بحوث ودراسات

كنيسة “وستمنستر آبي”.. الكنيسة الخالدة

خولة طه

باحثة في التراث الإسلامي
عرض مقالات الكاتب


 

لطالما اعتبرت كاتدرائية “وستمنستر آبي”، المكان الديني الأكثر قداسة في تاريخ بريطانيا، إذ كانت الكنيسة علامة فارقة في تاريخ الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس يوماً..

حيث باتت الكاتدرائية مركزًا سياسيًا اجتماعيًا إلى جانب كونها مرجعية دينية مهمة منذ كانت البلاد كاثوليكية المذهب، لتصبح ومنذ تأسيسها المكان الشرعي لتتويج الملوك وتابين جنازاتهم ومباركة زواجهم، حيث أقيم فيها أكثر من 16 زواج ملكي و36 حفل تتويج لملوك إنكليز، ولا ينبغي إغفال مكانتها العلمية حيث تحتل كمجمع تعليمي المركز الثالث بعد كامبردج واكسفورد، فكانت عملية ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنكليزية ضمن الدير وتحت إشراف رئيس الأساقفة.

لا بدّ من ذكر أن نظام الحكم البريطاني يعتبر الملك حارس العقيدة، وهو اللقب الذي منحه إياه بابا الكنيسة الكاثوليكية ليو العاشر للملك هنري الثامن 1521، ليستمر اعتماد هذا التوصيف في مراسم التتويج حتى يومنا هذا لكل الملوك المتوجين حتى بعد أن أقر البرلمان البريطاني تعيين الملك كراس للكنيسة الأنجلوكية، بعد انفصال الكنيسة الأنجلوكية عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر.

والجدير بالذكر، أنه وخلال تتويج الملك تشارلز الثالث سيكون في مقدمة المسيرة التي تضم ممثلون لكل المعتقدات الدينية التي باتت اليوم تمثل جزءًا أساسيًا من التنوع العقائدي للشعب البريطاني، الذي يقره الدستور البريطاني الصليب الذي يحوي ذخائر من صليب المسيح الحقيقي والمقدم كهدية من البابا فرنسيس كإشارة إلى الانفتاح بين المذاهب المسيحية في بريطانيا، وتجاوز الانشقاق التاريخي الديني بين الكنيستين الكاثوليكية والأنجلوكية.

واللافت للذكر، أن معظم مراسم التتويج كمسح الملك بالزيت المقدس من قبل كبير الأساقفة أو جلوسه على كرسي العرش الملكي () والتي تعتبر من أقدم قطع الأثاث الملكية التي ماتزال المملكة المتحدة تفخر بكونها جزءًا أساسيًا من تراثها العريق وحرصها الشديد على الأعراف والتقاليد الملكية الأصيلة كمملكة مرتبطة بجذورها التاريخية وسطوتها العرقية بكل تفاصيلها التي ولربما اليوم لم يعد الكثير يكترث بالتراث بل ويهاجمه أحيانًا.

تابعنا في تويتر

قارورة الزيت

لقارورة الزيت التي يمسح بها الملك أثناء التتويج قصة فريدة، إذ أن القارورة المصنوعة من الذهب على شكل نسر كانت بإيحاء من مريم العذراء التي تقول الأسطورة أنها أعطت القارورة للقديس توما الكانتربري في القرن 12 في رؤيا مانحة له هذا الزيت، ليمسح به ملوك بريطانيا وهو عبارة عن زيت زيتون من جبل الزيتون قد عصر خصيصًا في كنيسة القيامة في القدس الشريف، خلال مراسم تقديس خاصة ليباركهم في مهامهم في حفظ الكنيسة والدولة.

العرش الملكي

وهو كرسي الملك إدوارد المعترف الذي صنع من الخشب بطول يتجاوز المترين إلا أنه كسي بالنقوش والزخارف النباتية الذهبية، إضافة لتزيينه بقطع الذهب والأحجار الكريمة ولا يجلس عليه إلا مرة واحدة أثناء التتويج، ولم يغادر جدران الدير أبدا محمول على قواعده المعدنية الأربعة والتي صنعت على شكل أسود مطلية بالذهب، تمت إضافتها لاحقًا ويتم ترميمه دوريا لئلا يتفتت الخشب الذي تجاوز عمره الـ 800 عام.. 

تضم الكنيسة العرش الذي يجلس عليه الملك أثناء مراسم التتويج في الكاتدرائية وبحضور ممثلي المؤسسة الملكية والدينية والمدنية، وكذلك الضيوف المدعوين من شتى انحاء العالم من ملوك ورؤساء، حيث يؤدي القسم الملكي والصلوات ويسمع فيها إيمان الولاء من الجميع، ويوضع هذا العرش الشهير بين مصلى هنري السابع وسانت ادوارد ليضم في جزئه السفلي حجر القدر skunsky الذي جلبه ملك انكلترا ادوارد الاول بعد غزوه لإسكتلندا والذي يعد رمزًا لاستقلال إسكتلندا.

الكنيسة الخالدة:

يعود تاريخ بناء الكنيسة حسب الوثائق الرسمية الى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: إلى عام 616 حيث عمد كل من أسقف لندن مليت وصديقه صابرث إلى إنشاء ضريح مقدس، حسب الإسطورة التي تقول أن أحد الصيادين على نهر التايمز، قد تمثل له القديس بطرس في رؤيا وأشار إليه ببناء كنيسة متضمنة الضريح…

المرحلة الثانية: الأكثر أهمية في تاريخ البناء في عهد الملك ادوارد المعترف، والمشهور بتقواه والذي حكم بين 1042-1065، حيث عمد وخلال خمس سنوات إلى بناء هيكل ضخم للكنيسة محولاً إياها إلى دير كاثوليكي كبير موقفًا حولها أرض واسعة، وعلى الرغم من أن الملك ادوارد أراد تكفير عهده بذهابه إلى الحج، والذي عجز عن الوفاء به من خلال بناء هذا الدير ليكون مخصصًا لإيواء الرهبان البينديكيين، إلا أن هناك رغبة جلية منه بجعل هذا البناء الفخم عبارة عن مدفن ملكي له، بعد وفاته والذي فعلًا تم افتتاحه قبل أسبوع واحد من وفاته ليدفن فيه لاحقاً ضمن حفل تابين ضخم حول فيما بعد إلى بروتوكول مراسم تشييع للملوك الإنكليز حتى يومنا هذا.
وفعلا يعتقد أن خليفته هارولد الثاني آخر ملوك انجلو ساكسوني قد توج في الدير 1066، حيث يمكن القول بأنه أول حفل تتويج ملكي لوليام الفاتح القائد النورماندي لإنكلترا.

البناء الأول للكنيسة على الطراز الرومانسكي المعروف بالنورمان عند الانكليز، حيث لم تكن أقل شانًا من البناء الموجود اليوم، ولكن لم ينجُ منها شيء خلال الفترات اللاحقة التي طالت فيها حملات التدمير معظم الأديرة والمباني الكنسية، وأما التصور الوحيد للكنيسة هو من خلال الصورة الباقية الوحيدة والتي تظهر أجزاء صغيرة فقط.

أما في المرحلة النهائية استمر بناء الدير مع الانقطاعات قرابة 250 عام، بين العامين 1245-1517 كمجمع كبير يضم الكاتدرائية والدير وقصر الشابتر الخاص بالملك سابقًا ليكون لاحقًا مقرًا للبرلمان. 

مع عام 1245 تم إعادة بناء الكنيسة بطراز قوطي، وذلك لأن الطراز القوطي اتسم بالفخامة والعظمة بما يتناسب مع رؤيا المؤسسة الكنسية المتوافقة، مع المؤسسة الملكية لتلك الكاتدرائيات والكنائس والمجمعات الدينية من قداسة في قلوب العامة ورجالات الحكم، إذ أننا ولابد أن نؤكد أن العمارة القوطية هي التي شكلت الهوية الدينية المسيحية في تاريخ المؤسسة الكنسية سواء الكاثوليكية أو الارثوذكسية وهو ما نراه حتى اليوم في الدول الأوروبية.

إن كاتدرائية “وستمنستر آبي” مثال فريد للتصميم الفني سواء المعماري أو الزخرفي للنموذج القوطي، فهي مثيرة للدهشة بالحجم الذي تجاوز طول هيكلها 156.5 متر، المتخذ شكل الصليب بينما كان ارتفاع الصحن المركزي 31 متر، ليكون الارتفاع الداخلي لصحن القبة القوطي الأعلى في انكلترا، فكانت الكاتدرائية نموذجاً صارخاً لثراء الهندسة المعمارية والديكورات الداخلية لتلك الحقبة الزمنية.

اعتمد على العناصر المعمارية الرشيقة كالأقواس المدببة المدعومة بالأعمدة الدائرية الطويلة الضيقة، والتي اكسبت المساحة الداخلية للبهو خفة ورحابة هائلة، خالقة انطباعًا بهيكل كنسي متجدد الهواء وخفيف الوزن، متسع الافق معززًا بتأثير الإضاءة الساطعة من خلال النوافذ، والتي تم اختيار التصميم الدائري لها ذات التقطيعات الوردية بالتشكيلات الزجاجية الملونة لتزيين الواجهات الضخمة الشمالية والجنوبية للكاتدرائية، ليعطي إحساسًا غالبًا بالاتساع أكثر مما هي عليه في حقيقة الأمر على العكس تمامًا من مظهرها الخارجي الذي يوحي بالضيق والصغر.

وهذا يأخذنا للحديث عن السقف الفريد من نوعه الذي نفّذ على شكل مروحة معلقة، والتصميم هنا لم يكن زخرفيًا جماليًا بحتًا وإنما يؤدي دورًا إنشائيًا وظيفيًا، حيث تساعد في إنشاء الضغط اللازم لدعم المنافذ المخروطية للبهو الكبير، وعلى الرغم من تعقيد هذا الهيكل إلا أنه استطاع توفير الإضاءة البصرية الهائلة للصحن الداخلي الضخم، وأما من الناحية الشكلية فقد بدت تلك الأقواس المتشابكة وكأنما حرة طافية في الهواء الطلق..  

إن اجمل العناصر المعمارية الداخلية التريفوريوم، وهو عبارة عن معرض زخرفي ضيق يحمل نقوش ذات مضمون فني رائع وضع فوق الصحن الرئيسي ليكون نقطة جذب للأنظار بما فيه من ألوان خلابة، إضافة للفسيفساء التي زينت الارضية المصنوعة بطراز cosmatesco  الزخرفي الفني التي تعود بتاريخها إلى القرن الثاني عشر، وكذلك البوابات الحجرية التي تفصل الكنيسة عن المذبح المزينة بالمنحوتات والنقوش، التي تصور مشاهد من حياة الملك المعترف ادوارد المقدس والمؤرخة للقرن الخامس عشر. 

لا بدّ من فهم أن بداية تاريخ البناء اعتبر كمزار لتكريم ادوارد المعترف المكان الأول الذي اعتبره الملك هنري يتناسب مع أن يكون مقبرة ملكية خاصة، لينتهي العمل بشكل كامل في المجمع عهد الملك ريتشارد الثاني تحت إشراف المهندس المعماري هنري ايفيل.

ثم لاحقًا قام الملك هنري الثامن 1534 بالاستيلاء على الدير، إلا أن هذه الكنيسة ولارتباطاتها الملكية الوثيقة تم إعلانها كاتدرائية 1550، إذ أن هذه الارتباطات هي أيضا التي حمتها من الهجوم التي تعرضت لها سائر الأديرة لتحطيم الإيقونات، خلال فترة الكومنولث في أربعينيات القرن السادس عشر، ليترسخ في تاريخ انكلترا ملكية كاتدرائية وستمنستر ابي، التي استمرت فيما بعد كالمكان الرسمي التقليدي الأنسب لتتويج ودفن الملوك الانكليز.

تابعنا في فيسبوك

ومن الأجزاء المهمة للدير:

  • التابوت المقدس:

 ولأن تاريخ بناء الكنيسة الأول مرتبط بضريح الملك المعترف ادوارد، فقد قام الملك هنري الثالث 1269 بإعادة بناء العنصر المركزي للكنيسة تابوت الملك ادوارد الحجري على الطراز الرومانسكي، تحت إشراف أساتذة إيطاليين وأكبرهم بيتر الروماني، متالفًا من ثلاثة أجزاء: القاعدة الحجرية والضريح الذهبي والمظلة الخشبية، فيما حمل التابوت نقوشًا للفرسان والقديسين، وقد خضعت مؤخرا السقيفة للترميم والطلاء للمحافظة على طرازها التقليدي.
وقد كان الضريح هدفا للسرقة إبان عهد الملكة ماري، إلا أنه ومع استقرار الكاثوليكية تم إعادته وحمايته حتى بعد التحول الكبير للبروستانتية..

  • مقابر ملكية:

 تضم أفراد العائلة الملكية والشخصيات المهمة، إضافة أنه في العصور الوسطى أصبح بإمكان الأغنياء شراء مكان ليدفنوا في مقبرة الكنيسة.

  • ركن الشعراء:

وهو يحتل جزء من الجناح الغربي للدير، حيث دفن فيها كبار الشعراء والكتاب والأدباء الذين أضافوا لتاريخ الأدب الانكليزي إضاءات براقة لتكريمهم من خلال إقامة نصب تذكاري لكل منهم طبعًا بشكل متأخر زمنيًا كالشاعر جيفري تشوسر المتوفي 1400، فيما وضع نصبه 1556 اعترافًا بموهبته الشعرية في تطوير الأدب البريطاني. ولا بد من ذكر أن الواجهة الغربية الأكثر إثارة، لأنها تحتوي تماثيل لعشرة شهداء من القرن العشرين من بينهم مارتن لوثر كينج..

  • غرفة القمم:

 إن هذه الغرفة تمثل أقدم جزء لم يصله أي ترميم، وذلك لكونه يقع تحت الحجيرات الرهبانية، ولا يدخله إلا عدد محدود لما له من أهمية بالغة حيث كان في البداية يمثل خزينة الدير، ويحتوي على الصناديق التي تخزن بها الأموال والثروات القادمة من التبرعات القادمة للدير سواء من الملوك أو العامة، ثم تحولت الخزينة بملكيتها والإشراف المباشر عليها للملك ومسؤوليه، وقد كانت هيئة المحلفين تشرف على إنتاج المسكوكات الذهبية والفضية الجديدة، وتحرص على امتثالها للمعايير الملكية حيث يوجد فيه أجهزة الوزن والقياس الأكثر دقة في العالم… 

  • بيت الشابتر:

  بيت الفصل حيث تم بناءه بالتزامن مع الجزء الشرقي من الدير في منتصف القرن الثالث عشر، بأمر من الملك هنري الثالث، ولكن تم هدمه لاحقًا وإعادة بناءه 1872من قبل السير جورج جيلبرت وفق النموذج القديم..

بني هذا البيت بتكامل معماري فني استثنائي وفق مخطط هندسي مثمن الأضلاع حيث كانت الأضلاع الستة المقابلة للضلعين على جانبي الباب الخشبي الأقدم في بريطانيا، حتى اليوم منذ القرن الحادي عشر عبارة عن جدران منخفضة تعلوها نوافذ ضخمة تنتهي بأقواس تتصل بالسقف بعقود منحنية، وقد كانت النوافذ مزينة بزجاجيات تحمل رسوماً ونقوشاً ملونة تعكس رمزيات تشير للحقب الزمنية البريطانية، وقد تم إعادة ترميمها بعد أكثر من تدمير تعرضت له، إضافة للأرضية المرصوفة بالفسيفساء الملونة وكذلك اللوحات الجدارية التي تصور مشاهد من يوم القيامة ورسوم لمريم العذراء والملك جبريل.

وتعود مكانة هذا البيت لدوره السياسي، فقد كان مقر المجلس الملكي الكبير ومجلس العموم الذي يتزعمه الملك منذ 1547، بعد أن كان مقراً لاجتماع الرهبان البينديكتين وكما يحتوي على أرشيف وثائق الدولة التاريخية والدينية والمدنية.

احتوى مجمع وستمنستر آبي على المتحف المفتوح للعامة، إضافة لمئات التماثيل للقديسين والشخصيات المهمة واللوحات الجدارية، إضافة للمدرسة الدينية الموسيقية، وقد أضيف في القرن الماضي نصب الجندي المجهول كتذكار لقتلى الحرب العالمية الأولى…

لا يمكننا إلا أن نقول: إن كاتدرائية وستمنستر آبي ماهي إلا أرشيف حي لتاريخ انكلترا يمتد بجذوره لأكثر من ألف عام،  فقد كان ركناً أساسيًا أثّر بتاريخ البلاد وتأثر به، بل إن أحجاره قادرة على إخبارك القصة كاملة عن هذه الأرض وشعبها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى