أحمد عوض- كاتب سوري|
في عصر كسر القيم والثوابت يصبح الحفاظ على الأصول والتمسك بالهوية المتجذرة بها ضربًا من التخلف المحض، الذي يسعى المجتمع بأكمله لإزالة كيانه الذي غدا مهيمنًا على تفاصيل الحياة، وباستعارة تعبير نيتشه يمكننا القول بأن أي تغيير في فسيفساء المجتمع لا يحتاج سوى لدفع عجلة التغيير -سواء كان إيجابيًا أو سلبيًّا- بقوة ونعومة في آن واحد لمرة واحدة فقط، ومن بعدها سيتكفل المجتمع بإتمام بقية الخطوات على وجه مثالي، فعجلة التقدم والتحضر على حد تعبير البعض لا تعرف التوقف دون قوة مساوية لها في الشدة ومعاكسة لها في الاتجاه؛ على رأي الفيزيائيين، ولكننا بالنظر إلى الواقع المزري الذي نعيشه نجد أن جميع القوى -الموجهة وغير الموجهة- تزيد سرعة العجلة الدوارة تلك، فتتحول من عجلة تقدم إلى عجلة تحطيم للملامح المتبقية من الوعي المتفشي في المجتمع، لتتكسر بفعلها القواعد مع القيود، فينشأ لنا جيل لا رادع له ولا وازع، وهنا يتحتم علينا أن نسأل سؤالًا مهمًّا:
متى النهاية؟ وإلى أين سيصل التنصل من الرواسخ والثوابت؟
الحقيقة أن هذا الموضوع شائك الطرح، إذ أن كل المجتمع يسعى للهروب منه ويكره مواجهته، فالعمال والصناع يلقون باللوم على كواهل المثقفين إذ أنهم أصحاب الفكر والتخطيط والفهم، والمثقفون يلقون باللوم على كواهل العمال والصناعيين إذ أنهم أصحاب الفعل المباشر على أرض الواقع، وفي منتهى المطاف يتهرب الجميع من هذه المسؤولية العظمى ويلتفتون لطرح تساؤلات سخيفة حول المسلَّمات والعقائد الدينية، فكلما حدثت أحدهم عن التغيير المنشود والالتزام بالمبادئ والعودة إلى الجذور ألقى إليك بشراك تهمه التالفة؛ لماذا يأسر الدين حرية المرأة بالحجاب؟ ولماذا يقول القرآن للذكر مثل حظ الأنثيين؟ وينسى الجميع أو يتناسون غرضنا الأساسي الذي كنا وما زلنا وسنبقى نحمله ونسعى ونطوف به في كل أنحاء الأرض حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
إن المادية في مواجهة الثوابت الدينية ما هي إلا فكر ساذج يهرع الفارغون إليه كما تهرع الحشرات إلى النار، فالاقتناع والإكراه هما الباعثان الوحيدان لإنجاز أي فعل يحمل قيمة أو هدفًا ساميًا، وبذا فإن تحطيم الباعث الأول -الذي هو أسنى مقاصد المادية يؤمّن للضمائر غفوة طويلة بعض الشيء، فكل من يعادي هذين الباعثين -ولْأستبدل الإكراه بالانصياع ها هنا- يعلم علم اليقين أنه يعادي لواعج النفس البشرية الموجودة لدى الجميع، ويدرك إدراكًا تامًّا أنه يخوض حربًا خاسرة، لا مجال للفوز بها سوى بإماتة الرواسخ الفكرية والعَقدية؛ بل وحتى اللغوية، فمحو هوية العدو هو انتصار ساحق حتى قبل أن تبدأ المعركة، إذ أن عدوك الذي محوت هويته سيستتر بهويتك، وبذا ستخرج بغنيمتين عوضًا عن الغنيمة الواحدة؛ الفوز والعدو.
يحكي لنا الواقع المُعايَش شهادة صادمة ومؤسفة، فالسواد الأعظم من الناس -إلا من رحم الله- باتوا مستعدين للمضي في رحلة التطور التي أفضل تسميتها مسيرة “التأورب والتأمرك” إن صح التعبير، حتى ولو تطلب الأمر منهم إماتة جميع القيم والأصول الدينية في قلوبهم، فتراهم يتنطعون في كل محفل بأن أوروبا لم تتطور إلا بعد نبذها الدينَ من حياتهم، وأننا وبمفارقة عجيبة نتمسك بهذه التقاليد الكلاسيكية ونَنشُد التطور الأوروبي المذهل، ولعل هذه الحجج هي من أوهى الحجج التي طرحت في الآونة الأخيرة، فالناظر المتمعن في التاريخ الأوروبي يجد أن أوروبا ابتعدت عن دين يقتل العلماء ويجرم الفكر فسمت وارتقت، وأننا ابتعدنا عن دين يعظم العلم ويقدسه فهبطنا إلى ما لا يرام، والمؤسف أن كل من يحاول إعلاء صوته بشيء من هذه الحقيقة يُعدَم وجوده في المجتمع، فلا يقبل منه قول ولا حجة ولا دليل ولا برهان، وفي المقابل يتم تسليط الضوء على كل فارغ يخالفه الفكرَ ويهاجمه بلا بينة ولا سلطان مبين، ولو نظرنا إلى القرآن الحكيم لوجدنا الإنصاف والعدل متجليًّا في معاملة الأشخاص المخالفين للحق، فتراه ينبذهم ولا يعدم وجودهم فيبقي بهذا مجالًا لعودتهم في حال آبوا وتابوا، وأكبر مثال صارخ على هذا القول قصة امرأة العزيز في سورة يوسف، فحين كانت منغمسة في حمأة الخطيئة تجاهل وجودها تجاهلًا مميتًا لكل بذرة تمادٍ في الغي قد تنشأ بسببها؛ “وراودته التي هو في بيتها عن نفسه”، ثم نراه يعيد لها اعتبارها حين تابت وآبت؛ “قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق”.

إن هذا الإنصاف الذي أصَّله القرآن الكريم في نفوسنا على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمان هو العدو اللدود لكل محاولات دهس الدين في سياق الحضارة المزعومة، ولا حل للتخلص منع سوى بإبعاد حامليه وتهميشهم، بل وتشويه صورهم في عيون الناس، فكل محاولة تتأتَّى في هذا السبيل يمكننا تلخيصها في تعبير واحد: تعويد اللاعادي، أو هي بتعبير آخر إقناعنا بأن الفاعلَ مجرور!