بحوث ودراسات

بداية الفتنة الطّائفيَّة وحقيقة اضطهاد المسيحيين في مصر (3 من 12)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

أصل التَّوتُّر الطَّائفي في مصر

منذ دخول الفاتحين الوافدين من شبه الجزيرة العربيَّة إلى مصر عام 20 هجريًّا، طُبّق مبدأ التَّسامح الدّيني وعدم إجبار الآخرين على اعتناق الإسلام، امتثالًا لأمر الله تعالى الَّذي يتضمَّنه قوله ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة: 256[. طالما نعم المسيحيون في ظلّ الحُكم الإسلامي بالتَّسامح، وقلَّما نشبت نزاعات طائفيَّة هدَّدت البنية الدَّاخليَّة للدُّول الإسلاميَّة أو آلت إلى نشْر الفوضى، وهو ما يشهد به المستشرق البريطاني توماس أرنولد (1864-1930م)، صاحب التَّاريخ الطَّويل في دراسة الإسلام ومتابعة أحوال البلدان الَّتي تدين به. وينقل عمارة (صـ45) ما يشير إليه أرنولد في كتابه The preaching of Islam: A history of the propagation of the Muslim faith-الدَّعوة إلى الإسلام: تاريخ نشْر العقيدة الإسلاميَّة (1896م)، في هذا الصَّدد:

إنَّه من الحقّ أنَّ نقول إنَّ غير المسلمون قد نعموا-بوجه الإجمال-في ظلّ الحُكم الإسلامي، بدرجة من التَّسامح لا نجد معادلًا لها في أوروبَّا قبل الأزمنة الحديثة. وإنَّ دوام الطَّوائف المسيحيَّة في وسط إسلامي يدلُّ على أنَّ الاضطهادات الَّتي قاست منها بين الحين والآخر على أيدي المتزمّتين والمتعصّبين كانت من صُنع الظُّروف المحليَّة، أكثر ممَّا كانت عاقبة مبادئ التَّعصُّب وعدم التَّسامح.

تجدر الإشارة إلى أنَّ أرنولد في الكتاب ذاته (1896م) قد أقرَّ بأنَّ الحُكَّام المسلمين على مدار تاريخهم لم يجبروا أحدًا على اعتناق الإسلام عنوةً، على عكس العديد من الحُكَّام الأوروبيين، الَّذين فرضوا المسيحيَّة على الشُّعوب بالتَّهديد والقهر، مثل شارلمان في إمبراطوريَّة الفرنجة، وكنوت في الدَّانمارك، وأولاف ترايجفيسون في جنوب النُّرويج، وفلاديمير في روسيا، وغيرهم. ويرصد الباحث السّياسي اللبناني، جورج قرم، في كتابه تعدُّد الأديان وأنظمة الحكم (1979م) أهم أسباب أدَّت إلى حدوث توتُّر طائفي في العالم الإسلامي، وهي سوء الأحوال الاقتصاديَّة الَّذي يجرُّ المسلمين أحيانًا إلى سلوكيَّات غير محمودة، واستغلال الاستعمار الأجنبي للتَّنوُّع الدّيني في استدراج الأقليَّات إلى التَّواطؤ معه بما يضرُّ بمصلحة السَّواد الأعظم من المسلمين. وكما يقرُّ قرم، فالحُّكَّام الأجانب، وعلى رأسهم المستعمر البريطاني، “لم يحجموا عن استخدام الأقليَّة القبطيَّة في أغلب الأحيان ليحكموا الشَّعب ويستنزفوه بالضَّرائب-وهذه ظاهرة نلاحظها في سوريا أيضًا”؛ فقد أثبتت دراسات عنيت بتلك المسألة أنَّ “هيمنة أبناء الأقليَّات في المجال الاقتصادي أدَّت إلى إثارة قلاقل دينيَّة خطيرة بين النَّصارى والمسلمين في دمشق سنة 1860م، وبين الموارنة والدُّروز في جبل لبنان 1840 و1860م” (صـ224).

كان جورج قرم منصفًا في تحليله أسباب التَّوتُّر الطَّائفي في العالم الإسلامي لدرجة أنَّه اعترف بأنَّ المشاعر السَّلبيَّة الَّتي يحملها بعض أبناء الأقليَّات في العالم الإسلامي كانت من أسباب نشوب نزاعات طائفيَّة. وهناك عدَّة وقائع تاريخيَّة تثبت أنَّ النّزاعات الطَّائفيَّة كانت نتيجة لاستفزازات من المسيحيين دفعت المسلمين إلى الانتفاض، ومنها واقعة هيمنة زوجة الحاكم الفاطمي، العزيز بالله (344 هـ/955 م -386 هـ/ 996 م)، المسيحيَّة على مقاليد الحُكم؛ فقد تولَّى أخوها أرسانيوس بطريركيَّة القاهرة عام 375هـ، ثمَّ بطريركيَّة عام 390م، أي بعد وفاة العزيز بالله، كما تولَّى أخوها الثَّاني بطريركيَّة القُدس عام 375هـ. ولا يعتبر العزيز بالله حالة فرديَّة في إطلاق يد المسيحيين وعدم التَّصدّي لاتّساع نفوذهم؛ فقد اعتاد حُكَّام الدَّولة الفاطميَّة، المؤمنين بعقيدة شيعيَّة باطنيَّة مغالية، هي عقيدة الإسماعيليَّة، على الاستعانة بغير المسلمين في تصريف أمور الحُكم، وبخاصَّة ما يتعلَّق بالأمور الماليَّة، تمامًا كما فعل الاستعمار البريطاني في مصر لاحقًا. وقد تولَّى الوزارة في عهد الدَّولة الفاطميَّة عددٌ من أهل الكتاب، من بينهم مسيحيون، مثل عيسى بن نسطورس وفهد بن إبراهيم ومنصور بن عبدون؛ ومن بينهم يهود، مثل منشا بن إبراهيم القزَّاز ويعقوب بن كلس، وقد أعلن الثَّاني إسلامه لاحقًا. وممَّا يثبت تحكُّم المسيحيين في مقاليد الحُكم في دار الإسلام في عهد الدَّولة الفاطميَّة تصريح المستشرق الألماني، آدم متز (1869-1917م)، في كتابه الحضارة الإسلاميَّة في القرن الرَّابع الهجري (1922م)، المنشور بعد وفاته، بقوله “لقد كان النَّصارى هم الَّذين يحكمون بلاد الإسلام” (جـ1، صـ105).

وقد أبدع الشُّعراء في نظْم أبيات شِعريَّة تصف تردّي أحوال المسلمين، في ظلّ هيمنة أهل الكتاب على مفاصل الدَّولة وإمعانهم في التَّضييق على المسلمين ماديًّا؛ ومن هؤلاء الحسن بن بشر الدّمشقي:

تنصَّر فالتَّنصُّر دين حقٌّ *** عليه زماننا وهذا يدلُّ

وقُل بثلاثة عزُّوا وجلُّوا *** وعطّل ما سواهم فهو عطل

فيعقوب الوزير أبٌ، وهذا *** العزيز ابن، وروح القُدس فضل!

ومنهم أيضًا الشَّاعر الخلال، الَّذي ذمَّ الهيمنة المسيحيَّة على الموارد الماليَّة للدَّولة:

إذا حَكَم النصارى في الفروج *** وغالوا في البغال وفي السُّروج

وذلَّت دولة الإسلام طرًا *** وصار الأمر في يد العلوج

فقل للأعور الدَّجَّال هذا *** زمانك إن عزمت على الخروج

نأتي إلى مسألة في غاية الحساسيَّة، أثارها الكاتب السّياسي اللبناني، جورج قرم، في كتابه آنف الذّكر (1979م)، وهي أنَّ من أسباب التَّوتُّر الطَّائفي تواطؤ بعض أبناء الأقليَّات غير المسلمة مع الغزاة والمستعمرين ضدَّ المسلمين، ومن أمثلة ذلك تحالُف أتباع الملَّة المسيحيَّة النَّسطوريَّة مع القائد المغولي، هولاكو خان، في غزو الشَّرق الإسلامي، بقيادة المسيحي كتبغا، الَّذي عمل على استمالة مسيحيي دمشق للتَّواطؤ مع جيشه. وينقل المؤرّخ الشَّهير، تقي الدّين المقريزي، في كتابه السُّلوك لمعرفة دول الملوك (جـ1، صـ425) صورة عن ذلك التَّواطؤ:

لقد استطال النَّصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانًا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم، وإقامة دينهم، فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطُّرقات، وصبوه على أبواب المساجد، وألزموا أرباب الحوانيت القيام إذا مرُّوا بالصَّليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصَّليب، وصاروا يهتفون في الشوارع: «ظهر الدين الصحيح دين المسيح»، وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم. فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب هولاكو-وهو كتبغا-فأهانهم وضرَب بعضهم، وعظَّم قدْر قسوس النَّصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى