيني البحت” إلى “قيادة دنيويَّة ومدنيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة”، تسعى إلى الحصول على تمثيل للمسيحيين في كافَّة المحافل؛ ومن ثمَّ “غدت الكنيسة ‘‘مشروع دولة‘‘، تطرح ‘‘مسألة سياسيَّة قبطيَّة‘‘ لأوَّل مرَّة في تاريخ مصر” (صـ67). يوضح المفكّر الإسلامي الكبير أنَّ فرْض الثَّقافة الغربيَّة ومعاييرها على العالم الإسلامي كان له الدَّور الأكبر في التَّكوين الفكري لطلَّاب مدارس الأحد القبطيَّة، ومن بينهم الشَّاب القبطي المتديّن، نظير جيّد، الَّذي ترقَّى في السّلك الكنسي إلى أن أصبح رأس الكنيسة القبطيَّة والبطريرك الـ 117 للكرازة المرقسيَّة، بعد أن صار اسمه شنودة الثَّالث. يشير عمارة إلى أنَّ جيّد شارك في أعمال جماعة الأمَّة القبطيَّة، الَّتي أرادت منذ تأسيسها تكوين نظام سياسي مسيحي، وارتكب في سبيل ذلك جريمة خطْف البابا الـ 115 للكنيسة ومحاولة قتْله، ولكن دون اتّهامه بالمشاركة في تلك الواقعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى