سياسة

بزوغ النظام العالمي متعدد الأقطاب وموقع المسلمين فيه

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

MultiPolar World Order فجأة أصبحت بيجين (بكين) مقصدا لوفود السياسيين من فرنسا والمانيا إلى البرازيل وروسيا و السعودية و ايران، وأصبحت بيجين محطة مهمة تناقش فيها مسودات صفقات وقرارات وحلول لقضايا عالمية، فهل هذا مؤذن بانتقال مركز القرار من واشنطن إلى بيجين؟ وهل يعكس هذا أفول شمس الهيمنة الأمريكية وبزوغ شمس التنين الصيني في تحديد معالم النظام العالمي الجديد New World Order والذي يراه بعض المراقبين أنه يتشكل على خلفية أزمة أوكرانيا ويتجه ليكون عالما متعدد الأقطاب Multipolar؟

هذا ما سنجيب عليه في هذه المقالة بعون الله.

تابعنا في فيسبوك

تغيرات النظام العالمي

-النظام العالمي ثنائي القطبية

انتهت الحرب العالمية الثانية بدمار واسع في أوروبا وظهور قوتين عظميين: الاتحاد السوفياتي، الحامل لراية النظام الاشتراكي_الشيوعي تحت بسطار الجيش الحمر الذي اجتاح شرق أوروبا وصولا إلى برلين عاصمة المانيا، و أمريكا التي أصبحت بحكم الواقع زعيمة المعسكر الرأسمالي الغربي بعد إنهاك القوى الأوروربية، خاصة وأن أمريكا لم تطل أرضها ويلات الحرب، بل حفّزت الحرب ماكينة الإنتاج الاقتصادي الضخمة لأمريكا مما مكّنها أخيرًا من التخلص من ذيول الركود الاقتصادي الكبير (الذي وقع في 1929).

ومع تشكل حلف الناتو العسكري في 1949 بقيادة أمريكا لضمان حماية غرب أوروبا من خطر التوسع الروسي الشيوعي وتشكل حلف وارسو المضاد لحلف الناتو في 1955 لمواجهة خطر المعسكر الغربي، بعد قيام موسكو بتسليم الحكم إلى مواليها من الأحزاب الشيوعية حيثما وطأت أقدام الجيش الأحمر، شهدت السياسة الدولية مواجهة بين المعسكرين القطبين، وخضعت السياسة الدولية لما عرف بالثنائية القطبية  Bipolar world، وفي مؤتمر القمة بين الزعيمين خروتشوف وكنيدي في فيينا في حزيران 1961 تم وضع القواعد المنظّمة للتنافس بين الطرفين على المسرح الدولي، والكفيل بمنع صدام مباشر بينهما مع سعي كل طرف لتعزيز مكاسبه في ساحات المنافسة الدولية، فيما عرف بالحرب الباردة والتي استمرت حتى إنهيار جدار برلين، الذي فصل بين منطقتي النفوذ الغربي والشرقي في برلين في 1989 والذي جاء مؤذنا بانفراط عقد الاتحاد السوفياتي نفسه في 1991 ونهاية حقبة “الحرب الباردة”.

تابعنا في تويتر

آحادية الهيمنة الأمريكية

هذه اللحظة المفصلية في السياسة الدولية دشنت حقبة الهيمنة الآحادية لأمريكا التي تربعت على قمة النظام الدولي دون منازع، واعتبرها كثيرون، ومن أشهرهم المفكر السياسي الأمريكي فرنسيس فوكوياما، أنها تشكل “نهاية التاريخ”، وبالتالي كرست النصر النهائي لمنظومة الحضارة الرأسمالية الليبرالية على البديل الاشتراكي الشيوعي، وهذا ما جعل كبار الرأسماليين يغرقون في نشوة النصر وقد انفتحت أبواب العالم أمام جشعهم اللامتناهي لنهب الثروات واستعباد شعوب الأرض دون خوف من وجود “بديل” يلجأ إليه الناس هربًا من جحيمهم ونير ظلمهم.

وبينما غرقت روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي، في لملمة جراحاتها في عهد بوريس يلتسين الرئيس السكران، توجهت أمريكا إلى إحكام قبضتها على أوروبا، بعد انفراط عقد حلف وارسو، وعملت على توسيع شبكة حلف الناتو بالعمل على ضم دول وسط وشرق أوروبا إليه مما أزعج روسيا دون أن يتخذ يلتسن الإجراء الحاسم لكبح شهية أمريكا في التوسع في محيط روسيا والمهدد لأمنها القومي، ولم تلتفت “الدولة العميقة” في واشنطن إلى تحذير عدد من كبار الساسة الأمريكيين، ومنهم جورج كينان الذي رسم معالم السياسة الأمريكية تجاه روسيا خلال الحرب الباردة ومنهم وزير الدفاع في عهد كلينتون ويليام بيري، من مغبة المضي بعيدا في استفزاز الدب الروسي الذي لا بد وأن ينتفض ولو بعد حين.

هذه الحقبة (ما بعد انفراط الاتحاد السوفياتي) شهدت حالة من السيولة في السياسة الدولية بانتظار تحديد معالم النظام العالمي الجديد الذي سبق لجورج بوش الأب أن بشّر به بعد حشده لتحالف دولي ضم 32 دولة لطرد العراق من الكويت في حرب الخليج الثانية في 1991. فقام فريق المحافظين الجدد في عهد ابنه بوضع خطتهم الاستراتيجية في بناء الإمبراطورية الأمريكية موضع التنفيذ في 2001 بعد “كذبة 9/11” التي قدمت الذريعة الإعلامية اللازمة لاحتلال أفغانستان 2001 ثم في 2003 لاحتلال العراق وراء ستار الكذبة الفاقعة بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وكان الغرض الأساس لقادة أمريكا هو فرض الهيمنة الآحادية الأمريكية على المسرح الدولي، والقائمة على فرض أمريكا نفسها شرطي العالم،  بمنطق الكاوبوي  الذي لا يُسأل عما يفعل رغم ضربه القانون الدولي بعرض الحائط، فليس هناك من يجرؤ على كشف عورة دجله وكذبه وإجرامه، بعد أن رفع جورج بوش الابن شعار: “من ليس معنا فهو ضدنا”.. ومن يجرؤ على أن يكون ضد الفرعون الأمريكي!!


هذه المغامرات العسكرية رافقتها تكاليف مرتفعة للمحتل الأمريكي: ليس فقط بسقوط القتلى والجرحى و التكاليف المالية الباهظة، ولكن أيضا على الجانب المعنوي الإعلامي بعد انكشاف الكذب الأمريكي عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، ثم عن فضائح العهر الأمريكي في سجون أبو غريب وباغرام و غوانتانامو، ويلحظ هنا وجود رفض شعبي ودولي عارم للحرب على العراق قبل وقوعها، ورفض إدارة جورج بوش الانصياع لصيحات الرفض، وعدم امتثاله لرفض مجلس الأمن منحه شرعية العداون…وهذا كله سبب أذى بليغا للدبلوماسية الناعمة التي حاولت أمريكا من خلالها تبرير سياستها العدوانية و رسم حروبها بأنها تهدف إلى نشر الديمقراطية و شعاراتها الكاذبة، مما شكل صدمة حتى لمن أيدوا مبررات الحرب في بدايتها ومنهم فوكوياما وأمثاله.

فلما جاءت الأزمة المالية في 2008 وانكشف قطاع المصارف الأمريكية عن الفضائح لكبار المرابين المضاربين بودائع الناس زادت الطين بلة، و تعالت الصيحات التي تطالب بتصحيح مسار النظام الأمريكي الذي يواجه الأزمة تلو الأزمة: من فقدان “مشروعية” الحروب العدوانية في الخارج، إلى التخبط في الداء الاقتصادي، إلى الكلفة العالية لهذه الزمات، واتباع سياسة الهروب الى الأمام عن طريق رفع سقف الدين الأمريكي العام بحيث صارت أمريكا أكبر بلد مدين في العالم، يعتمد على تمويل شجعه بنهب التجارة الدولية وفرض سندات الدين الأمريكية على الدول المتعاملة مع أمريكا من الصين إلى الخليج.

بروز الصين

على خلفية هذه المستجدات الدولية كانت الصين تغذ الخطى في تبوء مكانتها الجديدة، وفق ما رسمه أقطاب النظام الرأسمالي الغربي في جعل الصين “مصنع العالم” لما توفره من يد عاملة رخيصة جعلت كبريات الشركات الغربية تنقل معامل الإنتاج إلى الصين في مسعى لتعظيم الأرباح، دون القلق من طبيعة نظام الحكم الصيني الذي يرفع راية الشيوعية وهي راية لفظية أكثر منها عملية، بعد أن انخرطت الصين في شبكة الاقتصاد الرأسمالي الدولي.

ومع تعاظم القدرات الاقتصادية للصين وتوافر فوائض هائلة من الأموال تطلع قادة الصين إلى بناء شبكة دولية من المصالح الاقتصادية والتجارية في القارات عبر مشروع “طريق الحرير” Belt and Road Initiative والقائم على بناء شبكة من المواصلات البرية والبحرية لتسريع توصيل السلع والبضائع عبر القارات، كما سعت الصين إلى امتلاك عدد من المرافق والإنشاءات العامة في العشرات من الدول في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية التي كانت بأمس الحاجة إلى تحفيز التنمية الاقتصادية عبر المشاريع البنى التحتية من موانيء وسكك حديد وطرق مواصلات.

إلى هذا الجانب  الاقتصادي الذي واكب نمو الاقتصاد الصيني ليزاحم الاقتصاد الأمريكي على المرتبة الأولى عالميا، فأصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للاتحاد الاوروبي، سعت الصين إلى تعزيز علاقاتها السياسية مع روسيا ضمن منظومة بريكس التي ضمت البرازيا والهند وجنوب إفريقيا، وتضمنت إنشاء البنك الجديد للتنمية في مسعى لمزاحمة صندوق النقد الدولي الذي تتحكم أمريكا بقراراته.

اقرأ: الجولاني والمظهر الجديد للحرب على اﻹسلام… اخسأ يا عدو نفسك

حرب أوكرانيا منعطف جديد

ثم جاءت حرب أوكرانيا لتشكل منعطفًا مفصليًا في السياسة الدولية، خاصة مع امتدادها الزمني، والمواقف الأمريكية المتشددة التي لم تتردد بالتصريح العلني (على لسان وزير الدفاع لويد أوستن) بأن أمريكا تستهدف إضعاف روسيا. وفعلًا قامت أمريكا، ولا تزال، بضخ عشرات المليارات من العتاد الحربي والدعم العسكري الواسع لأوكرانيا، كما قامت أمريكا بالضغط على حلفائها في أوروا لفصم العلاقات التجارية الواسعة مع روسيا ولتكثيف العمل على تنشيط الجيوش الأوروبية استعدادًا لدرء الخطر الورسي الداهم، وبعد مماطلات و تلكؤ من قادة المانيا وفرنسا، سايروا أمريكا في مطلبها وانطلقت عجلة تنشيط الجيش الألماني كما أدت الضغوط الأمريكية على المانيا للسماح بتصدير العتاد العسكري الألماني لصالح أوكرانيا (من دبابات ليوبارد وأنظمة الدفاع الجوي وغيرها).

الهدف الأمريكي “بإضعاف روسيا” استهدف، في الحقيقة، تهديد الصين من مغبة التفكير بغزو تايوان وضمها بالقوة إلى الصين… فالتفاهم الأمريكي الصيني الذي أتمه نيكسون في زيارته الشهيرة للصين 1972 اعتمد مبدأ “الصين الواحدة” أي اعتراف أمريكا بأن الصين الشعبية هي الدولة الصينية المعترف بها، وأن تايوان هي حكما تابعة للصين، ولكن هذا المبدأ أيضًا اشترط شرطًا مهمًا: وهو عدم استعمل الصين الشعبية القوة لضم تايوان اليها. هذا الشرط جعل من التعهد شرطًا ملغومًا، فقيام الصين باستعمال القوة يبرر لأمريكا مقاومته. من هنا جاءت حرب أوكرانيا لتذكر الصين بأن أمريكا لن تسكت عن استعمال القوة ضد تايوان، وفي هذا السياق جاءت خطوات أمريكا بإنشاء حلف اوكوس AUKUS مع أستراليا وبريطانيا، فتعهدت أمريكا بتزويد أستراليا بالغواصات النووية التي تشكل تهديدًا مباشرًا لسيطرة الصين على البحار، وهذه أول مرة منذ 60 عاماً تقبل أمريكا بمشاركة أسرارها النووية البحرية!

اقرأ: غارات إسرائيلية تخرج مطار حلب الدولي عن الخدمة


تغيرات النظام العالمي 

نعم هناك تغيرات على المسرح الدولي تتجسد في تنامي قوى إقليمية سواء في أوروبا (ألمانيا) أو في شرق آسيا، تترافق مع تغيرات في توزيع الاقتصاد الدولي بحيث أصبحت آسيا هي مركز الثقل. صحيح أن أمريكا ما زالت هي الدولة العظمى على المسرح الدولي، ولكنها تعاني من  أزماتها الداخلية والانقسام المجتمعي الحاد المتجسد بالجمهور اليميني، سواء بقيادة ترامب أو خليفة جمهوري آخر. كما تعاني من أزماتها المالية المتكررة، من أزمة 2008 إلى أزمة إفلاس المصارف الحالية، وارتفاع سقف الدين الوطني، وآخر ذلك ما نقلته (إندبندنت) أن وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين حذرت الإثنين (1-5-2023)، من أن الولايات المتحدة مهددة بالتخلف عن سداد ديونها اعتباراً من بداية يونيو (حزيران)، وسط خلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في شأن رفع سقف الاقتراض بعد أن وصلت الولايات المتحدة إلى سقف الاقتراض البالغ 31.4 تريليون دولار في يناير (كانون الثاني). في تكرار لما حصل في 2011 حين اصطدم الكونغرس الجمهوري مع إدارة اوباما في رفع سقف الدين. وقد سبق للكونغرس أن رفع سقف الدين 78 مرة منذ 1960. وهذا الشبق الأمريكي في نهب ثروات العالم، الذي يمول العجز الأمريكي المتنامي بشراء سندات الخزينة الأمريكية، بسبب تحكم الدولار بالتجارة الدولية، من شأنه أن يدفع الأطراف الأخرى، ومنها أوروبا التي تروج لعملة اليورو، للبحث عن بدائل عن الدولار.

 كما فقدت أمريكا لجل قوتها “الناعمة” بعد فضائح أبي غريب وغوانتامو وباغرام. كل هذه الأمور دفعت بأمريكا إلى استباق الأمور ببناء شبكة من  التحالفات في أوروربا وآسيا، تكفل لها مشاركة حلفائها في أعباء الهيمنة الدولية ودومًا تحت عباءة المظلة الأمريكية وليس خروجًا عنها. 

في المقابل يدرك قادة الصين خطورة الدخول في صدام مباشر مع أمريكا وتبعات ذلك الكبرى على اقتصاد الصين، وخاصة بعد أزمة أوكرانيا التي كشفت عن تصميم غربي متّحد لردع روسيا من تغيير المعادلات الدولية فيما أطلق عليه Rules Based International order” . ومع استفادة الصين من الأزمة الأوكرانية التي فرضت على روسيا الاستقواء بالعلاقة مع الصين في علاقة غير متكافئة بين الطرفين، فقد أدركت الصين التداعيات على موقفها تجاه تايوان، مما دفع ب شي شي بينج الرئيس الصيني إلى مخاطبة بوتين في زيارته الأخيرة لموسكو (أذار 2023)، والتي جاءت بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق بوتين، بقوله: هناك متغيرات على المسرح الدولي لم يحدث مثلها منذ 100 سنة، علينا المشاركة في توجيه هذه المتغيرات سوية” فأجابه بوتين: “أنا أتفق معك على ذلك”. وهذا التبادل بينهما ، وإن بدا عفويا إلا أنه، كما رأى ألكسندر غابويف في مقالته في الفورين أفيرز، كان “مرتبا مسبقا”. ويرى غابويف أن زيارة شي بينج الأخيرة تضمنت تعزيز التعاون العسكري بين الطرفين بشكل واسع، وإن لم يتم الإعلان عن ذلك تفاديا لضغوطات الغرب، كما حصل في أيلول 2014 خين قامت روسيا ببيع منظومة الصواريخ اس 400 لأول مرة إلى الصين.

التشابك  الاقتصادي الدولي 

واقع الأمر أن المسرح الدولي يشهد “إعادة تموضع” تشبه إلى حد بعيد حقبة الحرب الباردة، ولكن مع فروق جوهرية. ففي الحرب الباردة سعى الاتحاد السوفياتي لنشر نظامه الاشتراكي وجعله المهيمن على المسرح الدولي، بنيما سعت امريكا إلى فرض هيمنة النظام الرأسمالي، وهذا البعد الإيديولوجي غائب اليوم عن التنافسات الدولية. صحيح أن هناك تململ من الهمينة الأمريكية، ولكن ليس هناك من طرف، لا الصين ولا غيرها، يسعى إلى مبارزة إيديولوجية، و إنما هناك إعادة خلط للأوراق في التنافسات المحتدمة والتي تزداد صعوبة حين نستحضر تشابك العلاقات الاقتصادية الدولية، فرغم كل الدعاوى الإعلامية في أمريكا التي تحذر من الخطر الصيني فإن التبادل التجاري بين البلدين بلغ 690 مليار دولار في 2022، وهذا يكشف عن واقع التشابك التجاري. نعم تحاول أمريكا منع تصدير التكنولوجيا الحساسة إلى الصين فتلجأ الصين إلى تعزيز العلاقات مع روسيا للتعويض، خاصة في مجال التطوير العسكري، عن ذلك قدر الإمكان، كما تلجأ روسيا إلى الصين للتعويض عما فقدته من أسواق لصادراتها إلى الغرب وعما فقدته من تكنولوجيا غربية. وللدلالة على ذلك، كما ذكر بيلاهاري كوزيكان في الفورين أفيرز في نيسان 2023، فإن الصناعة الصينية تستهلك 40% من الرقائق الالكترونية عالميا، ورغم أن شركات تصنيع الشرائح تتركز في أمريكا وهولندا  وكوريا الجنوبية وتايوان إلا أنها لا تستطيع الاستغناء عن السوق الصيني الذي هو الأكبر عالميا، وبعد أن قامت أمريكا بالتضييق على شركة هاواوي الصينية لجات لتعويض مكاسبها الى السوق الروسية. وقد ذكرت جريدة وول ستريت في آب 2022 أن امريكا منحت استثناءات من عقوبات قانون CHIPS  الذي شرعه الكونغرس في الشهر ذاته لتقييد الصادرات الأمريكية إلى الصين.

ملامح النظام العالمي متعدد الأقطاب 

نعم نسمع كثيرا عن تصريحات حول ظهور “عالم متعدد الأقطاب” ولكن بعيدًا عن الشعارات الضبابية يجب التمعن في مستجدات العلاقات الدولية وواقع الدول والسياسات في الدول الفاعلة، موازين القوى الاقتصادية والعسكرية. ومن ذلك أن وزير الخارجية الروسي لافروف دعا الغرب مرارًا إلى تقبل تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب بعيدًا عن الهيمنة الغربية-الأمريكية تحديدا.

ونقل موقع روسيا اليوم في 27-1-2023 تصريحا للافروف: بأن”تشكيل عالم متعدد الأقطاب هو عملية موضوعية ولا يمكن إيقافها”. كما دعا ماكرون، بعد عودته من زيارته الأخيرة إلى الصين والتي استمرت ثلاثة أيام، الأوروبيين “ألا يكونوا أتباعا للولايات المتحدة في أزمات لا دخل لأوروبا بها.” محذرا من : “الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا هو أنها عالقة في أزمات ليست من شأننا أو أزماتنا مما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية”.

وكتب المستشار الألماني أولاف شولتس مقالة في الفورين أفيرز ( كانون الأول 2022) يتعهد فيها بمشاركة المانيا بدور فعال في النظام العالمي المتعدد الأقطاب الجديد فيما أسماه  Zeitenwende أي الانطلاقة الجديدة بعد حرب أوكرانيا التي فرضت مستجدات تفرض على المانيا القيام بواجباتها الدولية بعيدا عن قيود الحقبة السابقة التي أثقلت كاهل المانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا لا يعني أن أمريكا ستفقد مكانتها الدولية بين عشية وضحاها، بل هي تجهد للإمساك بزمام الأمور من خلال الاستعانة بالحلفاء في أوروربا وآسيا، في مسعى للبقاء في مركز الصدارة في قيادة سفينة السفينة الدولية.

أما عن تداعيات هذا التحول في المسرح الدولي على قضايا المسلمين، فالسياسة الدولية تخضع لموازين القوى وليس للرغبات والأمنيات. والواقع الدولي يشهد بما يصح التعبير عنه  بـ “صراع الفيلة” أي القوى الدولية الوازنة، والتي يسعى كل منها لتعزيز قدرته التنافسية بحشد واستقطاب المزيد من عوامل القوة الخشنة (العسكرية) والناعمة (الاقتصادية والثقافية و الاعلامية)..

فما هو موقع المسلمين في هذا الخضم؟

المسلمون مقسمون إلى أكثر من خمسين دولة، لا يستقيم لأي منها من عوامل القوة ما يمكنها من مزاحمة التكتلات الدولية الكبرى، وإن سعى بعضها لامتلاك ما تيسر من عوامل القوة التي تمكنها من التأثير في بعض الملفات الساخنة في جوارها القريب، ودائما تحت سقف ما تسمح به الفيلة الدولية.

فباكستان، مثلا، تملك القنبلة النووية ولكن هذا لم يمكنها من الاستقلالية في القرار بل تبقى حبيسة إملاءات واشنطن، وتركيا تسعى جاهدة لتنمية قدراتها الاقتصادية والعسكرية، ومع ذلك تبقى عاجزة عن طرد عصابات الـ بي كا كا/قسد من منبج وتل رفعت، مع أن الميزان العسكري قطعاً لصالح تركيا ولكن ميزانها العسكري لا يمكنها من الاصطدام مع العلم الأمريكي الذي يحمي بي كاكا/ قسد، لا بل يمضي البنتاغون في بيع طائرات اف 35 إلى اليونان بعد أن حظرها على تركيا. وهذا ما يغفل عنه كثير من المسلمين الطيبين البسطاء ولكن الدراويش في عالم السياسة، نعم هذا هو واقع المسلمين المرير كما هو وليس كما نتمناه، ورحم الله المهلب بن أبي صفرة وهو القائل:

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا          وإذا افترقن تكسرت آحادا

ففي حظيرة سايكس بيكو يجتهد كل حاكم للفوز بمرضاة ضباع الاستعمار، ويخشى مغبة إغضابها، فيصول ويجول ضمن قفصه الضيّق والمفصّل على قدّه راغباً في البقاء على كرسي السلطة حتى يُنقل إلى القبر، غير متعظاً ولا معتبراً بمن سبقه.

هذا مع أن الله سبحانه أمرنا بالاعتصام بحبل الله ونبذ حبال الروابط الوطنية القومية التي فرضها الغرب علينا، فالوحدة هي سبيل القوة، و الوحدة لا تتم إلا بالاجتماع على كلمة التوحيد، فهل يدرك أولوا الألباب هذا فيعملون له بعيداً عن أوهام و قذارة الروابط المستورد من أعدائنا؟؟ هذا ما يدعونا إليه ربنا فمتى نستجيب؟

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) سورة الأنفال -الآية 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى