بحوث ودراسات

الطَّريقة النَّقشبنديَّة: هل تُحسب على الطُّرق الصُّوفيَّة المغالية؟ ( ج5 من 11)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

المعرفة من منظور النَّقشبنديَّة

تقوم النَّقشبنديَّة، كما ترى عبد العال (2010م)، على “حصول المعرفة، وترقِّي المقامات العُلا، والفناء في الذَّات”، مضيفةً أنَّ مصطلح المعرفة أشمل من العلم؛ لأنَّ مصطلح العلم لا يفي إلَّا بالجانب الظاهر، وهو العلم المتوارث الَّذي يتحصَّل عليه المرء بالدِّراسة والبحث (صـ96). غير أنَّ مصطلح المعرفة يشمل جانبًا آخر من العلم، وهو العلم اللَّدنِّي، الَّذي يُسمَّى “العلم الباطن، ولا يناله المرء إلَّا بتقوى الله” في الخلوات الصُّوفيَّة، ويستند المتصوِّفون في هذا الادَّعاء بقوله تعالى في الآيَّة الكريمة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [سورة البقرة: 282] (صـ96). وقد قال أحمد الفاروقي السرهندي في المكتوبات الربَّانيَّة عن ذلك، بكلمات الكاتبة “من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلَّا أهل المعرفة بالله تعالى. وهو علم الوراثة المحمَّديَّة الَّذي ورثه الأولياء من الرَّسول ﷺ بأسانيد الإلهام، ونَقَله الكشف التَّام وصفاء السَّريرة، وصدق المعاملة مع الله تعالى” (صـ96). وتنقل عبد العال عن السرهندي قوله في المكتوبات الربَّانيَّة “أمَّا العلم الَّذي أمره (الله) بكتمانه فهو علم النبوَّة؛ إذ لا يعلمه ولا يقدر على حمله غير النَّبي، ولا نبيَّ بعده. أمَّا العلم الَّذي خُيِّر فيه ﷺ فهو علم الولاية، وهو علم باطن الشَّريعة وحقيقتها وأسرارها المخزونة الَّتي أسرَّها النَّبي ﷺ إلى خواص أصحابه” (صـ96).

تابعنا في فيسبوك

ينصح محيي الدِّين بن عربي مَن أراد العلم وانكشاف حقائق الكون أمام عينه، فعليه بمجاهدة نفسه برياضات روحيَّة ومجاهدات نفسيَّة تمحي الأحجبة وتُظهر نور الإله. حينها، يتراءى أمام أعين المُريد النُّور الإلهي، هو ذاته “النُّور الَّذي يتراءى به أهل الملكوت، وهو بمنزلة الشمس في المحسوس؛ اجتمع عن ذلك نور عين البصيرة مع نور التمييز فكشف الغيبيَّات على ما هي عليه”، كما جاء في كتاب الروحيَّة عند محيي الدِّين بن عربي، للدكتور عليّ عبد الجليل راضي. أمَّا أبو حامد الغزالي، فقد اعتبر أنَّ للمعرفة مصدرًا خارجيًّا، هو الحس والعقل، وآخر داخليًّا، هو القلب. يعتمد الفلاسفة على العقل في جلب المعرفة، ولا يمكن أن يحدث تواصلٌ بين المرء وعقله، مصدر الإلهام الروحي أو الروح القُدُس في نظر الصُّوفيَّة، إلَّا من خلال تجاوُز المحسوسات وإدراك المعقولات. أمَّا العلم الصُّوفي، فهو ينزل على القلب مباشرةً من الربِّ، بلا وساطة، مما يعني أنَّ إدراك الوجود فطريٌّ، وليس مكتسبًا. ويمكن أن تُفتح للمريد طاقة النُّور الإلهي في اليقظة والنوم، بالإخلاص في اجتناب الشَّهوات.

الحقيقة المُحمَّديَّة وفق المفهوم الصُّوفي

تتفق مختلف الطرق الصُّوفيَّة في الاعتقاد بأنَّ نبيِّنا مُحمَّدًا (ﷺ) خُلق من “قبضة من نور الله”، وقد حلَّت “تلك الحقيقة المُحمَّديَّة” في آدم يوم خُلق، وانتقلت منه إلى سائر الأنبياء، الَّذين تناقلوها إلى أن تجلَّت في خاتم النَّبيين (ﷺ)، والاستدلال على ذلك يكون بقول النَّبي لمَّا سُئل “يا رسول الله متى جُعلت نبياً؟ قال: “وآدم بين الروح والجسد”، وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد (صـ108). اعتبر المتصوِّفون بذلك أنَّ النَّبي مُحمَّدًا أساس كل حقيقة كونيَّة، ومنبع المعرفة، الَّذي ينهل منه العارفون بالله علومهم اللدنيَّة، ويستدلِّون في ذلك بقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۝ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ [سورة الأحزاب: 45-46]. وقد ورد في كتاب الطرق الصُّوفيَّة في مصر (1980م) للدُّكتور عامر النجَّار، أنَّ سهلًا التستري، وهو أحد أعلام الصُّوفيَّة في القرن الثَّالث الهجري، قد روى أنَّ الخضر قد أسرَّ له بأنَّ النَّبي مُحمَّدًا (ﷺ) قد خُلق من نور الخالق مباشرةً، وبقي في نوره مائة ألف سنة، وأنَّ النُّور الَّذي جاء به سائر الأنبياء مُشتقٌ من نوره. أمَّا عن تفسير قوله تعالى “وَسِرَاجًا مُّنِيرًا”، فقد رأى ابن كثير أنَّه يعني أنَّ دعوة النَّبي كانت واضحة وظاهرة للجميع، دون مجال للتكذيب والمعاندة؛ ورأى الطبري أنَّ المقصود هو أنَّ ما جاء به النَّبي كان قبسًا للهدايَّة والإرشاد؛ في حين ذهب القرطبي إلى أنَّ المقصود بالسراج المنير هو القرآن، أي أنَّ النَّبي صاحب كتاب مثل السراج المنير؛ واستدلَّ القرطبي في ذلك بحديث الصَّحابي عبد الله بن عبَّاس، الَّذي قال أنَّ هذه الآيَّة لمَّا نزلت، دعا النَّبي عليًّا بن أبي طالب ومعاذًا بن جبل، فقال: “انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزَّل عليَّ الليلة آيَّة ’يا أيها النَّبي إنَّا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا‘- من النار – ’وداعيًا إلى الله‘ – قال – شهادة أن لا إله إلا الله – ’بإذنه‘ – بأمره – ’وسراجًا منيرًا‘- قال – بالقرآن “. غير أنَّ أحدًا من مفسِّري القرآن من أهل السُّنَّة لم يعتبر أنَّ السراج المنير هو النَّبي.

الولاية في معتقَد النَّقشبنديَّة

يعتقد أتباع النَّقشبنديَّة أنَّ لله تعالى من بني البشر أشخاصًا يخصُّهم بولايته، أي القُرب والمعيَّة والتأييد والنَّصرة، مصداقًا لقوله تعالى ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ۝ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [سورة يونس: 62-64]. ترتبط الولاية بالإيمان والتقوى، وتضمن لهم النعيم الأبدي في الآخرة، الَّذي يُبشَّرون به في الدُّنيا. اتَّفق المفسِّرون على أنَّ المقصود بقوله تعالى “أَوْلِيَاءَ اللَّهِ” المداومين على ذِكر الله، والمتحابِّين فيه، ويشير إلى ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن النَّبي (ﷺ) يقول: “يأتي من أفناء النَّاس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابُّوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع النَّاس ولا يفزعون، وهم أولياء الله، الَّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. وقد روي أنَّ ابن عباس قال: “قال رجل يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال (ﷺ): “الَّذين إذا رءوا ذُكِر الله”؛ وإلى هذا التفسير يميل ابن كثير. ويؤيد الطبري هذا التفسير، مشيرًا إلى أنَّ الولاية تعني النَّصرة، وقد نصر هؤلاء ربَّهم بالإيمان برسالته وتأييد دعوته، ومجاهدة أعدائه؛ فنصرهم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [سورة مُحمَّد: 7].

