سياسة

“الجدران”.. دفاتر الخوف والحرب والجنون!

عمار آغا القلعة

كاتب وفنان تشكيلي سوري
عرض مقالات الكاتب

مع الوقت اكتشفت أن “الجدران” ليست “دفاتر المجانين”، كما ورد في المثل الشعبي، بل يمكن القول أنها دفاتر الحرب والسجون والذكريات، دفاتر الثورات والتاريخ وبعض الفنون، والخوف وأشياء كثيرة أخرى. 

كنت دائماً أتساءل:
هل كان جنوناً حقاً أن يكتب المرءُ على الجدار، ما لا يستطيع قوله، أمام من سيقرؤه وجهاً لوجه دون التعرف على من كتب! 

في بلادي وعندما تقع حادثة كتابة على الجدران، فإن أخف عقاب يطبق على من يكتب على الجدران الداخلية، أن يكتب أحدهم تحت تلك الكتابات “الحيطان دفاتر المجانين”. 

ولا أدري كيف اعتبر نفسه استثناءً رغم أنه كتب هو أيضاً على الحائط، أما العقوبة القصوى لوكان المقصود هو الرئيس مثلاً، فالناس من المحيط إلى الخليج يعرفونها..

تابعنا في تويتر

الخوف من الجدران محيرٌ للعقل، فقد أصبحت في الواقع أيقونة له، لشدة الخوف الذي اختبره الإنسان من الاحتجاز خلفها، وما اختبره من مشاعر مميتة، عند الاستماع لحكايات السجون المفتوحة على اللانهاية، السجون التي تثبت أن الزمان والمكان هما الشيء نفسه، فالسجين لا يعرف الفرق بين الزنزانة وبين زمن البقاء فيها قبل أن ينتهي إحساسه بكليهما. إضافة إلى الخوف بل الهلع من سقوط الجدران نفسها، لتسحق أجسادنا اثناء الزلازل والبراميل.. 

أما الخوف من الآذان التي علقها البشر عليها فأصبحت تسترق السمع، فهي توحي بأننا حولنا الجدران بواسطة الخوف، إلى كائنات حية شريرة تمكر بنا.

تابعنا في فيسبوك

من المؤكد أننا نعلم أن الجدران ليس لها آذان، وأنها آذان من يتنصت من خلفها على أحلامنا، وعلى ما نبوح به ونحن مختبئون خلفها، لكن هذه المعرفة لا تصمد طويلاً أمام الخوف من الطاغية، فنحن نخاف منه إلى الدرجة التي نحتاج فيها لاختراع أيقونة بديلة عنه، لنتهمها بجرائمه ونبرر لأنفسنا تمجيده وتأليهه.. 

كانت الجدران إحدى هذه الأيقونات ولكن ذات يوم وفي سهل بعيد جنوب البلاد صارت الجدران دفاتر للأطفال أيضاً، أطفالٌ أيقظوا العالم بأسره من سباته مذعوراً، وهو يتساءل من علمهم هذه الحكايات المحرمة، لم يعرف هذا العالم أن أجدادهم علموا البشرية أبجدية الكتابة والقراءة، بعدها صارت الجدران دفاتر للعسكر يكتبون عليها أبشع القصص عن قطعات وقطعان جيشهم الذي يمر بالمدن، وكيف يخرج منها منتصراً، دون أن يترك من جدران أبنيتها، إلا ما يكفي ليكتب المرتزقة عليها رسالة الرئيس إلى أهل كل مدينة في كل شارع وحي.

والجدران أيضاً لا تتكلم، وهي كذلك لا تصمت، لكن لديها قابلية الاحتفاظ بالكلمات تحت طبقة رقيقة من الدهان الذي تُطلى به، لدفن سيرة الأيام التي مرت عليها، وأظنها، تتمتم بها لوحدها وهي تئنُّ حزناً من الوحشة، عندما يكون التاريخ نائماً، وذاكرة المهاجرين من أبناء المدينة يقظةً في مكان بعيد جداً.

لقد كانت الجدران السبب في اختراع النوافذ، والسبب بأن الإنسان، صار يحلم بالحرية خارج الزنازين بعبور جدرانها، فلقد راود حلمُ عبور الجدران كل السجناء بلا استثناء، دون جدوى للأسف، وحده الفرنسي “دوتيلول” بطل قصة عابر الجدران امتلك هذه المعجزة، فكان يتنقل عابراً للجدران وكأنها لم تكن موجودة البتة، إلا أنه علق داخل أحد الجدران في نهاية القصة، ربما لأنه لم يكن يعبرها لينال الحرية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى