رأي آخر عن النَّقشبنديَّة: رسالة الشَّيخ عبد الرحمن دمشقيَّة عن الطَّريقة
تناول الشَّيخ عبد الرحمن محمَّد سعيد دمشقيَّة، وهو باحث لبناني في العقائد الباطنيَّة، الطَّريقة النَّقشبنديَّة في رسالة ماجستير قدَّمها إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة في السَّعوديَّة في تسعينات القرن الماضي، من منظور يناقض ما جاءت به الدُّكتورة بديعة عبد العال في كتابها (2010م) آنف الذِّكر. فخلافًا لرأي عبد العال القائل بأنَّ الطَّريقة النَّقشبنديَّة سُنيَّة في سائر عقائدها، يرى دمشقيَّة أنَّ النَّقشبنديَّة لا تختلف عن غيرها من الطرق الصُّوفيَّة من حيث “البدع والشِّركيَّات والقول بوَحدة الوجود”، إلى جانب المبالغات في وصْف قدرات المشايخ، وسيطرتهم المطلقة على الكون (صـ12). يتحدَّى دمشقيَّة زعم هذه الطَّريقة الصُّوفيَّة بأنَّ أصولها مستمدَّة من الكتاب والسُّنَّة، مشيرًا إلى اعتبار أتباع تلك الطَّريقة مَن يعارض هذا الزعم كافرًا. يستشهد الكاتب في ذلك بما جاء في كتاب الحديقة النديَّة في الطَّريقة النَّقشبنديَّة لمحمَّد بن سليمان البغدادي، الَّذي قال “إيَّاك أن تقول: طرق الصُّوفيَّة لم يأتِ بها كتاب، فإنَّه كُفر” (صـ31). ويتَّفق السَّرهندي مع ذلك الزعم، بقوله في المكتوبات الربَّانيَّة “وأشقى جميع الخلائـق وأبعدهم عـن السـعادة الَّذين يرون عيوب هذه الطَّائفة” (صـ347). ويضيف دمشقيَّة أنَّ أتباع النَّقشبنديَّة اعتقدوا أنَّ من علامات سوء خاتمة المرء أن يعيب في طريقتهم، بل وأنَّهم ادَّعوا أنَّ الإمام أحمد بن حنبل قد أوصى بمجالسة الصُّوفيَّة؛ لأنَّهم تفوَّقوا على علماء الدِّين من أمثاله في كثرة العلم والحكمة الزُّهد والخشوع والمراقبة.
يتطرَّق دمشقيَّة إلى مسألة هامَّة، وهي استناد الصُّوفيَّة إلى أحاديث موضوعة تمجِّد الصَّحابة وبعض أفراد آل النَّبي؛ بهدف الإيحاء بإسرار النَّبي لهم علمًا باطنيًّا، ومن بين تلك الأحاديث ما يُروى عن فضائل أبي بكر الصدِّيق “ما صبَّ الله في صدري شيئًا إلا وصببته في صدر أبو بكر”. وعن هذا السلوك يقول دمشقيَّة “جرى الصُّوفيَّة على ربط أنفسهم باسم صحابي، لكي يكتسبوا به صبغة شرعيَّة…فأغلب الطرق الصُّوفيَّة…تدَّعي تلقِّي العلوم المكتومة الباطنة من طريق عليٍّ، الَّذي أوتي علم الباطن عن النَّبي (ﷺ). وهذه محاذاة لطريق الروافض” (صـ17). يزعم المتصوِّفون “الكشف والتوفيق والإلهام وحصول القرب من الله”؛ وهكذا، تبدأ عمليَّة إيهام العامَّة بالخوارق والمعجزات، الَّتي هي في الحقيقة من تلبيس الشَّياطين. وقد اعترف السرهندي، كما جاء في مكتوبات الإمام الربَّاني، بأنَّه ” كما أنَّ النَّبي (ﷺ) كان يأخذ العلوم من الوحي، فكذلك هؤلاء الأكابر (مشايخ الصُّوفيَّة) يأخذونها بطريق الإلهام من الأصل” (صـ41)، وهو يقصد بذلك الله تعالى، كما يرى دمشقيَّة.
ويستشهد الكاتب على زعم الصُّوفيَّة تلقِّيهم علمًا سريًّا ينسبونه إلى الله تعالى، بما جاء في كتاب تنوير القلوب في معاملة علَّام الغيوب، لمحمَّد علي الكردي، الَّذي قال أنَّ الله-تعالى عن ذلك-هو مَن وضع علم التَّصوُّف، وأسرَّ به إلى النَّبي، والَّذي اختصَّ به بدوره أهل الأنوار من الصُّوفيين. ويلفت الكاتب الانتباه إلى ما يُعرف بـ “الذِّكر الخفيِّ” لدى الصُّوفيَّة، الَّذي سبقت الإشارة إليه في تناوُل بديعة عبد العال لتاريخ النَّقشبنديَّة وتطوُّرها، والَّذي لم يثبت أبدًا عن النَّبي (ﷺ) أو صحابته. ينصبُّ التُّركيز في هذا الذِّكر الخفي على القلب، الَّذي يسمُّونه “القلب الصنوبري”، ويختصُّ به مَن ترقَّوا في مقامات الصُّوفيَّة؛ أمَّا المبتدؤون، فلهم الذِّكر الجهري، وفقًا لما جاء في كتاب الطُّرق الصُّوفيَّة في طرابلس ورجالها لمحمَّد درنيقة.
ينتقل دمشقيَّة إلى مسألة أخرى لا تقلُّ في الأهميَّة، وهي الخوارق الَّتي يدَّعى المتصوِّفون حدوثها، وعلى رأسها أن تأتي الكعبة لتطوف حول أهل العلم من المتصوِّفين. وقد ذكر أبو حامد الغزالي ذلك في كتاب إحياء علوم الدِّين، في المجلَّد الأوَّل، حيث قال عن المتصوِّفين “ومنهم مَن تأتي الكعبة إليه وتطوف هي به وتزوره” (صـ269). وقد ورد في جامع كرامات الأولياء (1329ه) للقطب الصُّوفي يوسف النبهاني أنَّ الكعبة قد أتت إلى محيي الدِّين بن عربي، وكان معها الحجر الأسود، فطلبا منه معًا البركة والاتقاء إلى المقامات العلا، بعد أن طافا به. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ النبهاني قد عمل في القرن الرَّابع عشر الهجري، قبل أقل من مائة عام من يومنا الحاضر، على إحياء علوم الصُّوفيَّة وممارستها، بعد أن تصدَّى لها الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب بحركته الإصلاحيَّة في القرن الثَّامن عشر الميلادي. ضمَّ جامع كرامات الأولياء 10 آلاف كرامة لمتصوِّفين، رفعهم النبهاني إلى مرتبة الألوهيَّة بمبالغته في وصف خوارقهم، وهذا ما أغرى العديد من علماء الإسلام بالردِّ عليه ودحض مزاعمه.
وينقل دمشقيَّة عن الصُّوفي محمَّد المعصوم زعْمه الَّذي جاء في المجلَّد الأوَّل من كتاب جامع كرامات الأولياء (صـ 204) آنف الذِّكر، وفي الحدائق الورديَّة في حقائق أجلاء الطَّريقة النَّقشبنديَّة (صـ195)، وفي المواهب السَّرمديَّة (صـ213)، بأنَّه لمَّا دخل المسجد الحرام، وجد أمَّة من النَّاس يطوفون، اتَّسموا ببالغ الحُسن والبهاء، وكانوا يتقرُّبون إلى البيت العتيق بشدَّة، لدرجة المعانقة، وكانت أرجلهم في الأرض، ورقابهم في السماء؛ ففهم المعصوم حينها أنَّ هؤلاء قوم من الملائكة والحور العين أتوا للطواف معه! وبعد ذلك، عانقته الكعبة، وجاءه مَلَك يبشِّره بقبول حجِّه، وقد خرج له النَّبي، كما يدَّعي، من الحُجرة الشَّريفة لمعانقته، وإعلان نسبته إليه!
ويبرز أتباع النَّقشبنديَّة أهميَّة الرابطة بين المُريد وشيخه، الَّتي قالتها عنها بديعة عبد العال “طاعة المرشد” العمياء؛ لأنَّ ذاك المرشد انكشف عنه الحجاب، ورأى من أسرار الكون وحقائقه ما يكفي لمنحه الاحترام والأخذ عنه دون تردُّد أو مغالطة. ووصل الأمر بأتباع النَّقشبنديَّة أن اعتبروا مَن لا شيخَ له كافرًا؛ فقد قال محمَّد بن عبد الله الخاني في كتابه البهجة السُّنِّيَّة في آداب الطَّريقة العليَّة الخالديَّة النَّقشبنديَّة “من لا شيخَ له فشيخ الشَّيطان، ومتى كان شيخه الشَّيطان، كان في الكفر حتَّى يتَّخذ له شيخًا متخلِّقًا بأخلاق الرحمن” (صـ47). ويعتبر الشَّيخ دمشقيَّة أنَّ في هذا الزعم الصُّوفي تطابُق مع رأي المسيحيَّة في اعتبار المسيح الواسطة بين العبد وربِّه، كما جاء في إنجيل يوحنَّا “قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّريق وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي. لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ»” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 14، آيتان 6-7). وقد بالغ أتباع النَّقشبنديَّة في اعتبار أنَّ النَّبي مُحمَّدًا (ﷺ) هو المدد والعون في وقت الحاجة، لدرجة استبعاد التوسُّل إلى الله تعالى؛ ويعبِّر هذين البيتين عن ذلك “يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ*به سواك عند حلول الحادث العمم/يا حبيب الإله خذ بيدي*ما لعجزي سواكَ مستندي”، وهما جاء في البيتين نموذجٌ للتوسُّل بأهل بيت النَّبي في الغفران وقضاء الحوائج في المجالس الصُّوفيَّة النَّقشبنديَّة، كما يروي دمشقيَّة، نقلًا عن كتاب الحُجج والبيِّنات في ثبوت الاستغاثة بالأموات (صـ31-32). ينتقل دمشقيَّة بعد ذلك إلى مناقشة التبرُّك بالقبور لدى الطَّريقة النَّقشبنديَّة، والاستعانة بها في طلب العلم، والدعاء، وقضاء الحاجات. وينقل الكاتب قول محمَّد أمين الكردي في كتاب الأنوار القدسيَّة “وكلُّ شأن من شؤون العبادة وطلب العلم والكشوفات مرتبط بالقبور، بل تلقِّي العلوم وفيضها والبيعة والتكليف واستمداد كل خير مرتبط بالقبر. فإنَّهم يعتقدون أنَّ الروحانيَّات تجتمع في ذلك كاجتماعهم في المنام وبعد الممات، وهو عالم اللاهوت الخارج عن عالم الأجسام والأرواح والخَلْق” (صـ7). ويثير دمشقيَّة مزيدًا من الدهشة، بأن أشار إلى أنَّ بهاء الدِّين نقشبند ذاته قد حصل على “التكليف والولاية” حينما اجتمع بجماعة من مشايخ الطُّرق الصُّوفيَّة في مقبرة تضمُّهم (صـ41).