بحوث ودراسات

“موسى” بين التحليل النفسي والتوراة 

عمار آغا القلعة

كاتب وفنان تشكيلي سوري
عرض مقالات الكاتب

في محاولة عميقة للغاية، شرعَ العالم الكبير سيغموند فرويد كعادته، في تطبيق نظريته في التحليل النفسي على التاريخ والطبيعة والفكر ونشر الدراسات الناتجة في مجلة (إيماغو) التي كان يصدرها في العاصمة النمساوية فيينا.. باختيار قصة النبي موسى عليه السلام مادة للدراسة ، ليخلص في نهايتها إلى كتابه الشهير “موسى والتوحيد “

وفي غمرة بحثه المتشكك في تاريخ وجود شخصية موسى من الأساس كواقعة غير مثبتة في علم التاريخ، حاول اختبار مصداقية القصة ابتداءً من الفصل الأول “موسى مصري” من كتابه موسى والتوحيد، معتمداً على عدد من الحجج التي استحضرها من السياق الروائي للقصة التوراتية، وبعض الدراسات التاريخية.

ولعله من الواضح أن عنوان الفصل الأول “موسى مصري”، يشي برغبة فرويد في سحب الجنسية الإسرائيلية عن موسى عليه السلام، وإعطائه الجنسية المصرية . ورغم إقرار فرويد بأن “تجريد شعب من الشعوب من الرجل الذي يحتفي به على أنه أعظم أبنائه ليس بمهمة بهيجة ينجزها المرء بخفة قلب”، لكنه بعد أن تكبد عناء سوق دلائله وبراهينه يختم هذا الفصل بمفاجأة من العيار الثقيل، فيقول “يمكن أن يأخذ علينا الآخذون أننا نطلق العنان لخيالنا وأننا لا نملك براهين موضوعية عن العصر الذي عاش فيه موسى وحدث فيه الخروج “، ويستكمل متمنيا وجود هذه البراهين، قائلاً: “ولا ريب في أن هذه البراهين كانت ستكفي لو وجدت.” مقراً بعدم وجودها، ويكمل “ولكن نظرا إلى أنه لم يتم اكتشافها، فمن الأفضل ألا نتعدى حدودنا الراهنة وألا نسعى إلى استخلاص نتائج أخرى من حقيقة أن موسى كان مصرياً”. 

ولكن المفاجأة الأكبر كانت في إصرار فرويد على مشروعه رغم كل التعثر العلمي الذي واجهه وأقر به، فيتابع مؤلفه في الفصل الثاني تحت عنوان “إذا كان موسى مصرياً”! 

تابعنا في فيسبوك

وبالعودة إلى المعالجة التي قام بها فرويد في الفصل الأول نجده قد استند إلى قضيتين.
الأصل المصري لاسم موسى:
يركز فرويد في القضية الأولى على اعتبار أن لفظة (موشي) لفظة عبرانية، وفي أحسن الأحوال هي تعبير مجازي يعني “الساحب ثانية” ويرفض أن تكون أميرة مصرية وجدت الطفل في سلة في النهر، أن تكون على دراية بالتعبيرات المجازية في اللغة العبرية، لتطلق هذا الاسم البلاغي على الطفل. ولكي يثبت فرويد الأصل المصري لاسم موسى، يستعرض أسماء الملوك المصريين التي تنتهي باللاحقة – موس، والتي تعني عند اقترانها بالقسم الأول منها مثل ” بتاح_ موس” أو ” آمون _موس ” أن بتاح أنجب طفلا أو آمون أنجب طفلا، وأن القسم الأول من اللاحقة قد سقط عن اسم موسى وبقي القسم الثاني منه فقط ” موس” . 

ومن ثم يؤكد فرويد على ملاحظة هامة وهي أنه لو تم التسليم بالأصل المصري لاسم هذا الرجل العظيم، فإن هذا لا يعني بحال من الأحوال أنه قد تم البت في أصل الرجل نفسه. 

اقرأ: قِطة الإمام الجزائري وهدهد سليمان (عليه السلام)

وإنني وفي مواضع كثيرة من الكتاب ومنها هذا الموضع أتساءل عما يهدف إليه فرويد من براهين يسارع إلى نقضها ووصف ضعفها ولا علميتها من عدة نواح، ولكن ما يمكن أن نحدده هنا:

أولاً: إن امرأة فرعون ألقت على الوليد الموجود في السلة اسم موسى والذي يعني الابن، ومن الطبيعي أن يكون الاسم مصريا، ومعنى الاسم وأصله يتناسب ويتوافق كليا مع القصة ولا يتعارض معها بأي وجه من الوجوه، فثقافة المرأة ولغتها مصرية والاسم مصري، والوليد اتخذته ابناً لها بموافقة زوجها فرعون، فسمته موسى “الابن”!

ثانياً: رغم النتيجة التي لمح لها فرويد بأن الأصل اللغوي للاسم ليس من الضروري بأن يلزمنا بالأصل القومي لحامل الاسم، إلى أنه حاول أن يضمَّن النص وبشكل جاد بما يتعارض كليا مع تلك النتيجة، فما ذكره عن سقوط اللاحقة الأولى (الملكية) من الاسم الكامل للنبي موسى عليه السلام كانت محاولة غير مكتملة وينقصها المسوغ ولو بأبسط أشكاله لكي يبرر انتماء موسى للعائلة المصرية المالكة ! فلماذا سقطت اللاحقة الأولى منه وكيف ، وما هي تلك اللاحقة..؟ إنها أسئلة لم يحاول فرويد تقديم الإجابة عليها . مع أن الاسم تاريخيا “موسى”، أو “الابن”، شديد البيان في كون صاحبه ابناً جاء من المجهول، ولهذا سمي ببساطة “الابن”.

2 – الأصل الأسطوري لقصة موسى:
يبدو أن تحليل الأبحاث التاريخية جنبا إلى جنب مع أدوات المخبر السيكولوجي كان ضالة فرويد المنشودة،  وخاصة أن المضمار الأول يحفل بالكثير من المواد التي يمكن الاستناد إليها في المقاربات الملتبسة ومن ثم الترويج لأي رأي أو فكرة ما تحاول تسخير المادة العلمية خارج نطاقها التخصصي لخدمة فلسفة ما أو عقيدة ما دونما تمحيص وبحث كافيين. 

وهنا فالأبحاث الغزيرة عن الأسطورة والكثير من الدراسات في نفس السياق، توصلت إلى اكتشافِ تشابه كبير في الأساطير التي نسجها العقل البشري عن الكثير من الملوك ابتداءً من سرجون الأكادي إلى موسى عليه السلام وكورش ورومولوس مرورا بأوديب وغيرهم من الملوك، وكلهم أُقصوا من حضن العائلة المالكة نتيجة نبوءة تتراءى للملك الأب بأن وليده الجديد سيكبر

ويدمر ملكه، فيأمر بقتل ابنه، ليتم بطريقة ما، رأفة بالمولود، إبعاده وتسليمه للماء بعد وضعه في سلة ، لتتلقفه عائلة فقيرة، فتربيه إلى أن يشب عن الطوق ويعود لينتقم من أبيه ، فيستعيد هويته وشرعيته في الحكم والملك من جديد.
ورأى فرويد أن السلة وماء النهر هما رمزان للرحم والسائل الرحمي في لاوعي البشر منذ السنوات المبكرة لعمر الإنسان، وأن التخلص من الأب والانتقام منه رمز لتحرر الرجل من سلطة أبيه. 

لكن فرويد يسارع إلى احتواء مأزق كبير في سياقه البحثي، لينبه إلى وجود إشكال أساسي عالجته الأبحاث التاريخية بطريقة سنعرضها لاحقاً، فكل الأساطير تتفق على أن الوليد المغدور ابن سلالة ملكية ترعاه أسرة فقيرة بعد تسليمه للنهر، إلا موسى فبالعكس تماما، فالابن سليل أسرة فقيرة ، ترعاه أسرة ملكية بعد تسليمه للنهر !! وقد عالجت الأبحاث التاريخية هذا التناقض بطريقة غريبة نوعا ما، فإدوارد ماير وكثيرون غيره، توجهوا للتأكيد على الجنسية المصرية (الملكية) لموسى عليه السلام، اعتماداً على أن القصة التوراتية أسطورة مثل باقي الأساطير، فيها موسى ابن الأسرة الفرعونية الحاكمة في مصر، والنبوءة جاءت لفرعون ملك مصر الذي أمر بالتخلص من موسى ابن ابنته منذ ولادته، فتم رميه في النهر، فرباه بني إسرائيل لدى أسرة فقيرة منهم ، ثم حرف اليهود الأسطورة بطريقة تعاكس باقي الأساطير!. ويشكك فرويد في هذه النتائج من خلال لا معقوليتها على حد تعبيره، فبرأيه أن الأسطورة إما أن مصرية فرعونية، ومن غير المعقول هنا أن يجعل المصريون من موسى ( العدو في النبوءة ) بطلاً لهم، وإما أن أصل الأسطورة يهودي ومن غير المعقول أن يمجد اليهود شخصا من جنسية أخرى ويجعلونه بطلهم القومي، ما دفع فرويد بعد كل هذا العناء للإطاحة بكل ما سبق قائلاً: “لا مناص من القول إذن أن أسطورة موسى، كما وصلت إلينا ما عادت تستجيب لمراميها الخفية، فلئن لم يكن موسى من منشأ ملكي ، فإن خرافتنا لا تستطيع أن تجعل منه بطلاً وإذا ظل يهوديا فهذا معناه أنها لم تفعل شيئاً لتعظم من قدره”.

لا شك أن التناوب في كتاب فرويد بين سرد الحجج ونقضها ثم المتابعة. كان السمة العامة لهذا الكتاب، ولعل من المفيد أن نركز على القضية الثانية (الأسطورة) ونحدد النقاط التالية:

الأسطورة وكما ننظر إليها اليوم، كحكاية تفسر العالم الواقعي عبر ربطه بقوى الطبيعة وما وراء معرفة الإنسان العلمية بها، كانت أكثر من مادة بحثية كما ينظر إليها الآن في عالمنا.
لقد كانت الأسطورة ثقافة جماعات بشرية وأفراد من لحم ودم بممالكهم ودولهم وحروبهم وآلهتهم وتشريعاتهم ومعارفهم، الخ.. وبالتالي فإن أي منهج بحثي يعتمد الفرضيات ويستمر بالبناء عليها مهما كانت النتائج غير متوافقة معها، كما يفعل العالم فرويد رغم إقراره المستمر بلا علميتها، يدفع أي ناقد له بتناول عالم الفرضيات أيضاً لاكتشاف نجاعة استمراره ذاك من عدمه، بحيث يمكننا أن نطرح افتراضاً معكوساً: “موسى إسرائيلي”، وهو افتراض بالنسبة للسيد فرويد يجب أن يتساوى في أحقية طرحه مع أحقية طرحه الافتراضي بمصرية موسى عليه السلام، وعليه فإن افتراض كون موسى رسولاً، وهذا ما لم يقترب منه السيد فرويد، رغم أنه جزء من (الأسطورة كما تقتضي الأمانة العلمية للبحث)، يفترض من جانبنا أيضاً تقديراً إلهياً حكيماً مقتضاه أن تكون سيرة حياة هذا الرسول منسجمة مع ثقافة المرحلة الفكرية للبشر، والتي كما هو معروف تاريخيا، بأن الأسطورة كانت تهيمن على تفاصيلها، وبالأخص حياة القادة والملوك وبالتالي الشعوب، من خلال استخدام الكهنة للأسطورة كقانون وتسخيرها في إحكام الملوك القبضة على السلطة بشكل مطلق وربطها بقوى إلهية، وتفترض أيضاً تقديراً إلهيا حكيماً آخر ، لتحقيق نقلة نوعية في الفكر البشري من المرحلة التي تسيطر عليه الأسطورة إلى مرحلة حضارية أرقى، عبر نسف الأسطورة من خلال قوانينها وقواعدها بالذات ، التي تكررت واستنسخت واستنسخ معها استعباد الشعوب لعصور طويلة. 

إن التفصيل الذي اعترض عليه باحثو التاريخ لشذوذ (أسطورة موسى) عن النمط التقليدي الصارم في بناء الأسطورة الذي يشترط أن يكون المولود من الأسرة المالكة، هو بالضبط المقصود من هذه الحكمة الإلهية في نسف النمط المتكرر من حكم البشر للبشر، بالانقلاب على قواعد وتشريعات الوصول الجائر للسلطة، بأن يكون البطل من الشعب الفقير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن في هذا الانقلاب والشذوذ، ما يدفع المتأمل إلى الوصول الحتمي إلى أن قصة موسى ليست أسطورة أصلاً ، وهذا ما أقر به السيد فرويد بشكل ضمني، في اعتراضه على تفسير الباحثين لاختلاف قصة موسى عن الأساطير الأخرى، فوجدناه يقول محتاراً..

لو كانت الأسطورة مصرية فلماذا يمجد المصريون بطلاً دمر مملكتهم، ولو كانت الأسطورة يهودية فلماذا يمجد اليهود رجلا بطلا منقذاً ينتمي إلى قومية مستعبديهم التاريخيين الفراعنة المصريون، ولا يمكن أن تكون الأسطورة نتاج قومية غير هاتين القوميتين، فإذا لم نجد الأصل البشري للأسطورة فما هي إذن؟.. ألا يعني هذا ببساطة أن القصة ليست أسطورة أصلاً.

إن نظرة معمقة في القصص التي تسرد حياة الأنبياء والرسل عبر التاريخ، تؤكد إرسالهم وتواجدهم في الأوقات الحرجة التي تعيشها البشرية، ولا بد من أن تكون المعجزات التي ترافق إرسالهم والكيفية التي ترتسم بها علاقتهم بالواقع، فيها ثورة على هذا الواقع الذي يعيشه البشر وما يشمله من قيم وأخلاق وأفكار وخصائص متنوعة، نزولاً حتى إلى النزعات الرخيصة التي تعتري المجموعات والأفراد، وعلى المقلب الآخر نجد في هذه الثورة ما يؤكد على الإيجابيات في هذا الواقع ويرسخها.

ولا يختلف نبي أو رسول عن آخر في هذا المنهج الإلهي الحكيم سوى في نسبية المرحلة الحضارية المزامنة، من هذا المنطلق وعلى سبيل المثال لا الحصر وفيما يخص موضوعنا بالتحديد، فإن الكيفية التي ارتسمت بها علاقة سيدنا موسى مع الواقع الحضاري للبشر حينها بأن جاء محطماً لأساطير البشر، لم تختلف عن الكيفية التي جاء بها سيدنا عيسى عليه السلام الذي نزل في عصر سادت فيه أمجاد قبائل بني إسرائيل من حسب ونسب قبائلهم الكبيرة فجاء بلا أب محطماً معاييرهم وغير العالم والتاريخ.

ونزل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن الكريم في أوج عصر البلاغة رجلاً أمياً.. وفي عصر الفسق رجلاً أميناً.. وفي عصر جنون الجهالة القبلية وأمجادها الموهومة رجلاً بسيطاً ، راعياً كادحاً.. ليغير وجه التاريخ الإنساني أجمع.  

لقد حاول السيد فرويد إيجاد توازن غير ممكن بين الأمانة العلمية ونقض جذور الموروث الديني اليهودي، وهذا يفسر التناوب المستمر بين نقض مقدماته ونتائجه والاستمرار في البحث، وكأنه يمارس إحدى جلسات التداعي الحر التي يفكر فيها مرضاه بهواجسهم بصوت عال أمام الطبيب النفسي ، فكأن فرويد في هذا البحث يمارس دور المصاب والطبيب في آن واحد.
  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى