دين ودنيا

وانقضى رمضان وماذا بعد؟!

د. جمال نصار

أستاذ الفلسفة والأخلاق – تركيا
عرض مقالات الكاتب

هكذا تنتهي أيام الخير بسرعة كبيرة، وتمضي الدقائق والساعات بشكل لافت، وتنقضي مواسم الطاعات والبركات، والإنسان في غفلة من أمره، إلا من رحم. فهنيئًا لمن دخل في رحمة الله، وغُفر له الذنوب، وأعتقه الله من النيران، ببركة هذا الشهر الفضيل، وكل الخسران لمن فاته الوقت، وضيّع الشهر في المسلسلات والأفلام، ولم يستفد منه كما ينبغي بالإسراف في اللهو وتضييع الأوقات.

اقرأ: لبنان| احتجاجات ودعوات لقطع الدعم القطري عن الحكومة اللبنانية إثر صدور أحكام طائفية في قضية “أحداث خلدة”

أما المُوفق هو الذي يستدرك أمره قبل فوات الأوان، ويُصحح خطأه في شهر رمضان، وفي غيره، كما قال ابن الجوزي (597ه)، رحمه الله: إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم، فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع!

ومن ثمّ علينا جميعًا أن نراجع حساباتنا في ترتيب أولوياتنا، وأن يكون رمضان انطلاقة جديدة لنا في طريقة التعامل مع الله، ومع الناس، فالعمر قصير، وليكن شعارنا دائمًا امتثال قول ابن تيمية (728ه)، رحمه الله: “العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات!”.

تابعنا في تويتر

وحينما تنعقد النية على تعويض ما فات، سيختلف أداء الإنسان إلى الأحسن، مع ربه، ومع نفسه، ومع غيره، وسيشعر لا محالة بالتغيير إلى الأفضل في حياته، وينال رضا الله ومثوبته في الآخرة، ويكون عنصر بناء لا معول هدم. وقد أكّد هذا المعنى قديمًا الحسن البصري (110ه)، رضي الله عنه، حينما قال: “أحسِنْ فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تُدرك رحمة الله”.

ومن علامات القبول أن يداوم العبد على العمل الصالح، ويتخلى عن كل ما يقرب إلى المعاصي، والمنكرات، فالمسلم إذا داوم على العمل الصالح، فهي علامة على قبول العمل، وهي جزء من ثوابه، كما قال ابن رجب الحنبلي (795ه) في لطائف المعارف: “ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بعد بحسنة، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.

تابعنا في فيسبوك

دروس مستفادة من رمضان لما بعده

لقد تعلمنا من شهر الصيام العديد من الدروس، وتعودنا على ممارسة كل العبادات برغبة وشوق لمن وفّقه الله، وبالإكراه والإعراض لمن لم يحالفه التوفيق، وأدى الطاعات بشكل منقوص بعيدًا عن الغاية التي أرادها الله من الصوم، وهي لعلكم تتقون. ومن ثمّ علينا أن نُعيد حساباتنا بعد رمضان وفورًا، حتى تستقيم حياتنا بالشكل الذي نرغب فيه، ويرضي ربنا عنّا، ومن أهم هذه الدروس:

أولًا: أن نتعود على التسليم التام لله عز وجل، ولرسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، والذي عشناه في رمضان، حتى نتصف بالإيمان الذي وصفه الله تعالى في الآية الكريمة (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب: 36). تخيلوا معي لو أننا جعلنا هذه الآية هي منهج حياتنا ونبراس طريقنا. 

ثانيًا: الصبر على الطاعات والعبادات، بكل أنواعها، وكما قيل إن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله بالجهاد وأداء الحقوق، وصبر عن معاصي الله بالكف عمّا حرّم الله قولًا وعملًا، وصبر على قضاء الله وقدره، مما يصيب الناس من جراح، أو قتل، أو مرض، أو غير ذلك. وشهر رمضان علَّمنا الصبر الذي هو من أجلِّ العبادات والقرابات، فعندما يصبر العبد عن الطعام والشراب، فإنه بذلك يتعود على خُلق الصبر الذي هو جماع الخير كله، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10). 

ثالثًا: أن يلتزم كل منّا ببعض الأوراد والعبادات التي تعينه على مواصلة الطريق، مثل: القيام، وصيام النوافل، وقراءة القرآن، فكما أن السيارة لكي تسير بشكل جيد لا بد أن يكون فيها الوقود الكافي، كذلك الإنسان عليه أن يشحن بطارية إيمانه بما يحافظ عليه، ويفيده في دنياه وأخراه، وكان رمضان خير زاد لنا في ذلك.

رابعًا: تعلمنا في رمضان تقوى الله؛ من كف اللسان والجوارح والشهوات من أجل الله تعالى، فما المانع أن تستمر هذه العبادة، وهذا السلوك في كل حياتنا، ولذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ). 

خامسًا: شهر رمضان علَّمنا مراقبة الله ومنزلة الإحسان؛ لأن الصائم يدرِّب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه؛ قال تعالى: (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4)، فحينما يصل الإنسان إلى درجة الإحسان في كل شيء فستختلف النتائج التي يود الوصول إليها، كما ورد في الحديث: (إنّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ).  

سادسًا: من المعاني التي خرجنا بها من شهر القرآن التصدق والإحسان إلى الفقراء والمساكين؛ فقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، (أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ)، وهذا من خصال التقوى، لأن العبد إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساةَ الفقراء المعدمين، وهذا يزيد من التكافل الاجتماعي، ومساعدة المحتاجين، والوقوف مع المنكوبين من الكوارث والزلازل، وغيرها.

ومن ثمّ إذا وضعنا خريطة مناسبة لحياتنا توازن بين حقوق الله، وحقوق العباد، وحظوظ النفس، لا شك أن ذلك سيجعل كل مجتمعاتنا تعيش في سعادة، ورضا، وقرب دائم من رب العالمين.

فمن عاش في معية الله، لا يضره إنس ولا جن، وسيشعر بقيمة القرب من الله في تحقيق حوائجه، وكما قال الحسن البصـري، رحمه الله: “تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق”.

تقبل الله طاعتكم وكل عام وأنتم بخير.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى