بحوث ودراسات

بداية الفتنة الطّائفيَّة وحقيقة اضطهاد المسيحيين في مصر (1 من 12)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يعتبر الدُّكتور محمَّد عمارة، المفكّر الإسلامي المصري الكبير وعضو مجمع البحوث الإسلاميَّة، رحمه الله تعالى، في مقدّمة كتابه في المسألة القبطيّة: حقائق وأوهام (2001م) أنَّ مسألة “الوَحدة الوطنيَّة” كانت من مشكّلات وعيه السّياسي؛ لأنَّها ببساطة “السَّبيل إلى دائرة الانتماء العربي والقومي”؛ ولأنَّ تكوينها هو نقطة الانطلاق والأساس في تكوين القوميَّة العربيَّة، ومن ثمَّ الحضارة الإسلاميَّة (صـ6). يشير عمارة إلى حرْص دولة الخلافة الإسلاميَّة على تطبيق العدالة في مصر في بداية دخول الإسلام إليها، مذكّرًا بوصيَّة أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، لواليه على مصر، مالك بن الحارث الأشتر النَّخعي، عام 37ه بأن يُحسن معاملة الأقباط، الَّذين لم يكن قد أسلم منهم حينها إلَّا القليل، إذ لم يكن قد مرَّ على الفتح الإسلامي حينها سوى 16 عامًا. فقد ورد في كتاب نهج البلاغة للمعمَّم الشّيعي الشَّريف الرَّضي أنَّ الإمام عليّ قال للأشتر “النَّاس صنفان: إمَّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق”، كما في شرح الإمام محمَّد عبده للكتاب (صـ334).

لم تعرف دولة الإسلام، منذ تأسيسها في المدينة المنوَّرة عام 1 هجريًّا/622 ميلاديًّا، التَّعصُّب الدّيني؛ بل إنَّ الصَّحيفة، دستور المدينة، قد نصَّت على التَّعدُّديَّة الدّينيَّة. مع ذلك، لم تسلم تلك الدَّولة النَّاشئة من مؤامرات القوى المعادية للإسلام، وهي الَّتي كانت سببًا في إشعال الحروب والفتن طوال القرن الأوَّل الهجري، حتَّى استقرَّت الدَّولة الإسلاميَّة وانبسط سلطانها على رقعة كبيرة من محيط شبه الجزيرة العربيَّة. تجدَّد اعتداء أعداء الإسلام على الدَّولة الإسلاميَّة على مدار القرون الأربعة عشر الَّتي تشكّل عُمْر تلك الدَّولة، وكلمَّا اشتدَّ ضعْف الدَّولة من جرَّاء تهافتها على متاع الدُّنيا، ازدادت قسوة الضَّربة الباطشة الموجَّهة إليها؛ ولعلَّ أجدر ما يُشار إليه في هذا السّياق الحلف الصَّليبي-التَّتري في الفترة ما بين القرنين الرَّابع والسَّادس للهجرة، والحلف الغربي-الصُّهيوني منذ مطلع القرن الرَّابع عشر للهجرة وحتَّى السَّاعة. ويرى المفكّر الرَّاحل أنَّ الوَحدة الوطنيَّة بين أبناء الأمَّة العربيَّة كانت من أهمّ مقوّمات إفشال مخطَّطات التَّدخُّل الأجنبي وشقّ الصَّفّ.

على مرّ العصور، كان المسيحيون في مواجهة الغزو الخارجي، ولا يمكن أبدًا تجاهُل ذلك بإبراز خيانة فئة قليلة سقطت في مستنقع الخيانة وتعاونت مع المستعمر الصَّليبي ضدَّ المسلمين. يذكّر عمارة بحالة المعلّم يعقوب حنَّا، الَّذي تعاوَن مع جيش الحملة الفرنسيَّة على مصر مطلع القرن التَّاسع عشر للميلاد، بأن جنَّد 2000 مسيحي وضمَّهم إلى جيش الحملة، ليشتركوا مع جنود الحملة في الانتهاكات الَّتي ارتكبوها. حتَّى بعد فشل الحملة وجلائها عن مصر، رافق حنَّا جنود الحملة، قاصدًا بريطانيا الَّتي راسلها ليغريها باستعمار مصر لإخضاعها وفصلها عن محيطها الإسلامي. ولأنَّ العمالة والخيانة والنَّذالة ستظلُّ خنجرًا مسمومًا يضرب الأمَّة في ظهرها طالما يوجد مَن يقبلون التَّعاون مع العدو ضدّ أبناء الدّين والوطن، تكرَّر نموذج يعقوب حنَّا بعد الاحتلال البريطاني لمصر أواخر القرن التَّاسع عشر للميلاد؛ ويُذكر في هذا السّياق تواطؤ المسيحي يوسف وهبة باشا مع سلطات الاحتلال وقبوله تشكيل الوزارة بدعم من تلك السُّلطات عام 1919م، برغم مقاطعة الشَّعب للمحتل إبَّان ثورة 1919م. غير أنَّ شابًا مسيحيًّا يُدعى عريان يوسف سعد، كان عضوًا في منظَّمة اليد السَّوداء، الَّتي كانت تستهدف اغتيال ضباط الاحتلال البريطاني والمتعاونين معهم من المصريين، حاول اغتيال وهبة، درءً للفتنة الَّتي كان من الممكن اشتعالها لو أنَّه اغتيل على يد مسلم.

ويشير عمارة كذلك إلى واقعة إلقاء القسّ سرجيوس ملطي خطبة من منبر الأزهر الشَّريف، خلال فترة ثورة 1919م، قال خلالها “إذا كان الإنجليز هم الَّذين سيحمون الأقباط، فليمت كلُّ الأقباط، ولتحيا مصر حرَّة مستقلَّة” (صـ13). ويجد المفكّر الرَّاحل في السّياسي المصري الشَّهير، مكرم عبيد، نموذجًا فريدًا للوطنيَّة والولاء للانتماء الحضاري الإسلامي لمصر، مذكّرًا بمقولته المثيرة للجدل، الَّتي نشرتها مجلَّة الهلال في عدد أبريل 1939م “نحن مسلمون وطنًا ونصارى دينًا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارًا…اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين”. يتناقض ذلك التَّوجُّه الفكري لمكرم عبيد مع ما عبَّره عنه معاصره، سلامة موسى، في كتابه اليوم والغد (1928م)، بما يدعو إلى تكريس تبعيَّة مصر للغرب الصَّليبي ومحو هويَّتها الإسلاميَّة؛ حيث يقول “يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوروبا؛ فإني كلما زادت معرفتي بالشَّرق، زادت كراهيتي له، وشعوري بأنَّه غريب عني؛ وكلما زادت معرفتي بأوروبا، زاد حبي لها، وتعلُّقي بها، وزاد شعوري بأنَّها مني وأنّي منها…أريد من التَّعليم أن يكون تعليمًا أوروبيًّا لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه…أجل، يجب أن نكون أوربيين، بل أوربيين صالحين، نشترك في ’’عصبة الأمم‘‘ ونعمل لتقدم العلوم، نخترع، ونكتشف، ونقدم مواهبنا لخدمة الإنسان ورقيِّهِ، ونعيش عيشة حرة بعيدة عن التَّعصُّب أو الجمود، بحيث ينتفع منا العالم كما ننتفع به…هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرًّا وجهرة. فأنا كافر بالشَّرق، مؤمن بالغرب” (صـ5-7). ويُعتبر الدُّكتور لويس عوض، أستاذ الأدب الإنجليزي الَّذي عمل في التَّدريس بجامعة القاهرة بعد حصوله على أعلى الدَّرجات العلميَّة في تخصُّصه من كبرى الجامعات الغربيَّة، من أكثر المتأثّرين بفكر سلامة موسى؛ حيث أيَّد دعوته إلى اغتيال اللغة العربيَّة واستبدالها بالعاميَّة المصريَّة. ويرفض عمارة التَّسوية بين الوطنيين من مسيحيي مصر وبين بعض أقباط المهجر، ممَّن يصفهم بـ “العملاء…الَّذين يستعدون الإمبرياليَّة والصُّهيونيَّة على مصر”، الَّذين يدعون الجيش الأمريكي إلى “تحرير” مصر من الإسلام وأهله (صـ15).

مشروع تفتيت العالم الإسلامي تحت الضَّوء

يسلّط المفكّر الإسلامي الرَّاحل تركيزه على مشروع المستشرق الغربي اليهودي، برنارد لويس، لتمزيق العالم الإسلامي إلى دويلات اثنيَّة متناحرة بسبب الاختلافات المذهبيَّة، والَّذي نشرت عنه مجلَّة تصدر عن وزارة الدّفاع الأمريكيَّة، البنتاغون. ويشمل المشروع إعادة تقسيم الدُّول الإسلاميَّة، من باكستان إلى المغرب، إلى 30 دويلة وأكثر، لمصر فيها ما لا يقلُّ عن دولتين: دولة مسلمة شمالًا وأخرى مسيحيَّة في الجنوب. وفق تعبير لويس، سيتحوَّل العالم الإسلامي إلى “برج ورقي، ومجتمعات فسيفسائيَّة…فيتحقَّق الأمن لإسرائيل لنصف قرن على الأقل”، نقلًا عن عمارة (صـ17). وكما يشير المفكّر السّياسي العلماني المصري، سعد الدّين إبراهيم، في كتابه الملل والنّحل والأعراق: هموم الأقليَّات في الوطن العربي (1994م)، وظَّفت إسرائيل مخطَّط برنارد لويس بأن عملت على “تثبيت وتقوية الميول الانعزاليَّة للأقليَّات في العالم العربي…وتحريك هذه الأقليَّات لتدمير المجتمعات المستقرَّة، وإذكاء النَّار في مشاعر الأقليَّات المسيحيَّة في المنطقة، وتوجيهها نحو المطالبة بالاستقلال”، نقلًا عن لسان السّياسي الإسرائيلي الأشهر، دافيد بن غوريون، كما يورد عمارة (صـ18). وقد نشأت في مصر في خمسينات القرن العشرين منظَّمة تسمَّى “جماعة الأمَّة القبطيَّة”، دعت منذ حينها إلى تحرير مصر من الاستعمار الإسلامي؛ وتزامن ذلك مع زيادة الهجرات المسيحيَّة إلى الغرب، وبخاصَّة إلى أمريكا وأستراليا وكندا، والَّتي يرى عمارة أنَّ أهدافها كانت انتقاميَّة؛ وكأنَّ المسيحيين أرادوا الانتقام من نظام الرَّئيس المصري الرَّاحل، جمال عبد النَّاصر، بسبب مصادرة أراضي بعضهم بموجب قانون الإصلاح الزّراعي، وتمصير الشّركات الأجنبيَّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى