بحوث ودراسات

تحليل تأخُّر المسلمين عن مسيرة الحداثة الغربيَّة من منظور علماني (ج4)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

سيطرت فكرة النبي الملِك على بني إسرائيل، الذين يستمدُّون من سيرة الأنبياء الملوك، يشوع وداود وسليمان، الفخر. جمع هؤلاء الملوك ما بين السلطتين الدينيَّة والدنيويَّة، وظلَّت فكرة الجمع بين السلطتين قائمة، حتَّى في ظلِّ حُكم القضاة، بعد زوال حُكم الملوك، على حدِّ وصف الكاتب. يشير الكاتب، في إطار تسلسُل تاريخي غير صحيح، إلى تطوُّر فكرة الجمع بين الحكمين الديني والدنيوي لدى بني إسرائيل على مر تاريخهم، وصولًا إلى فترة حُكم المكابيين، التي خضعت دولتهم للحكم الروماني، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ خضوع دولة يهودا المكابي للرومان كان في النصف الثاني من القرن الأخير قبل الميلاد، وعلى يد الأدومي هيرودس أنتيباس، الذي أخضع دولة يهودا إلى سُلطانه عام 37 قبل الميلاد، وعُيِّن حاكمًا من قِبل الرومان، مكتسبًا الشرعيَّة بزواجه من مريم المكابيَّة. لم تقم لليهود قائمة في دولة مستقلَّة إلَّا في الزمن الحديث، بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 ميلاديًّا، حينما اعتقد اليهود إمكانيَّة عودة ثنائي الدين والسلطة. 

لم تعرف اليهوديَّة التبشير قط؛ انطلاقًا من التكوين العنصري للذهنيَّة اليهوديَّة، التي تعتقد أنَّ اليهود متميِّزون عن سائر الأمم بصفاء روحاني ونقاء جيني، ومن هنا آثر اليهود العزلة عن الأقوام الأخرى على مرِّ العصور. حتَّى لمَّا أسسوا دولتهم، جعلوا من تلك الدولة أشبه بـ “قلعة” محصَّنة؛ لخوفهم من الغير، وشعورهم بالاضطهاد. يشير الكاتب كذلك إلى ازدواجيَّة البنية الأخلاقيَّة لليهود، التي تمنعهم عن الاعتداء على حقوق بعضهم، ولا تمنعهم عن ذلك مع الأغيار، مستشهدًا بدعوة الرب يهوه لهم بالاستيلاء على المال والحلي الثمين من المصريين قبل خروجهم من مصر. ظهرت في القرن الثامن عشر حركة تنويريَّة يهوديَّة، أطلقها المفكِّر اليهودي موسى مندلسون، تأثُّرًا بأستاذه المفكِّر الشهير إيمانويل كانت. استهدفت تلك الحركة مصالحة اليهود مع العالم، بإيمان اليهود بخلاص الآخرين، وخلْق مفهوم اليهودي العلماني، المؤمن بالأخلاق القوميَّة. غير أنَّ تلك الحركة لم تستمر طويلًا، وانسحقت تحت أقدام الحركة الصهيونيَّة. 

يتميَّز الفكر الجهادي اليهودي بأنَّه “عنف بدأ بتأسيس دولة”، أي أنَّه مدعوم بشرعيَّة منحتها الدولة إيَّاه. يشير الكاتب إلى أنَّ جماعة اليهود الحريديم، التي سبقت الصهاينة إلى القدس بسنوات، واستوطنت أرض فلسطين منذ أمد بعيد، كانت أشدُّ كرهًا للصهيونيَّة من العرب أنفسهم عند تأسيس إسرائيل. كوَّن الحريديم حياة منفتحة على العرب، وعملوا في التجارة في حياة مستقرة، لدرجة جعلت الكاتب يدَّعي أنَّهم كانوا أشدَّ كرهًا للاجتياح اليهودي لفلسطين من العرب أنفسهم. وفي رأي الكاتب، يوجد في المجتمع اليهودي اليوم ثلاث جماعات: اليهود الأصوليين (الأرثوذكس)، واليهود العلمانيين، والصهاينة الدينيين، وهي أخطر جماعة على الإطلاق، على حدِّ قوله. نشأت الصهيونيَّة الدينيَّة باعتبارها الشكل الحديث للصهيونيَّة، بعد تحرُّرها من العلمانيَّة، أي لم تعد تقبل التعايش مع غير اليهود، وتدعو إلى تطهير أرض الميعاد من الأغيار؛ فنجحت في إسكات الأصوات اليهوديَّة في إسرائيل المطالبة بتأسيس دولة فلسطينيَّة، وتقبل التعايش مع الأغيار، وعلى رأسها حركة المؤرخين الجدد. ظهرت هذه الحركة في ثمانينات القرن الماضي، نتيجة اطلاع جيل جديد من الباحثين على الوثائق الموجودة في الأرشيف الوطني الإسرائيلي، طالبوا بإعادة النظر في الفِكر الصهيوني، وشكَّكوا في بعض افتراضات الصهيونيَّة. تُعرف حركة المؤرخين الجدد بأنَّها جزء في حركة أوسع يُطلق عليها ما بعد الصهيونيَّة، ظهرت احتجاجًا على الممارسات الصهيونيَّة، لكنَّها لم تستطع الصمود في مواجهة سيطرة الفكر التوسُّعي العنصري. 

ينتقل الكاتب إلى مسألة السلطة في المسيحيَّة، التي يراها تمثِّل النموذج المعياري لكلِّ ما يقال عن فكرة الحُكم الديني. تولَّدت المسيحيَّة بوصفها ردِّ فعلٍ لليهوديَّة، وتكوَّن لدى مؤسسها، يسوع الناصري، هاجسان، على حدِّ وصف الكاتب، وهما رفض العنصريَّة اليهوديَّة، استنادًا إلى مبدأ الدين للجميع، والخلاص بالإيمان، والله ليس حكرًا على اليهود وحدهم، وتحدِّي النزعة الدنيويَّة لدى اليهود، وبخاصَّة الفريسيين. يعبِّر الكاتب عن إعجابه الشديد بالسمو الأخلاقي الذي تعكسه موعظة الجبل (إنجيل متَّى، الإصحاح 5)، التي يراها مثالًا رائعًا للتسامح الدَّيني سبق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومواثيق الأمم المتَّحدة لنشر العدالة بين البشر. ويجد الكاتب في فِكر يسوع النَّاصري نموذجًا مبكِّرًا للدعوة إلى فصْل الدِّين عن الدَّولة، وعدم تأثير النصوص الدينيَّة على التوجُّه السياسي. ويدلل على ذلك بما جاء في قول يسوع “أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ” (إنجيل متَّى: إصحاح 22، آية 21)، الوارد بصيغة أخرى وفي إنجيل مرقس “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ” (إصحاح 12: آية 17). دخل يسوع في صراع ديني شديد مع الفريسيين، ممن أرادوا احتكار الإيمان بالربِّ يهوه لبني إسرائيل، وكوَّنوا كهنوتًا دينيًّا مارس سلطات واسعة تدَّخلت في شؤون الحُكم. كان يسوع النَّاصري، وهو “نبي عظيم” يحبُّه الكاتب ويحترم دعوته، حاسمًا في موقفه من التقيُّد بالنصوص المقدَّسة التي تتنافى مع العقلانيَّة، فقال “السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ” (إنجيل مرقس: إصحاح 2، آية 27). يتَّفق سالم مع افتراض أنَّ يسوع النَّاصري كان يهودي المولد والنشأة، وأنَّ رسالته جاءت لتقويم اعوجاج العقيدة اليهوديَّة، التي أفسدها تسلُّط فئتي الفريسيين والصدوقيين واستغلالهما الدِّي في تحقيق منافع شخصيَّة؛ فجاء يسوع للقضاء على ماديَّة الفريسيين واستعلاء الصدوقيين. في رأي سالم، مهَّد التحرُّر الفكري لعقيدة يسوع النَّاصري لتطوير عقيدة البرِّ بالإيمان، التي صدح بها بولس الرَّسول في رسالته إل أهل روميَّة ” لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ. لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»” (رسالة أهل روميَّة: إصحاح 1، آيتان 16-17). 

والسؤال الهام هُنا، إذا كان صلاح سالم يستشهد بما سبق من أقوال يسوع النَّاصري في تكوينه صورة عن تأييد يسوع الناصري لفكرة الفصل بين الدين والدولة، فلماذا لم يعلِّق على أمره بقتل معارضي وصوله إلى المُلك على بني إسرائيل في إنجيل لوقا “أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي” (إنجيل لوقا: إصحاح 19، آية 27)؟ ولماذا لا يعلِّق مدَّعو أنَّ المسيح جاء رسولًا للسلام على نفي المسيح هذا بقوله في إنجيل لوقا “جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟ أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ، أَقُولُ لَكُمْ: بَلِ انْقِسَامًا” (إنجيل لوقا: إصحاح 12، آيتان 49-51)، الذي يؤكِّد قوله في إنجيل متَّى “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ” (إنجيل متَّى: إصحاح 10، آيات 34-36)؟ ولماذا لا يعلِّقون كذلك على إقران يسوع العداء بين الرجل وأهله بالانضمام إلى تلاميذه “إنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا” (إنجيل لوقا: إصحاح 14، آية 26). 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى