مختارات

الإنسان والكون في الإسلام قراءتان مختلفتان تؤسسان لكثير من مسائل الخلاف

د. محمد عياش الكبيسي

أكاديمي عراقي
عرض مقالات الكاتب



خلاصة القراءة الأولى (أن الله تعالى كلف الإنسان بإدارة هذه الأرض وإعمارها وقد سخر له كل ما يحتاجه لفرض سيادته عليها واستثمار مواردها ومعالجة مخاطرها وفق شريعة الله سبحانه، والإنسان ممتحن في كل هذا “ليبلوكم أيكم أحسن عملا”)
هذه القراءة تعني أن الإنسان قد استخلفه الله على هذه الأرض “إني جاعل في الأرض خليفة” “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” بمعنى أنه الموكّل بإدارة الأرض وهو المسؤول عنها، ولذلك قالت الملائكة: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” فالإنسان هو المسؤول ثم هو المحاسب “يوم الدين” الذي هو يوم الحساب.
وينبني على هذا :
١-أن ما يحدث من حروب ومظالم وقتل وتهجير فالمسؤول عنه الإنسان نفسه، وكذلك فالمسؤول عن مكافحة هذا الظلم هم المظلومون أنفسهم، فالصراع بين الحق والباطل أصل في عقيدة الاستخلاف والاختبار “من رأى منكم منكرا فليغيّره..”.
٢-أن الموارد والثروات المودعة في هذه الأرض إنما هي هبة الله لهذا الإنسان، بحيث تكفيه أينما كان، فوجود إنسان جائع على هذا الكوكب إنما هو دليل على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وليس هذا من العدل الإلهي ولا من حكمته سبحانه إلا من حيث اختبار الغني بالفقير وفق عقيدة الاستخلاف.
٣-أن الله خلق الكون كله وفق سنن كونية تنظم حركة أفلاكه وذراته، لكن هذه السنن مع كل هذا النظام البديع الذي تحكمه لا تعني تحويل الدنيا إلى جنة، بل القرآن يقول : “لقد خلقنا الإنسان في كبد” فالدنيا دار النقص والمحن والكوارث والأمراض، التي تصيب المؤمن والكافر ، التقي والفاجر، الشيخ الكبير والطفل الصغير، والإنسان ممتحن في كل هذا، بمعنى أنه مكلف بالتخفيف من آثارها السلبية بما تعلمه من خبرات وتجارب وبما تمليه عليه فطرته ومصلحته من تعاون وتكافل.
٤- أن الأصل في الحساب والجزاء أنهما أخرويان، ولذلك قد نرى ظالما يموت وهو ظالم ومظلوما يموت وهو مظلوم، لكن إذا أخبرنا الله تعالى أنه أهلك قوما بظلمهم أو كفرهم آمنا وصدقنا، لكن هذا أقرب للخوارق والمعجزات كما في قصة هلاك فرعون، والخوارق لا نقيس عليها ولا نتنبأ بها، فالله تعالى نجّى إبراهيم عليه السلام من الحرق، ولم ينجِ الثلة المؤمنة في قصة أصحاب الأخدود، بل لم ينجّ أنبياء آخرين حيث ماتوا قتلا “ويقتلون النبيين”.
٥-إن الحكمة الإلهية الكلية أو المحورية تتصل بشكل واضح بأصل خلق الإنسان والغاية من وجوده وما ينتظره من حساب وجزاء، وهذه الحكمة تفسر أيضًا تفسيرا كليا كل المآسي التفصيلية التي يتعرض لها الناس بسبب طبيعة هذه الحياة وما جبلت عليه من نقص، أو بسبب سوء سلوك الإنسان، (وهو ما يسمى اليوم بسؤال الشر الذي أصبح عدّة الملحدين) ومن التكلف البحث عن الحكمة الإلهية الغيبية المفصلة عن كل حدث حتى لو كان حادثا مروريا مثلا، فضلا عن الجزم بذلك. بل الصحيح البحث في أسبابه العلمية والواقعية لتداركها ومعالجتها، مع إيماننا المطلق بأن مسؤوليتنا العلمية والعملية هذه داخلة في الحكمة الإلهية الكلية لأن الله تعالى هو الذي أمرنا بهذا البحث وهذا الإعداد “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”.
.
أما القراءة الثانية فتتلخص في (تضييق مساحة الاختيار الإنساني، تبعا لتضييق معنى الاستخلاف أيضًا، بل هناك من ينكر أن الإنسان خليفة الله في أرضه، وأنه مكلف بإعمار الأرض، بل هو مكلف فقط بعبادة الله تعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” وأن قدر الله ماض في الصغيرة والكبيرة، وأن سعي الإنسان لا يغير من هذه الأقدار التفصيلية، حتى قال قائلهم:
جرى قدر الإله بما يكون
فسيّان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق
ويرزق في غشاوته الجنين
.
بل قالوا: إن الله هو الذي خلق الزنا للزاني والسرقة للسارق، لأن “الله خالق كل شيء” والإنسان إنما يحاسب على نيته، مع أن النية أيضًا شيء فهي مخلوقة لله أيضًا ويستدلون على ذلك بقوله تعالى “وما تشاءون إلا أن يشاء الله” قال أحدهم: (لولا أن الله شاء لكم أن تشاءوا لما شئتم )
وقد انبنى على هذه القراءة عدة أمور:
١-البحث عن الحكمة الإلهية التفصيلية في كل حدث مهما كان وذلك من خلال القياس والقرائن والنتائج، ليس في الزلازل والكوارث الكونية والأوبئة العامة فقط، بل حتى في الحروب المدمرة، فتدمير سوريا وراءه حكمة إلهية، وضياع فلسطين والأندلس من قبل وراءه حكمة إلهية، حتى رسوب الطالب في الامتحان والحادث المروري بل حتى في سرقة السارق وزنا الزاني كل ذلك وراءه حكمة إلهية، لأن الله خالق كل شيء، وحاشا أن يخلق الله شيئا عبثا.
٢-التنبّؤ بما سيكون بناء على قاعدة “الحكمة الإلهية” ففي أحداث رابعة مثلا قال الخطيب مستبشرا بنصر الله: (حاشا لله أن يكون مع الظالم ضد المظلوم) وفي جائحة كورونا سمعت أحد كبار الوعّاظ المعروفين يقول: (إن الفيروس جندي من جنود الله، والجندي يمشي على خطة محكمة ولا يمشي على هواه، فحاشا لجنود الله أن يسلطهم الله على أولياء الله). ومع الأسف أن أكثر هذه التنبؤات تأتي بالعكس، فيضطر هؤلاء الإخوة إلى تصحيح تنبؤاتهم بعد فوات الأوان.
٣-الانتظار السلبي للتغيير، ومع أن هذه ليست ظاهرة عامة لكنها موجودة، وهي متسقة مع النقاط الماضية مثل؛ (فسيان التحرك والسكون) وأن القدر سيتدخل في الوقت المناسب ووفق حكمة الله تبارك وتعالى.

٤- الرضا بالواقع لأنه جزء من إرادة الله وحكمته، بل رأيت من تطوع لخدمة الظالمين لأن الله تعالى هو الذي اختارهم فوجودهم حكمة إلهية لا تصح مصادمتها، و”السلطان ظل الله في أرضه”
٥-تبرير كثير من الأخطاء الفردية والجماعية، فالمتهور في سياقة سيارته الذي قتل نفسه وقتل الآخرين إنما كان ذلك بقدر الله وحكمته وليس بسبب التهور، كذلك القيادة التي اقحمت شعبها في متاهات ومهالك من دون إعداد ولا شورى ولا تخطيط وهكذا . بينما القرآن يقول في حق الصحابة رضي الله عنهم يوم نكسة أحد “قل هو من عند أنفسكم”.
.
بين هاتين القراءتين هناك محاولات للجمع والتوفيق أو الوقوف في منتصف الطريق.
.
وكل أولئك وأولئك متسلحون بظواهر المئات من النصوص والروايات والأدبيات والقصص والشواهد والحكايات مما يستعصي على الحصر.
.
ولكن يبقى السؤال الفلسفي الكبير ؛ أي القراءتين أقرب إلى تحقيق مقاصد الإسلام الكبرى في بناء شخصية الإنسان الصالح والواعي والمسؤول عن تصرفاته والقادر على التأثير في مجريات الحياة؟ وبناء الأمة القوية القادرة على حماية نفسها وتحقيق المنافسة في ميادين العلم والقوة والسياسة والاقتصاد ونحو ذلك؟
.
أعرف أن هذا الموضوع لا تلم شعثه هذه الكلمات، لكنها ومضة لتنشيط الذهن وإعادة التفكير في بعض التصورات التي حلت في عقولنا وقلوبنا محل المعتقدات، والله يهدينا صراطه المستقيم، ويبعدنا عن أصحاب الجحيم.
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى