بحوث ودراسات

تحليل تأخُّر المسلمين عن مسيرة الحداثة الغربيَّة من منظور علماني (ج3)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

أمَّا النهضة الثقافيَّة العربيَّة الثانية، فبدأت-وفق رواية سالم-مع مجيء الحملة الفرنسيَّة إلى مصر والشام أواخر القرن الثامن عشر، وفشلها-في رأي الباحث-يكمن في أنَّها “جاءت ومعها مطبعة ومدفع”. إثارة الإعجاب بنشر العلم بواسطة المطبعة، وإثارة الخوف بنشر الذعر باستخدام المدفع، أسفر عن انقسام في الشعور الشعبي تجاه الحملة ما بين الترحيب والنفور. جاءت بعد ذلك الدارسين المصريِّين في أوروبا بأفكار تنويريَّة، ويُستشهد بذلك بمحمَّد عبده، الذي طالب بتغليب العقل على النقل، واستخدام العقل في تأويل النصِّ القرآني بحسب مقتضيات العربيَّة؛ لأنَّ العقل وحده يمكنه فهم العالم. تفسير القرآن لا بد وأن يسبقه فهم لمقاصد الله العليا في الوجود وفي أنفسنا، من خلال النظرة إلى النص من منظور فلسفي، لكنَّ دعوة عبده لم تلقَ أيَّ ترحيب؛ على العكس، فقد كان يلجأ إلى المعتمد السامي البريطاني في تمرير بعض التحديثات، التي يرفضها الحاكم العثماني في مصر. لم يكتمل مشروع محمَّد عبده بسبب عجزه عن إصلاح الأزهر، كما تحوَّل تلميذه محمَّد رشيد رضا-على حدِّ وصف الكاتب-من داعية تنويري إلى كاتب عن الإمامة واستعادة الخلافة. وازداد الأمر سوءًا بتحويل حسن البنَّا-تلميذ محمَّد رشيد رضا-تلك الفكرة إلى واقع عملي، بتأسيس جماعة الإخوان المسلمون.

تابعنا في فيسبوك

انقسم الفكر العربي العقلاني بعد ذلك إلى تيَّارين، كلٌّ يدافع عن رأيه بشراسة ولا يقبل الاندماج في الآخر: الأول سلفي ينادي بمفهوم أسلمة الحداثة، والآخر علماني يرى ضرورة تحديث الإسلام. وعن صراع هذين التيَّارين، تكوَّن تيَّارٌ توفيقي على يد مفكِّرين درسوا العلوم الإسلاميَّة، ولكن وجدوا في الثقافة الغربيَّة ما يستحقُّ الاتِّباع. ويعتبر الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه تجديد الفكر العربي المؤسس الفعلي لهذا التيَّار، والمعلِن عنه. غير أنَّ ذلك التيَّار هُزم مع هزيمة يونيو عام 1967 ميلاديًّا، وانهزام المشروع القومي، الرافض للاستعمار وللخلافة. وهكذا، عاد المشروع السلفي القائم على فكرة عودة الخلافة الإسلاميَّة.

وقد نظَّمت حركة “علمانيُّون” ندوة في نوفمبر من عام 2018 استضافت فيها الكاتب صلاح سالم لمناقشة كتابه الجديد تفكيك العقل الأصولي: النزعات الجهادية في الديانات الثلاث الإبراهيمية (2018)، الذي يتناول فيه عجز الأصوليَّة الدينيَّة عن التجاوُب مع الفكر الحداثي، واستنادها إلى عقائد هي المحرِّك الأساسي لتخطيطها المستقبلي، وعلى رأسها عقيدة الجهاد، التي تقضي بمحو أيِّ عنصر منافس للأصوليين. وكان لنجاح الثورة الإيرانيَّة عام 1979 ميلاديًّا دوره في نشر الفكر الأصولي، الداعي إلى تأسيس دولة دينيَّة، وهو ما لا يقبله التيَّار الحداثي في أيِّ دولة مدنيَّة حديثة؛ لأنَّ الأصوليَّة الإسلاميَّة، من وجهة نظر الكاتب، تعكس نمطًا غريبًا من رفض الحداثة؛ بسبب عجزها عن إدراك عدم إمكانيَّة تجاوُز ثلاثة مفاهيم يعتبرها دعائم النهضة والديموقراطيَّة السياسيَّة في الغرب اليوم، وهي القوميَّة، والعلمانيَّة السياسيَّة، والنزعة الفرديَّة.

يبدأ الكاتب بشرح مكوِّنات العقل الأصولي، لافتًا إلى أنَّه عقل “مستقبلي”، وليس ماضويًّا، كما يُفترض عنه؛ حيث يستمد من الماضي أفكارًا يوظِّفها في خدمة مستقبله. يستحضر العقل الأصولي الإسلامي الماضي في رسم صورة للمستقبل، بأن يستعيد ذكرى زمن الصحابة، ليس من باب الحنين، إنَّما من أجل تأسيس دولة دينيَّة على النمط السابق. وثاني سمة للعقل الأصولي يشير إليها الكاتب هي أنَّه “نفعي”؛ لأنَّه من أجل تنفيذ مراده، لا بدَّ له من استخدام أرقى ما أنتجه العقل الحداثي من وسائل أصبحت تشكِّل كيفيَّة تصريف أمور الحياة اليوميَّة، ويضرب المثل في ذلك بتنظيم داعش الإرهابي، الذي استعان بأحدث العلوم والأسلحة ووسائل الاتصال في عمليَّاته الجهاديَّة. أمَّا السمة الثالثة للعقل الأصولي فهي أنَّه “انتقائي”، أي يستحضر من الماضي ما يخدم أغراضه، وليس الماضي كلَّه، وتتم هذه الانتقائيَّة على عدة محاور، منها المحور المكاني، والمحور الزماني، والمحور الذهني. يتمثَّل المحور المكاني في اختزال العالم في المدينة المنوَّرة، من حيث انبثقت الدعوة إلى الإسلام. ويقوم المحور الزماني على اقتناص لحظة تأسيس العقيدة، دور الوقوف عند ما عرفه تاريخ البشريَّة لاحقًا من تطوُّرات وتغيُّرات، فالأصولي لا يرى سببًا في الرجعيَّة والتأخُّر إلَّا الابتعاد عن الدين، دون وعي بما أفرزته الحضارة الحديثة من منجزات تجاوزت غيَّرت وجه العالم، في رأي الكاتب.

أمَّا المحور الذهني، فهو عجز العقل الأصول عن إدراك المفاهيم المختلفة عن فكره؛ فالفلسفات التي لا تتفق مع مصالحه ينبذها، مهما ثبتت منافعها، حتَّى فلسفة ديكارت، مؤسس الفلسفة الحديثة. يشير الكاتب إلى السمة الرابعة للعقل الأصولي، وهي أنَّه “تآمري”، يستشعر وجود مؤامرة ضدَّه باستمرار، ويشترك في ذلك كل المتدينين، الذين يشعرون دائمًا أنَّ العلمانيين مصدر خطر عليهم؛ كونهم “كائنات أرضيَّة” ترفض القداسة. وتتمثَّل السمة الخامسة للعقل الأصولي في أنَّه “عنيف، دموي”؛ إذ أنَّه لا يقبل إلَّا أن تسود حقيقته، ويُفرض فهمه على فهم الآخرين، من خلال العنف، إن لم ينفع اللين.

يعتبر الكاتب أنَّ الأصوليَّة الإسلاميَّة منحت الشرعيَّة لمفهوم حُركة الخروج على الحاكم، مهما كان استبداده، ضاربًا المثل في ذلك بقول ابن تيمية “ستون عامًا من سلطان جائر خيرٌ من ليلة بلا سلطان”، على اعتبار أنَّ الفوضى هي العدو الأول للشعوب. وانطلاقًا من هذا المفهوم، “تحوَّل 1400 سنة من تاريخ الإسلام إلى استبداد مستمر؛ لأنَّ الخروج على الحاكم إثم كبير، والفوضى هي الخطر الأكبر”. وبرغم إسقاط أفكاره على الإسلام منذ بداية حديثه، يشير الكاتب إلى أنَّ الاستبداد سمة أساسيَّة للفكر الأصولي للديانات الإبراهيميَّة الثلاث، التي يطلق عليها “شرائع ثلاث في دين توحيدي واحد”. يبدأ الكاتب بتتبُّع الفكر الأصولي اليهودي، القائم على فكرة عهد الربِّ لأبرام العبراني بمُلك على مملكة من النيل إلى النهر الكبير، نهر الفرات، وانتقال تلك الفكرة إلى الأجيال اللاحقة لبني إسرائيل، بدءً من إسرائيل نفسه، الذي حصل على اسمه هذا بعد غَلَب الربَّ وكسر ساقه، وفق ما ورد في سفر التكوين. صدق عهد الربِّ لأبرام تبلور مع حفيده يعقوب، لمَّا تغلَّب على سطوة الربِّ في “معركة متوهَّمة” أكسبت الأوَّل الشرعيَّة في استحقاق الوعد بأرض من النيل إلى الفرات. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى