برغم ما يُثار عن التَّواطؤ السِّرِّي بين الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة ونظام ملالي الشِّيعة، منذ نشأته في فبراير 1979م بعد زوال نظام الشَّاه محمَّد رضا بهلوي، أقوى حليف للولايات المتَّحدة في المنطقة العربيَّة، والتَّعاون الأمريكي-الإيراني في العديد من الملفَّات الإقليميَّة، لا سيِّما الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، بل والتَّندُّر بأنَّ ‘‘ولاية الفقيه’’، النِّظام السَّائد في إيران هي الولاية الأمريكيَّة الحادية والخمسون، مرَّت العلاقات الأمريكيَّة-الإيرانيَّة خلال العقود الأربعة الماضية بتوتُّرات أنذرت بإشعال فتيل الحرب في المنطقة. ومنذ فشل مفاوضات فيينا لإحياء الاتِّفاق النَّووي بين الولايات المتَّحدة وإيران أواخر عام 2022م، صار احتمال المواجهة العسكريَّة بين الطَّرفين أقوى كثيرًا من السَّابق، خاصَّةً إذا ما أُخذ في الاعتبار تقدُّم البرنامج النَّووي الإيراني وقُرب تطوير أوَّل قنبلة نوويَّة إيرانيَّة، ما تتَّخذه دولة الاحتلال الإسرائيلي ذريعة لحشْد الرَّأي العام العالمي ضدَّ إيران وتبرير توجيه ضربة لمنشآتها النَّوويَّة.
غير أنَّ دولة الاحتلال الإسرائيلي تواجه معضلة كبيرة هذه الآونة، تتمثَّل في إبرام نظام الملالي اتِّفاقًا للتَّصالح مع المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، قد تنضمُّ إليه دولة خليجيَّة أخرى؛ ما يعني امتناع دول الخليج عن المشاركة في ضرْب إيران، ولو بالسَّماح بمرور الطَّيران الحربي الإسرائيلي في مجالها الجوِّي. وتزامنًا مع تصفية الأجواء بين إيران ودول الخليج بعد عداء تاريخي يمدُّ بجذوره في عقائد الشِّيعة الإماميَّة، تجدَّد التَّوتُّر بين الولايات المتَّحدة ونظام الملالي، بعد تعرُّض منشأة صيانة في قاعدة لقوَّات التَّحالف قرب الحسكة في شمال شرق سوريا مساء الخميس 23 مارس الجاري، كانت تضمُّ جنودًا أمريكيين في سوريا، لهجوم بواسطة طائرة مسيَّرة (درون) يُشتبه في أنَّها موجَّهة إيرانيًّا. وقد بادرت وزارة الدِّفاع الأمريكيَّة (البنتاغون) بالتَّعليق على الواقعة، متعهِّدةً بالرَّدِّ على الاستفزاز الإيراني، وإن كانت “لا تسعى لتصعيد الموقف مع إيران” لكنَّها “ستردُّ بسرعة وحسم إذا تعرَّضت سلامة الأمريكيين للتَّهديد”. ويبدو أنَّ إيران لا تأبه بالتَّهديد الأمريكي، حيث أنَّها هاجمت قاعدة القرية الخضراء الأمريكيَّة في سوريا بـ 10 صواريخ في أعقاب هجوم المسيَّرة على جنود أمريكيين؛ ما ينذر بمواجهة شرسة بين الطَّرفين، قد تتَّخذها دولة الاحتلال الإسرائيلي فرصة لتحييد النَّشاط النَّووي الإيراني.
أمريكا تتَّهم إيران باستفزازها وتتوعَّد بالرَّدِّ
أكَّد المتحدِّث باسم وزارة الدِّفاع الأمريكيَّة، باتريك رايدر، أنَّ بلاده لا تريد أيَّ مواجهة مع إيران في هذه الآونة، لكنَّ الاستفزاز الَّذي قامت به الأخيرة يجبر بلاده على التَّحرُّك لاحتواء التَّهديد الإيراني المتزايد. وقد شنَّت القوَّات الأمريكيَّة بالفعل هجومًا على موقع لتمركُز القوَّات الإيرانيَّة شمالي سوريا أدَّى إلى مقتل 14 مقاتلًا إيرانيًّا، بالإضافة إلى مقتل آخرين من الجنود المتحالفين مع القوَّات الإيرانيَّة. وبحسب ما صرَّح رايدر به لشبكة CNN الإخباريَّة، فإنَّ “الضَّربات الَّتي قمنا بها الليلة الماضية كانت تهدف إلى توجيه رسالة واضحة للغاية مفادها أنَّنا سنأخذ حماية أفرادنا على محمل الجد، وسنرد بسرعة وحسم إذا تعرضوا للتَّهديد”. وأضاف المتحدِّث باسم البنتاغون “لن أتحدَّث عن العمليَّات المستقبليَّة المحتملة أو استعرضها، بخلاف القول إننا سنحتفظ دائمًا بالحقِّ في الرَّدِّ بشكل مناسب إذا تعرَّضت قوَّاتنا للتَّهديد”.
في حين علَّق بيان نشَره المركز الاستشاري الإيراني في سوريا على العدوان الأمريكي الأخير، مؤكِّدًا على أنَّ الوجود الإيراني في سوريا يستهدف تقديم العون للنِّظام الحاكم ضدَّ ‘‘الجماعات الإرهابيَّة خاصَّةً داعش’’، موضحًا أنَّه “منذ سنوات طويلة والمنطقة تتعرَّض لهجوم من أمريكا لفرض معادلة، وكان عذرهم دائمًا أنَّهم يردُّون على مصادر النِّيران بناء على قناعاتهم وشائعاتهم، يسعون لاستهداف أسلحة دقيقة ومعدَّات حسَّاسة تنقلها إيران وتشكِّل تهديدًا لإسرائيل”. هذا، وقد حذَّر البيان الجانب الأمريكي من قسوة الرَّدِّ الإيراني مستقبلًا، حيث جاء فيه “بالنَّظر إلى ما سبق وبعد هذا الهجوم الذي تم من منطقة التنف السُّوريَّة تحت الاحتلال الأمريكي، نحذِّر العدوِّ الأمريكي من أنَّ لنا اليد العليا، وإذا تمَّ استهداف مراكزنا وقوَّاتنا في سوريا فلدينا القدرة على الرَّدِّ”.
نتنياهو يحشد الرَّأي العام العالمي ضدَّ إيران
يستغلُّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بيامين نتنياهو، زيارته لبريطانيا، محطَّته التَّالية بعد إيطاليا، هذه الأيَّام في تكثيف حشْده الرَّأي العام العالمي للامتناع عن العودة إلى الاتِّفاق النَّووي مع إيران. وخلال لقائه بنظيره البريطاني، ريشي سوناك، دعا نتنياهو الدُّول الكبرى إلى الضَّغط على إيران وتوجيه ردٍّ رادع يثنيها عن المضيِّ في تطوير برنامجها النَّووي. وكان موقع أكسيوس الاستخباراتي الأمريكي قد أعلن مؤخَّرًا أنَّ دولة الاحتلال الإسرائيلي قد أبلغت البيت الأبيض أنَّها ستضطرُّ لشنَّ ضربة ضدَّ إيران، إذا ما حصَّبت اليورانيوم فوق مستوى 60 بالمائة، بعد أن سرت أقاويل تفيد بأنَّ إيران خصَّبت اليورانيوم بنسبة نقاء تجاوزت 84 بالمائة، وهي كافية لإنتاج قنبلة نوويَّة مدمِّرة. وأضاف الموقع أنَّ إسرائيل تطالب البنتاغون الأمريكي بتسليم 4 ناقلات جويَّة من طراز “كيه سي- 46” (KC-46) للتَّزوُّد بالوقود الجويِّ، استعدادًا لضرْب المنشآت النَّوويَّة في إيران. ونتساءل: هل تحدث مواجهة فعليَّة بين أمريكا وإسرائيل من جانب وإيران من جانب آخر، أم يقتصر الأمر كالعادة على الحرب الكلاميَّة؟