غير أنَّ المتصوِّفين رأوا أنَّ المقصود بقول الله “أَوْلِيَاءَ اللَّهِ” خلفاء الله تعالى القائمين بالتصرُّف عنه، وهذا ما يعارضه باحثون، منهم الباحث التُّركي فريد الدِّين آيدن في كتابه الطَّريقة النَّقشبنديَّة بين ماضيها وحاضرها (1997)، الَّذي يرصد تجاوزات أتباع النَّقشبنديَّة في زعمهم أنَّ الولاية أفضل من النبوَّة، مستشهدين في ذلك بحديث نُسب إلى النَّبي (ﷺ) يقول “علماء أمتي مثل أنبياء بني إسرائيل”، الَّذي يقول الشَّيخ خالد المُصلح-أستاذ الفقه الإسلامي في جامعة القصيم-أنَّه حديث مكذوب، ولا أصلَ له في أقوال النَّبي (ﷺ)، ولا يفاضل بين العلماء والأنبياء إلَّا قول النَّبي، الَّذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، أنَّه (ﷺ) في ضمن حديث طويل: ”إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر”. وإذا كان المتصوِّفون يستدلُّون بالآيَّة 62 في سورة يونس على الولاية، فقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [سورة فُصِّلت: 30-31]. يدحض ذلك؛ لأنَّه يعني أنَّ الإيمان بالله والاستقامة يكفلان نُصرة الله تعالى عن طريق ملائكته؛ فإذا كانت ولاية الله تعني خلافته والتصرُّف عنه، فماذا تعني ولاية الملائكة؟

تنتقد الدُّكتورة بديعة عبد العال (2010م) ادَّعاء الشَّيخ فريد الدِّين آيدن أنَّ أتباع النَّقشبنديَّة أصلوا أئمتها إلى درجة التقديس، والمبالغة في توقير كبراء الطَّريقة، إلى درجة مقارنتهم بالأنبياء في بعض الأحيان وتفضيلهم عليهم في أحيان أخرى، وهذا ما وجده آيدن شكلًا من أشكال التخبُّط في الفتن. وتردُّ الكاتبة بأنَّ الكاتب معذور؛ لأنَّ الطَّريقة رُميت بمختلف التهم بعد سقوط الدَّولة العثمانيَّة على يد دعاة العلمانيَّة، ممن يطمسون حقيقة انتماء المذهب الدِّيني المتَّبع في تركيا إلى التُّراث الصُّوفي السَّائد في زمن الخلافة. وتعترف الكاتبة بأنَّ أهم التُّهم الَّتي أثيرت حول النَّقشبنديَّة اشتراكها مع اليهوديَّة والمسيحيَّة في العديد من العقائد، واستنادها إلى عقائد وطقوس سائدة في البوذيَّة والهندوسيَّة. وتردُّ الكاتبة كذلك على الزعم بأنَّ النَّقشبنديَّة أهانت مقام الأنبياء بأن فضَّلت الأولياء عليهم، موضحة أنَّ عقيدة الطَّريقة لم تنقص من مقدار الأنبياء أبدًا، بل أبدت لهم ما يستحقُّون من تبجيل. وتوضح عبد العال (2010م) حقيقة الأمر، وهي أنَّ أتباع الطَّريقة تأثَّروا برأي محيي الدِّين بن عربي بشأن الفرق بين النبوَّة والولاية، لمَّا اعتبر أنَّ الولي بمثابة رسول لا يتلقَّى الوحي والكتاب، إنَّما يتلقَّى إلهامًا في صورة علم لدنِّي. ويكمن الخلاف بين بعض فرق الشِّيعة والصُّوفيَّة وبين أهل السُّنَّة فيما يتعلَّق بالولاية، في اعتقاد فرق الشِّيعة والصُّوفيَّة تلك بأنَّ الأرض لا يمكن أن تخلو من إمام، يكون بمثابة الوسيط بين أهل الأرض وأهل السَّماء، وإلَّا خرجت الأرض عن السَّيطرة؛ حتَّى أنَّ الشِّيعة الإسماعيليَّة يدَّعون أنَّ “العقل الكلِّي يتجسَّد بين حين وآخر في هيئة نبيٍّ ناطق” (صـ115).

تختتم الكاتبة مؤلَّفا بالإشارة إلى سعي أتباع النَّقشبنديَّة الدائم إلى إيجاد إنسان كامل يتلقَّون عنه العلم الإلهي، باعتباره “الوارث المُحمَّدي بمعنى أنَّه يتلقَّى العلم وراثة روحيَّة من النَّبي” (صـ123). وتصرُّ الكاتبة على أنَّ النَّقشبنديَّة سُنيَّة مغاليَّة في اتِّباعها سُنَّة النَّبي، مؤكِّدة أنَّ مصدرها الأساسي هو القاسم بن محمَّد بن أبي أبكر الصدِّيق، الَّذي نُسبت إليه الطَّريقة بتسميتها “الصدِّيقيَّة”، ومضيفة أنَّ تلك الطَّريقة أسهمت في نشر الإسلام في أسيا الوسطى وبلاد ما وراء النَّهر، من خلال تقديمه وفق عقائد يفهما سُكَّان تلك المناطق. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى