مقالات

قمة الكشف والانكشاف

د. يحيى العريضي

كاتب وإعلامي سوري
عرض مقالات الكاتب

دأبَ العرب على العيش في غياهب التاريخ والتغنّي بأمجاد قديمة صنعها الأجداد؛ والتذمّر من الحاضر بمواجعه، والخشية من المستقبل بغموضه، والحسرة من حُكم الآخر المجاور لهم لعقود. يُدخَلون إلى غياهب الاستعمار الحديث وويلاته، وتقسيمه بلادهم إلى قطع متنافرة، معتمداً سياسة “فرّق، تسد”، وتحكيم سُلطات ترتبط به، و تتحكم بمصير “الشعوب”، وتكتم على أنفاسها.

تتشكَّلُ جامعة “عربية” لدولهم بعد “استقلالهم”، لتكون شاهداً على نكبة فلسطين بعد ثلاث سنوات من نشأتها، وعلى هزيمة سبعة وستين في ظل وجودها،  وعلى انتفاخ الكيان الصهيوني ثلاثة أضعاف حجمه. يختلط في ظل “جامعتهم” الملكي بالإماراتي بالمشيخي بالجمهوري التوريثي؛ وتتحوّل السلطات المُشَكِّلة لتلك “الجامعة” إلى أجساد متوترة متنافرة تبحث عمن يُبقي أعضاءها في كراسي السلطة بخدمات جليلة، وبأي ثمن يُطلب. 

أضحت تلك السلطات تخشى تسلل الحرية، أو الديموقراطية، أو أي احتمالية لحكم رشيد عادل فيه تكافؤ فرص وإطلاق للإمكانيات المعرفية والتقدم. تعيش انفصاماً مرعباً بين المُعلَن والواقع؛ فتسمع بالالتزام بالقضية الفلسطينية، وتحرير الجولان، والمقاومة، والممانعة، وضرورة مقاومة المشروع الصهيوني والفارسي والامبريالي في كل مرة يلتقون. أما الممارسات الفعلية فتتمثل ببحث صنف منهم عن طريق لإزالة كل تلك المنغصات والتوترات لتجذير سلطة هانئة تنام بالعسل، تغري رعيّتها بالعيش الرغيد بفعل الوفر و البحبوحة؛ وصنفٌ آخر يغري “مواطنيه” بمجرد كونهم خارج المعتقل، أو القبر، أو الاقتلاع من “الوطن”. 

هبت موجات التغيير على عالمنا، إثر سقوط الاتحاد السوفييتي، وسقوط معسكره الدكتاتوري كأحجار الدومينو بعد انهيار جدار برلين. انطلقت نفحات الحرية والديموقراطية مع الربيع الذي حلَّ في الدول التي كانت تدور في الفلك السوفييتي المظلم. كان لا بد لتلك الاهتزازات والكُتل أن تهدأ وتتموضع حتى يبدأ لهيبها واشعاعاتها بالانتقال والتأثير في المحيط القريب والبعيد.

استنفر النظام العربي المضاد للحرية، غير القادر على تحمّل الديموقراطية. استشعر احتمالية انتقال عدوى الحرية إلى مزارعه؛ ولكنها تأخرت. وكان لذلك جملة من الأسباب، وعلى رأسها حاجة الغرب (دينمو التغيير) للبحث عن عدو جديد، بعد أن انتهت ذريعة محاربة الشيوعية؛ ليجد وليرتب التطرف الإسلاموي والإرهاب كعدو جديد. 

كانت حرب أفغانستان تلملم أشلاءها، ليتبعها الغزو الأمريكي لأفغانستان، ولتبدأ بذور الإرهاب تتفتح، ويبدأ العدو الجديد يفَرّخ ويُفرَّخ. دخل في سجِّل التهيئة للتغيير الحرب العراقية الإيرانية بعد مجيء الخمينية، ثم أتى إرهاب 11  أيلول 2001،  لتتبعه الحرب على العراق، تحت يافطة وجود أسلحة الدمار الشامل. كل ذلك أعاق  الثورات العربية على أنظمة مرتهنة لعلاقات اعتمادية مع الغرب واحياناً مع الغرب والشرق معاً.

أربكت “النظام العربي الرسمي” وهزّته تلك الانتفاضات العربية التي تأخرت؛ حيث كان أول الغيث في تونس؛ فواجه “بن علي” |بو عزيزي| بالهرب بعد أن وصلته الرسالة وفهِمَها؛ ليعود إلى تونس اللقاح المضاد، والمتمثل بمخلوق شمعي.

ثم تنتقل الموجة إلى ليبيا، فينتفض القذافي ويستنكر حتى وجود شعب، ويسأل “مَن أنتم”؟؛ ولتبقى ليبياً نهباً لقوى متصارعة إثر امتداد الأيادي الخارجية الخبيثة. 

ولتنجح ثورة مصر، وتُرفع اليد عن الدكتاتور، وتحدث معجزة الانتخابات الحرة؛ ثم ليعود الطغيان من النافذة، وينقضّ العسكر على روح الثورة، وتعود الأمور “المباركاتية” إلى ما كانت عليه. 

وليشهد اليمن أنظف وأعمق الانتفاضات، التي سرعان ما انقضَّت عليها التدخلات التي حوّلتها إلى ما يشبه الحرب الأهلية، التي بعثرت البلاد، وأججت حرباً غير مباشرة بين الخليج ومشروع ملالي طهران، كادت أن تصل إلى مباشرة بينهما.

وأخيراً، ودون توقع من سلطة الاستبداد الأسدية، تصل الموجة الى سوريا، رغم أن رأس “النظام”-وفي مقابلة مع صحيفة    Wall street Journal ديسمبر 2010 – قد استهجن ونفى أي احتمالية لوصول تلك الموجة، مستنداً ربما إلى سجل متجذر حافل بالإرعاب من جنازير الدبابات والمعتقلات لكل سوري تخوّل له نفسه أن يتأثر بهبوب نسائم الحرية والكرامة والانعتاق. وصلت، وانطلقت؛ ولكن قُوبلت بالحديد والنار، مدعومة بسردية الأبواق التي رأت فيما يحدث “مؤامرة كونية”، وإرهاب إسلامي، وجراثيم مرتزقة عميلة.

عمل كلُ ما تبقى من منظومات عربية – لم تصلها الموجة- بطريقته على وأد هذا السيل الجارف في المحطة السورية. كان لا بد من حرف بوصلة الموجة عن هدفها، ولكن بوأد الزميل في “الجامعة”، وإخماد الثورة عليه بجهود ازدواجية خبيثة استنزافية قاتلة. فمن جانب تم التركيز على دعم التطرف المتناغم مع سردية “النظام” القائلة بأنه يقاوم الإرهاب؛ ومن جانب آخر تجميد عضوية “الزميل”، والنأي عنه، ومقاطعته على ارتكاباته، والعمل على التلاعب ببديل لا قبول له داخلياً أو خارجياً؛ وإبعاد قوى وطنية مستقلة تحمل مشروعاً نهضوياً يعيد للربيع العربي ألقه عِماده الحرية والديموقراطية والانعتاق والحكم الرشيد.

أتى التدخل الخارجي الجارف لكل الرؤى والمخططات. تفاقمت التعقيدات بتضارب المصالح وتصفيات الحسابات على ملعب سوري مستباح تبعثر سكّانه كلاجئين في اصقاع الأرض، تعج معتقلاته بالأبرياء، تمزقه الميليشيات وصواريخ قوة عظمى وبراميل وكيماوي “الزميل”، وتخدير “أصدقاء الشعب السوري” وشلل الأمم المتحدة. وصلت كل تلك الصور الرهيبة لشعوب “الزملاء” لتُحبِط وتُخمِد أي طموحات أو تطلعات للانعتاق، ولتؤثر السلامة في ظل سلطاتها. 

وهكذا تهيأت الأرضية المناسبة لعودة “الزميل”، والتطبيع معه بحجج وذرائع جمود الملف السوري، ومعاناة الشعب السوري، وأزمة اللاجئين السوريين، وتَمَزُّق سوريا، وتغوّل إيران فيها، و{كما تصوروا} فشل ثورتها ومعارضتها وشعبها بالتغيير أو إيجاد حل. وهنا كان لابد من مراسم إعادة تعميد مشفوع بحفاوة استقبال للمنتصر على المؤامرة الدولية وعلى شعبه. وضمناً هي عودة قاهر الشعوب، حامي العروش، الزميل العزيز.

الذرائع والحجج التي سيقت لتبرير فعلة التطبيع المكشوفة واضحة حتى لمعدوم البصر والبصيرة. فجمود الملف وراءه تهرّب “الزميل” من أي حل سياسي، والتوترات بين المتدخلين في الشأن السوري. ومعاناة الشعب السوري ليست إلا نتيجة ما مارسه من قتل، وتدمير، واعتقال، وتشريد، واستدعاء ميليشيات واحتلالات، ورهن مقدرات سوريا للمحتلين. واللاجئون لا ولن يعودوا بوجوده، وهو أصلاً لا يريد عودتهم. وإيران تزداد تغولاً. والمعارضة معروف من عمل على تكبيلها، والثورة واضح مَن ساهم بتشويهها، والشعب السوري ربما آخر اهتمامات بعض المطبعين.

وإذا جاز لنا أن نخاطب المطبعين مباشرة، نقول: تتغافلون عن حقيقة الأسباب التي بموجبها جمدتم “زميلكم”، والأسباب لا تزال قائمة؛ وزاد عليها “الكبتاغون” الذي يهدد وجودكم. تنسون أنكم مَن هرَبَ من القضية السورية، ودفَعَ بملفها إلى الأمم المتحدة؛ فعبثاً تحاولون استردادها بعد تدويلها؛ وخاصة أن “بطلها” “المنتصر على شعبه” تحت أحمال قوانين “قيصر” و”الكبتاغون”، و”حفار القبور” و”حظر التطبيع” قادمان. وإن كنتم ترغبون بتصفير المشاكل لتوقي أذى المشروع الإيراني، فصعب أن تجلبوا اللغم الإيراني الأخطر وتضعوه بينكم. 

بعد قمة الكشف والانكشاف، وبعد أن أظهر الغريب لا الأخ – أكان في قمة السبع الكبار أو بعض دول العالم-  أنه يرفض التطبيع مع منظومة قتلت “شعبها”؛  لم يعد ذر الرماد في عيون السوريين ممكناً؛ وخاصة أن السوريين قد نضجوا في السنوات الماضية نضجاً بحجم آلامهم، وبقدر ما خزّنوه منذ بدء التأريخ.

 لقد تكشّف كل شيء أمامهم؛ وتبيّن لهم الكثير مما أحاط بقضيتهم من إحباطات وانتكاسات وثغرات ومؤامرات. سيراهم هذا العالم يعيدون تنظيم أنفسهم، ورص صفوفهم، وإعادة رسم مشروعهم لاستعادة وطنهم موحداً حراً كريماً مستقلاً.

ومع كل ما جرى، يحدوهم الأمل بأن الأخوَة لا تهون، ومَن ينقل المرأة العربية من حالة حرمان سياقة السيارة إلى السياقة في الفضاء، لا يقبل أن تكون أخته السورية مذلولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى