دين ودنيا

التقوى العامرة للدنيا

أ.د فؤاد البنا

أكاديمي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي
عرض مقالات الكاتب


حينما تُذكر التقوى تتبادر إلى أذهان كثير من الناس صورة شخص منهمك في علاقته بالله ولا شأن له بالناس، وصورة كائن سلبي منشغل بالآخرة عن الدنيا بالكلية!
إن الفهم الأخروي للتقوى واحد من معضلاتنا الفكرية المعاصرة؛ فقد أظهر هذا الفهم الإسلام في صورة دين لاهوتي لا علاقة له بالناس، أو كأن الله صاغ الإسلام لينظم عملية انسحاب أبنائه من الدنيا إلى الآخرة!
وبلا شك فإن هذا الأمر مخالف لمعنى التقوى في الإسلام وهو أن لا يجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، مع استحضار أن الإسلام دين شامل لسائر مجالات الحياة!

تابعنا في فيسبوك


لقد ضاعف الفهم المغشوش للتقوى من تخلف المسلمين وأصبح من أهم منابع الضخ لظاهرة الغثائية التي تُغرق مجتمعاتنا في الجهل والضعف والذل والفقر وضنك العيش؛ لأنه مكّن الفاسدين من الاستفراد بالدنيا بعيدا عن تعاليم السماء، وأفقد الدنيا كثيرا من الطاقات التي كان بإمكانها تحريك عجلة الفاعلية الإنسانية الراقية، لو استشعر أصحابها أن الله ابتلاهم بمواهبهم وطاقاتهم وتعبدهم بتوظيفها في عمارة الأرض وصناعة الحياة!
ولو تأمل المسلمون نصوص الوحي لوجدوا أنها تُدخل قيم صناعة الحياة ضمن شعب الإيمان، بل وتجعل هذه القيم من العبادات المتعدية التي تبقى أجورها منهمرة حتى بعد الممات، بعكس العبادات اللازمة وهي المنحصرة بين المؤمن وربه فإن أجورها تتوقف بمجرد أن تزهق روح العابد!

أما النصوص التي تُزهد في الدنيا ومتاعها، فهي إما تنهى عن سلوك طرق الحرام في الحصول عليها أو تحذر من تسلل الدنيا إلى القلوب فتصبح أكبر همها ومبلغ علمها وغاية رغبتها!
وهذا الأمر يُذكي قضية صناعة الحياة الطيبة بشكل أكبر؛ لأنه لا يمنع المسلمين من العمل وابتغاء الرزق والتمتع بالطيبات، وإنما يبعدهم عن الطمع والأثرة والأنانية ويقيهم من التوحش والافتراس وتبلد المشاعر الإنسانية، ويحمي مجتمعاتهم من التحول إلى غابة يفترس فيها القويُ الضعيف ويستغل فيها الغني الفقيرَ، فتمتلئ القلوب بالكراهية وتنتشر الأحقاد وتشيع الحروب!

اقرأ: كيف سأستثمر الترفيعات الرمضانية؟


ولنتخيل كيف ستصير الأمور لو أن كل مسلم يحمل ذات الروح التي يحملها من يذهب لإقامة الصلاة في المسجد، وهو ذاهب لطلب العلم في مدرسته أو جامعته؟
وماذا سيحدُث لو أن كل من يذهب لأداء وظيفته وممارسة مهنته في أي من مجالات الحياة، يحمل روح التعبد التي يحملها من يذهب لأداء فريضة الحج؟
وكيف سيكون حال المجتمع لو أن كل من يمتنع عن مقارفة الفواحش التي نهى عنها الدين السماوي الواضح أو العرف الاجتماعي الصحيح أو القانون التشريعي السليم، لو أنه يحمل نفس مشاعر التقرب من الله التي يحملها الصائم في رمضان عن الممنوعات؟
وكيف سيكون وضع المناعة الاجتماعية لو أن كل مسلم يتعبد الله بأن يعطي مما منحه الله من علوم ومعارف أو آداب أو فنون أو مواهب أو خبرات لمن يحتاجها، بنفس طريقة من يتعبد الله بإيتاء الزكاة وإخراج الصدقات للفقراء والمساكين؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى