مقالات

الثورة والزلزلة (ما الذي بقي ..؟)

محمد علاء الدين

كاتب وإعلامي سوري
عرض مقالات الكاتب

اثنا عشر عاماً من ثورة شعب، وأربعون يوماً من زلزلة أرض، عاشهما معاً ملايين السوريين في مواطنهم ومهاجرهم وأماكن النزوح، ومن لم يعشهما واقعاً لبعدٍ جغرافي عايش فيهما، وفي ارتداداتهما، كل عذابات القهر والقسر والعسف والخراب وآلام فقدان أحبة، لم يخل منها بيت سوري حيثما كان في أرض تضيق عليه بما رحبت. ولكأنما الطبيعة أبت أن تتم الثورة السورية، فريدة الألفية الميلادية الثالثة، عامها الثاني عشر من غير أن تختمها بأربعين يوماً من الزلزلة.
كارثة الطبيعة المتمثلة بزلزال هو في ذاكرة الأجيال الأعنف في المنطقة الممتدة جغرافياً من منتصف سوريا الشمالي إلى منتصف الجنوب التركي، ما زالت أرقامها الألفية غير نهائية، وستبقى كذلك ما دامت الأنقاض غير مزالة، والركام جاثماً فوق آلاف ممن ما زالوا في تعداد المفقودين، وإن تقوضت الآمال بنجاة أو عثور على أحياء، لكن الاحصاءات ما زالت ناقصة الثبوت لضحايا زلزال كان أشد كارثية وضرراً منذ لحظته الأولى، ثم بما تبعه من زلازل عدة متقاربة الشدة، وهزات متراوحة، وارتدادات بلغت آلافاً، من غير أن تستقر صفائح أرض في الأعماق وما زالت إلى الآن بساكني سطحها تميد.

فجائعية كارثة الزلزال على السوريين أنها كانت في لحظة واحدة، فكان وقعها صاعقاً، لكنها على هولها وأرقامها المتصاعدة لا تشكل رقماً ملحوظاً كنسبة مئوية أمام أهوال ما تعرض له السوريون عبر سنوات ثورتهم من كل أشكال القتل والتنكيل والاعتقال والتغييب والترهيب والتخريب ومن ثم ما نجم عن كل تلك الأفعال الإجرامية من كوارث على الصعد كافة. إن أية مقارنة رقمية بين حصيلة كارثة الزلزال من ضحايا فاق عددهم من السوريين عشرة آلاف في كل من سوريا وتركيا، وضعفهم من مصابين، وآلاف البيوت المهدمة والمتصدعة وما استدعته من نوم في العراء وحركات نزوح جديدة، وما ستستجره من تبعات نفسية وصحية ومعيشية وتعليمية واجتماعية لأكثر من مليون متضرر، تبقى كنسبة رقماً أحادياً لا يبلغ في أي جانب منه عُشْر الكارثة الكبرى التي هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من فعل من ينتسبون إلى فصيلة البشر خَلْقاً فيما هم بعيدون عن كل فضيلةٍ خُلُقا.

كارثة الزلزلة على السوريين بأيامها الأربعين مضافة إلى مجموع الكوارث والنكبات التي حلت بهم نتيجة طغيان قاده عمى التمسك بالسلطة مدفوعاً بأجندات اقليمية تتخذ من ترسبات أحقاد باطنة ذريعة لمزيد من الإجرام المؤدلج، خدمةً لمشاريعها الاستراتيجية الطامحة إقليمياً، وشبه مسكوت عنه دولياً في إطار محاولات تشكيل جديد لعالم كاد أن يتعرى من الحدود الدنيا للأخلاق، تضعنا أمام سؤال أهم في ذكرى انطلاقة الثورة السورية، فبعد اثني عشر عاماً من عمر هذه الثورة وما صبت إليه ( ما الذي بقي..)؟.

ما الذي بقي.. ؟.
والثورة التي قامت انتفاضةً عارمة لشعب كسرت مجاميعُه في بارقة سانحة لربيع عربي كل قماقم الخوف، وحطمت كل جدران الصمت، لتزلزل عرش منظومة الطغيان في أيام معدودات امتدت فيه شعلتها من أقصى الجنوب إلى أقصى جهات الوطن، وكانت من غير ايديولوجيات ومن غير تحضيرات ولا تحريضات، ومن غير أي أثر فاعل لأحزاب أو تكتلات عملت منظومة الحكم على تصحيرها لعقود ونجحت، لكن الثورة فاجأتها من حيث لم تستطع المنظومات كبح جموح التطلع إلى دولة حرية وكرامة في عصر ما عادت فيه مقصات الرقباء، ولا مقاصل الرقبات قادرة على وقف سيول المعلومات المتدفقة عالمياً، ولا اجتثاث الأصوات الهادرة بالتغيير وإن توحشت بالتنكيل اعتقالاً وقتلاً واقتلاعَ حناجر. لكن أصحاب النداء المتصاعد حينها لتبقى الثورة من غير قيادات سياسية خوفاً عليها من انحرافات وانجرافات، وجدوا لاحقاً، بين ظهرانيهم و ممن جاء من غياهب ليعتلي الظهور، من يحاول حرفها مستجراً بخطاب متشدد ومتطرف يتخذ من عاطفة الدين الفطرية ستاراً لأجنداته، ليخلق واقعاً جعل الحاضنة الثورية في تخبط، وأمام أكثر من عدو قديم ومتجدد، ما زالت تعاني حتى في محررها من رواسبه وخلاياه السرطانية النشطة والنائمة، وليتخذ ذريعة من دول تبحث عن الذرائع وإن كانت من الصانعين.
ما الذي بقي..؟
وما استطاعت قوى الثورة المسلحة في سنواتها الأولى من فرضه على الأرض واعتبرته محرراً كان متصلاً من الحدود الأردنية جنوباً إلى التركية شمالاً ومتسع الأرجاء شرقاً وغربا، ثم بدأ الضمور والتقلص وقطع الأوصال بقعة بقعة ليغدو شريطاً في الشمال الغربي تتقاسمه قوتان في طيات كل منهما ما يبقي الاحتمالات غير مأمونة العواقب قائمة في كل لحظة، وخاضعة لضغوطات قوى نافذة، خارجية وداخلية.
ما الذي بقي.. ؟
وما زالت قوى الثورة على الأرض والحاضنة الشعبية بعيدة عن كل تنظيم مقنع لصفوفها، وفرز فاعل لنخبها، وقناعة بمن يدعي تمثيلها وهي عنه غير راضية، لا عن بنيانه ولا حقيقة تمثيله ولا أدائه السياسي الهزيل. فيما واقع الأمر داخلياً أفرز قواه النافذة بسطوة السلاح وفصائل غير منضبطة تحول بعض قادتها إلى أمراء حرب، وما يزال انضواؤها في هيكلية الجيش الوطني مثار أخذ و رد على الرغم من كل الجهود المبذولة التي قطعت شوطاً، وما زالت تسعى، لكنها لم تبلغ بعد ما يقنع التطلع. فيما المؤسسات الحكومية بإداراتها المدنية والخدمية وبمجالسها المحلية ما زالت تشكو من ضعضعة في الأداء نتيجة توازع التبعيات والولاءات غير المنظبطة في إطار حكومي يبقي مسمى (الحكومة) مظلةً راعية أكثر من كونها سلطة تنفيذية تمارس كامل مهامها ومسؤولياتها على الأرض، ويبقي صوت الحاضنة الذي ارتفع خلال الأشهر الأخيرة بضرورة التمكين مجرد صوت لا يجد منعكسه المرتجى.
ستكثر الأسئلة عما بقي، لكن ثمة أملاً لا يبرح كل نفس ثورية تؤمن في قرارتها بما قامت ثورة شعب لأجله، وقدمت من التضحيات ما لم يعرفه التاريخ المعاصر في الثورات. تلك الأنفس الحرة التي لم تتمكن كل النوائب و الكوارث والجرائم التي شتتها في أصقاع المهاجر وأماكن النزوح ومخيماته من قهر إرادتها.
هل بقي رهاننا الأخير على تلك الروح الثورية؟ وهل تلك الروح بعد اثني عشر عاماً من زلازل الإجرام والطبيعة لم تتزلزل؟.
من يستعيد اليوم ما كان قبل اثني عشر عاماً، وما فعلته آنذاك الروح الثورية الكامنة من زلزلة ما زال أثرها مستمراً وكل ارتداداته قائمة، يدرك أن تلك الروح قادرة على الانفحار في كل آن، وأنَّ روح الثورات تبقى مُزلزِلةً وإن اعترتها زلزلة.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. الجواب المباشر على سؤال الأخ محمد – حفِظهُ اللهُ – (ما الذي بقي ..؟) هو : بقي الكثير من عوامِلِ النصر بعون الله ، وعلى هذا الجواب براهين عقليةٍ مُشاهدةٍ محسوسةٍ مُتعدَدةٍ و أدلَةٍ شرعيةٍ زاخِرَةٍ وافِرةٍ . لا أستطيعُ في تعليقٍ أن أسرُد هذه البراهين و الأدلة التي تحتاجُ إلى تأليف كتاب يتكوَن من مئات الصفحات ، و لكن الأجدى إعطاءُ ومضاتٍ مُقتضباتٍ مبَنيَةٍ على استنتاجاتٍ “علمية” قائمة على الملاحظات و قراءة وقائع التاريخ و الحاضر و الربط بين الأحداث السياسية التي جرى مُتابعتها عبر السنوات – بحذرٍ شديدٍ حتى لا يكون هنالك تضليل – مع استعانة بالله لتكون هنالك هِدايةٌ إلى الحق و الصواب في القول و العمل و التفكير بما يُرضي الله عنا ثم بما يخدم أمتنا على الوجهِ الصحيحِ حتى لا تُباع لها أوهامٌ أو خيالاتٌ أو أمنياتٌ بعيدة المنال .
    تعلَمنا من القرآن العظيم قصة سيَدنا النبي موسى– عليه السلام – مع العبد الصالح الذي أكرمه الله بالعِلْم و وصفه بأنه (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) حيث تحوَل كليمُ الله و من أوتي المعجزات إلى طالبِ علمٍ متواضعٍ عليه أن يصبر على أستاذِه لكي يتعلم منه تفسير ظواهر تبدو أنها شرَ محض بينما يختبئ وراءها خَيْرٌ عَمِيمٌ.
    و لننظر إلى ما يُفيدُ أن رؤية عقل الإنسان – الصائبة في الظاهر – تتضاءلُ أمام تلك الرؤية المُستمدة من الوحي ، حيث في الحديثِ الصحيحِ عن أمَنا أم المؤمنين عائشة – رضي اللهُ عنها و أرضاها – (أنَّهم ذبحوا شاةً فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ما بقيَ منْها ؟ قلت: ما بقيَ منْها إلَّا كتفُها . قالَ : بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها ).
    من دون بلادِ الله الواسعة ، لبلادِ الشام خصوصيات لم تتوفر لسواها فهي مثلاً شام الرسول بدليل قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح (اللَّهمَّ بارِكْ لنا في شامِنا) و كرَر ذلك ثلاثاً أو أكثر ، أي أنها له و لأمته مباركةً لمُستجاب الدعاء . كذلك مثلاً الأحاديث الصحيحة و منها (يا طوبَى للشَّامِ يا طوبَى للشَّامِ يا طوبَى للشَّامِ ، قالوا يا رسولَ وبم ذلك ؟ قال : تلك ملائكةُ اللهِ باسطو أجنحتِها على الشَّامِ )، (…فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ تكفَّلَ لِي بالشَّامِ وأهْلِهِ) ، (إذا فسَدَ أهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ …).
    لقد كان طبيعياً أن تتعرض بلاد الشام لابتلاءات على أيدي الكفار و أدواتهم حيث تنقلت من سيطرة الاستعمار القديم “المتمثل ببريطانيا و فرنسا” إلى أن انتقلت لسيطرة الاستعمار الفرعوني “أو عاداً الثانية” في 8 آذار/مارس 1963 و توطدت هذه السيطرة الأخيرة في نهاية عام 1970 و هي مستمرة حتى يومنا هذا .
    تميَز الاستعمار الفرعوني هذا بكثرة أدواته ” وكيل مأجور ، عميل مأمور ، أجير مسعور ، هيمنة على أموال سفهاء ينفقونها بأمره ” . قام ، و بمساعدة مخابرات إقليمية ،بتصنيع القاعدة ومُشتقاتِها “مثل داعش ” كما قام باختراق جماعات و تحويل الثوار إلى تُجَار . مع أنه أعلن بنفسه و أعلنت أدواته النصر المبين ، إلا أنه استعمارٌ رعديدٌ غير واثقٍ بنفسه و لا مُطمئنٍ بدليل أن من أدخلهم إلى سوريا أبقاهم فيها رغم انتهاء مبررات تواجدِهم المُصطنعة بل و العجيب أن معتوه قصر المهاجرين “شبشب أميركا” طلب زيادة قواعد الوكيل المأجور تحت سخافة إحداث التوازن الدولي و تعدد الأقطاب !!
    كُنْتُ من أوائل من وصفوا ثورة شعب سوريا المباركة بأنها الكاشفة أو الفاضحة و مع مرور السنوات فقد فعلت الثورة ذلك و سقط النقاب عن الوجوه الغادرة و حقيقة الشيطان بانت سافرة “أفراد ، جماعات ، هيئات، منظمات ، دول ، دويلات ، مليشيات …” و في الوقت ذلك تعلَم أهل الشام الكثير و كأنهم تحت صِناعةٍ ربَانيةٍ لِقادِمِ الأيام . لن يطول العذاب بإذن الله و سينقلبُ السِحْرُ على الساحِر مهما كانت الاحتياطات.
    آيتان كريمتان تبعثان على هدوء البال و عدم استعجال ما عند الله بشرط الأخذ بالأسباب لحصول المُسبَبات (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ). صدق الله العظيم .
    من دون تواكلٍ أو قدرية غيبية ، أقول باستمرار لليائسين أو المتشائمين ما قاله شاعِرٌ حكيمٌ مجهول
    ” دع المقاديرَ تجري في أعَنّتها** ولا تبيتنّ إلا خاليَ البالِ .
    ما بين غَمْضةِ عَين وانتِباهتِها ** يُغيّرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى