يشير الكاتب بعد ذلك إلى تحوُّل الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة إلى المسيحيَّة في القرن الرابع الميلادي، دون إشارة إلى اعتماد الإمبراطوريَّة عقيدة التثليث باعتبارها عقيدتها الرسميَّة، ومع التشكيك في نيَّة الإمبراطور قسطنطين المحرِّكة لذلك التحوُّل، معتبرًا أنَّ التفكُّك الذي عانت منه الإمبراطوريَّة حينها ما دفعه إلى ذلك. نشأ في الدولة البيزنطيَّة لاحقًا كيانٌ دينيٌّ موازٍ لهيكل السلطة الحاكمة، وأسس كهنة الكنيسة الكاثوليكيَّة “معمارًا” موازيًا، احتكر السلطة، وفرض على الحاكم طاعته. استمرَّ احتكار الكهنة للمسيحيَّة، وبالذات في إمكانيَّة قراءة الكتاب المقدَّس، المكتوب في الأصل باليونانيَّة ثم اللاتينيَّة، في ظلِّ اقتصار التعلُّم على رجال الكنيسة. وكان مارتن لوثر قائد ثورة الإصلاح الكنسي، لمَّا أدان الكاثوليكيَّة بخصوص 95 مسألة انحرفت فيها الكنيسة عن صحيح الديانة؛ والنتيجة كانت نشوب عداء طويل بين البروتستانتيَّة، التي أسسها لوثر، والكاثوليكيَّة صاحبة التاريخ المديد. ولم يكن حلٌّ للخلاف التاريخي بين الكنيستين إلَّا من خلال الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، فيما عُرف بالعلمانيَّة. ويجد الكاتب أنَّ الحروب الصليبيَّة انتهت بنوع من “التكافؤ العسكري”؛ حيث انتهت بخروج المسيحيين من العالم الإسلامي، وخروج المسلمين من الأندلس، وكأنَّ الحروب الصليبيَّة كانت لثأر أوروبا من استعمار الأندلس، وهذا يتطابق مع رأي برنارد لويس في أكثر مؤلَّف، سواء أوروبا والإسلام (1990)، أو أزمة الإسلام (2003). انتهت القرون الوسطى بنوع من تكافؤ القوى بين الشرق والغرب، في رأي الكاتب، الذي يتجاهل حقيقة التردِّي الشديد الذي عانت منه أوروبا في القرون الوسطى، التي عُرفت بالعصور المظلمة، وأنَّ هدف الحروب الصليبيَّة كان إيقاف التوسُّع الإسلامي في أوروبا على يد السلجوقيين، والاستفادة من الوفرة التي تنعَّم بها المشرق الإسلامي، وقبل كل ذلك تأسيس مملكة الربِّ في أورشليم، وهي أهداف نفعيَّة بحتة اكتسبت مظهرًا دينيًّا، ونموذجٌ مثاليٌّ للحملات الجهاديَّة الأصوليَّة.
انتقلت أوروبا في عهد الكشوف الجغرافيَّة إلى مرحلة جديدة في تاريخها، غلب عليها الفكر التوسُّعي، بفضل القوَّة الماديَّة والعلميَّة التي حقَّقتها. كان الاستعمار في هذه المرحلة مختلفًا، كما يشير الكاتب، الذي يرى أنَّ التبشير في هذه المرحلة كان بالتنوير الناتج عن الفكر التحرُّري العلماني، وليس بالمسيحيَّة، وهو ما أطلق عليه الكاتب “العلمانيَّة التبشيريَّة” في مقابل “المسيحيَّة التبشيريَّة”. يتغزَّل الكاتب في العلمانيَّة التي صنعت مجد الغرب المادِّي، ولا ينتقد الحملة الفرنسيَّة على مصر والشام، التي يعترف بإخفائها أهدافها الاستعماريَّة خلف ستار التحديث والتمدين وإحياء القوميَّة المصريَّة الفرعونيَّة، ومع ذلك يمتدح هدفها التنويري. وتعتبر الولايات المتَّحدة من أكثر الدول الغربيَّة التي، مع اعتناقها العلمانيَّة، لم تزل الأصوليَّة الإنجيليَّة تسيطر على سياساتها. ومن أهم تأثيرات الأصوليَّة الإنجيليَّة في أمريكا ظهور تيَّار المحافظين الجُدد، ويشكِّل هذا التيَّار الكتلة التصويتيَّة الأساسيَّة للحزب الجمهوري، الذي ينتمي إليه الرئيسان السابقان جورج بوش الأب والابن، والرئيس الأسبق رونالد ريجان، وكذلك الرئيس الحالي دونالد ترامب، والتي تعتبر عهود الثلاث الأوائل منهم أكثر عهود خاضت فيها أمريكا حروبًا طاحنة، الحرب الباردة في عهد ريجان، وحرب الخليج الأولى في عهد بوش الأب، وحربا أفغانستان والعراق في عهد بوش الابن.
ينتقل الكاتب إلى الأصوليَّة الإسلاميَّة، واصفًا إيَّاها بـ “الأكثر عنفًا”، وزاعمًا أنَّ العنف المرتبط بالحركات الجهاديَّة المحسوبة على الإسلام يتجاوز العنف الممارس من قِبل الحركات الأصوليَّة المطالبة بـ “مملكة المسيح”، وبذل الدماء في سبيل ذلك، كافرًا بالتقدُّم والحداثة. يذكر الكاتب أنَّ الأصوليَّة الإسلاميَّة هي “الأخطر” على الإطلاق، وهي تستمدُّ تصوُّرها للحكم من الحنين إلى زمن الخلفاء الراشدين، مشيرًا إلى مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين غيلةً. يرى الكاتب في الحجَّاج بن يوسف الثقفي النموذج القديم لهتلر النازي في الدمويَّة، ويذكِّر بتوظيف الأمويين للنص الديني في تحقيق مطامع دنيويَّة آنيَّة، وقد ساعد في ذلك نشر فِكر الجهميَّة، المؤمن بالقدريَّة، والمعتبر أنَّ الحاكم قَدَر المحكومين؛ فاستفاد الأمويُّون من ذلك في إكساب حُكمهم الشرعيَّة.
يسترجع الكاتب قصَّة إشهار معاوية بن أبي سفيان سيفه في خطبة تنصيب نفسه خليفةً للمسلمين، وتهديده الصريح بالقتل لمن يعارضه، كما يشير إلى استغلال العبَّاسيين الخطاب الديني في الدعوة إلى إسقاط الحُكم الأموي، ثمَّ استخدامهم العنف والقسوة في دحر المعارضين بعد وصولهم إلى السلطة، ويصفهم بأنَّهم كانوا “أكثر قسوةً من نابليون بونابرت والاحتلال الأجنبي”. ويتعجَّب الكاتب بعد ذلك لوجود فِكر “رومانسي” في مخيِّلة بعض السلفيين يحنُّ إلى الخلافة الراشدة التي حَكَمت العالم الإسلامي، التي ربَّما لا يعرف عنها أكثر من ظاهرها، كما يرى الكاتب، الذي يعارض فكرة أن يخضع العالم الإسلامي مترامي الأطراف تحت حُكم رجل واحد، كما يعتقد الأصوليُّون.
شهد التاريخ الإسلامي صراعًا حول نظريَّة الحُكم بين السُّنَّة، أنصار الخلافة، والشيعة، أتباع الإمامة. وتقوم فكرة الإمامة على مفهوم التلقِّي النابع من الفلسفة الغنوصيَّة، بافتراض أنَّ بعض البشر يمتلكون رقيًّا روحانيًّا يؤهِّلهم لتلقِّي العلم من السماء. ومن هنا ادَّعى الشيعة أنَّ الإمام علي، المنتمي إلى بيت النبوَّة، والمنحدر من نسل أبِّ الأنبياء إبراهيم، كان يتلقَّى وحيًا وعلمًّا باطنيًّا، مما يعني أنَّ الرسالة المنزَّلة على نبيِّنا مُحمَّد لم تنتهِ بانتقاله إلى جوار ربِّه، والأمر ذاته ينطبق على الإمام عليٍّ والأولياء من نسله من زوجه نجلة النبي. لا يختصُّ هذا الوحي بالتشريع، إنَّما هو “وحي نوراني” للهداية إلى الحقِّ وتفريقه عن الباطل. يرى الكاتب أنَّ نموذج الخلافة كان دائمًا رمزًا لاستغلال الدين في كسب الشرعيَّة، وإن لم تكن الخلافة هي النظام الرسمي للدولة، ضاربًا المثل في ذلك بالسعوديَّة، التي تدَّعي الحداثة على حدِّ وصفه، بينما هي ترتبط بالوهَّابيَّة في تحديد مسارها. في حين سمة الإمامة على مرِّ الزمان هي المعارضة، والمثل الحيِّ لذلك إلى يومنا هذا هو إيران، دولة الولي الفقيه. يشير الكاتب إلى إعلان الخميني الرسمي لانتقال الولاية له من الإمام الغائب لحين ظهور الأخير، على أن يجسِّد الولي الفقيه الإمام بما يتلقَّاه عنه من علم. يمتدح الكاتب إيران، قائلًا عنها دولة “عاقلة، منظَّمة؛ لديها مليشيات مسلَّحة، لكنَّها تديرها بتعقُّل“. ومع هذا المديخ لإيران، ينتقد الكاتب تنظيم طالبان الجهادي، وتنظيم داعش المسلَّح، المنتميان إلى المذهب السُّنِّي، مندِّدًا باستخدامهما القوَّة الغاشمة في العالم.
وتعليقًا على ادِّعاء الكاتب استخدام إيران القوَّة بتعقُّل، ومديحه استناد وليِّها الفقيه إلى شرعيَّة تلقَّاها عن الإمام الغائب، وبقائها رمزًا للمعارضة المستنيرة بالعلم الباطني على مرِّ العصور، ننصح بمطالعة ما تناقلته وسائل الإعلام العربيَّة الغربيَّة عن انتهاكات النظام الإيراني حقوق الإنسان، لا سيَّما في دولة الولي الفقيه.

نكتفي بالإشارة إلى مقال محكمة العدل الدوليَّة التابعة للأمم المتَّحدة-Amnesty International، الصادر 4 ديسمبر من عام 2018، بعنوان إيران ترتكب جريمة ضدَّ الإنسانيَّة بإخفاء مصير آلاف الطلَّاب المعارضين السياسيِّين، يتناول التقرير الذي أعدَّته المحكمة في اليوم ذاته عن جرائم النظام الإيراني ضدَّ الطلَّاب المعارضين في السجون عام 1988 ميلاديًّا، وإخفاء مصيرهم، ومنحته اسم الأسرار المغموسة بالدماء: لماذا تُعدُّ مجازر إيران في السجن عام 1988 جرائم مستمرَّة ضدَّ البشريَّة؟
يقول التقرير أنَّ الآلاف تعرَّضوا للاختفاء القسري، ثمَّ للإعدام في السجن خارج نطاق القضاء عام 1988 ميلاديًّا، مع استمرار النظام الحاكم في إخفاء الحقائق، والإساءة إلى عائلات الضحايا، مع إصراره على الإنكار. يشير التقرير إلى أنَّ “الأسرار المغموسة بالدماء” لم تزل تطارد الدولة إلى يومنا هذا؛ حيث يعني إصرار النظام الحاكم على إنكار إخفاء الضحايا قسريًّا، والكشف عن مصيرهم يعني “استمرار تلك الجرائم ضدَّ البشريَّة إلى اليوم”.