أسباب التَّخلُّف الحضاري في مصر من منظور صمويل تادرس
أطلق الباحث المصري صمويل تادرس كتابه Motherland Lost: The Egyptian and Coptic Quest for Modernity-الوطن المفقود: السعي المصري والقبطي للحداثة عام 2013 في مؤتمر نظَّمه معهد هدسون الأمريكي للأبحاث الاستراتيجيَّة في العاصمة الأمريكيَّة، واشنطن. ينضمُّ الكتاب إلى سلسلة كتب تتناول الأوضاع في الشرق الأوسط، إلى جانب مؤلَّفات لكبار المستشرقين، أمثال برنارد لويس وفؤاد عجمي. يعترف الباحث أنَّ الكتابة عن أوضاع الأقباط في مصر لم تكن من أولويَّاته؛ على اعتبار أنَّه اعتنق الفكر الليبرالي منذ أمدٍ، وانشغل بالتحليل السياسي. غير أنَّ اقتناعه المبني على الدراسة بأنَّه لا يمكن للمرء أن يكون “مصريًّا” و “قبطيًّا” في ذات الوقت؛ والسبب وجود تعارض بين الجانبين. استفاد الباحث من تجربته كثيرًا في معرفة تفاصيل عن تاريخ الحركة الليبراليَّة في مصر ما كان ليعرفها لو لم يكتب مؤلَّفه.
يرى تادرس أنَّ هناك روايتين أساسيَّتين لتاريخ الأقباط في مصر؛ الأولى هي تعرُّضهم للاضطهاد، وهو أمر لا ينكره أحد، على حدِّ قوله. يروى الباحث أنَّ عدد الأقباط في تراجُع متواصل بسبب سحقهم على يدِّ الرومان، ثمَّ العرب، ثمَّ الأتراك، وفي هذا ما يتنافى مع الرواية الثانية عن تاريخهم، والتي تروِّج لتكوينهم وَحدة مع المواطنين الآخرين، فيما عُرف بــ “الوحدة الوطنيَّة”، التي حاول الأجانب تشتيتها على مرِّ العصور. ويبدو أنَّ تادرس يشكِّك في الروايتين؛ فهو يرى أنَّ الأقباط لم يكونوا أبدًا ضعفاء أو عاجزين، ضاربًا المثل بالبابا كيرلس الرابع، الذي بنى أوَّل مدارس للفتيات في مصر برغم ضعف موقف الأقباط في حينه، وبالعديد من الإصلاحيِّين في تاريخ الكنيسة، ممن بذلوا قصارى جهدهم من أجل تحسين أوضاع الأقباط برغم قلَّة الإمكانات.
يشير تادرس إلى انطلاق العديد من دعوات التحديث في مصر على يد شباب مصري واعٍ أراد تحسين أوضاع بلاده من خلال تطبيق أفكار أوروبَّا. يستشهد الباحث بطه حسين في كتابه مستقبل التعليم في مصر (1938)، الذي قال فيه أنَّ الثقافة المصريَّة لم تكن عربيَّة أو مسلمة، إنَّما هي من ثقافات البحر المتوسط، أي أقرب إلى الفكر الأوروبي. صحيح أنَّ محمَّد عليّ حاول الاستفادة من تقنيات أوروبا الحديثة، لكنَّه لم ينقل أفكارها إلى مصر، وكأنَّ التحديث في نظره هو الاستفادة من التقدُّم المادِّي، بلا أيِّ اعتناء بالعقل. استكمل إسماعيل، حفيد محمد عليّ، مسيرة التحديث من منظوره الخاص هو الآخر؛ فحَصَر التحديث في بناء القصور ودار الأوبرا، وعمارة المدن على النسق الأوروبي.
بعد الاحتلال البريطاني، نشأت علاقة تُوصف بعلاقة حبٍّ وكراهية تجاه الغرب؛ فهناك أمور تستدعي الإعجاب، ولكن من الصعب إظهار الحبِّ تجاه الغرب بسبب الاحتلال. ويطرح الباحث هنا سؤالًا: كيف يمكن التعامل مع المستعمر بودٍّ وتطبيق علومه وأفكاره في ظلِّ احتلاله للبلاد؟ والسؤال الأهم في رأيه: أين تكمن مشكلة تأخُّر العالم الإسلامي-لتقل الشرق الأوسط-عن مسيرة التقدُّم، التي وصل من خلالها العالم الغربي والشرق الأقصى إلى السيطرة على اقتصاد العالم؟ بمعنى آخر، هل يتوافق الإسلام مع الحداثة أم لا؟ ردَّ محمَّد عبده على هذا السؤال بالإيجاب، معتبرًا أنَّ الإسلام شجَّع على العلم، وأنَّ الحلَّ في العودة إلى طريقة تعامُل السلف مع أمور الدنيا في مهد الرسالة المحمَّديَّة. بالطبع، أثار هذا الرأي حفيظة دعاة التحديث من المنبهرين بأوروبا وقيمها. أحمد لطفي السيِّد، على سبيل المثال، رأى ألَّا سبيل للعودة إلى حال السلف، ووجد الحلَّ في اتِّباع نهج أوروبا. أمَّا بالنسبة إلى كيفيَّة التعامل مع الإسلام، فقد وجد لطفي السيد ورفاقه نصفه في دعوة اللورد كرومر إلى تنحية الدين جانبًا في السياسة لما له من تأثير معضل؛ أمَّا النصف الآخر، فقد وجدوه في رأي الداروينيَّة الاجتماعيَّة في الدين، وهو أنَّ العالم في تغيُّر متواصل، ومن المستبعد النظر إلى أمر مثل الدين مستقبلًا. الحلُّ الأمثل كان في تنحية الإسلام جانبًا ووضعه خارج المعادلة السياسيَّة، ويرى الباحث أنَّ شعار الإسلام هو الحلُّ، الذي رفعته جماعة الإخوان المسلمون، هو ردُّ الإسلاميِّين على دعوة الحداثيِّين إلى تنحية الإسلام وإخراجه من السياسة.
وبرغم حرص الحداثيِّين على اللحاق بالغرب، فقد عجزوا عن تحقيق ذلك؛ فمحاولاتهم الفاشلة يتزامن معها تطوُّر جديد للغرب يزيد من تقدُّمه. وتحمل الدولة، كنظام حاكم، مسؤوليَّة فرض الحداثة والمدنيَّة.
كان للكنيسة القبطيَّة في الولايات المتَّحدة عندما تولَّى الأنبا شنودة الباباويَّة عام 1970 ميلاديًّا كنيستان فقط؛ أمَّا عندما رحل عام 2012، فقد وصل عدد الكنائس هناك إلى 202، كما وصل عدد الكنائس القبطيَّة في الخارج إلى 525-تقريبًا نصف عدد الكنائس القبطيَّة جميعها، أي نفس عدد الكنائس في مصر. بدأ هجرة المسيحيِّين إلى الخارج منذ عهد عبد الناصر، الذي يتَّهمه الباحث بالتحيُّز ضد المسيحيِّين، برغم ادِّعائه تطبيق العلمانيَّة؛ وكانت المناهج الدراسيَّة تتخذ طابعًا إسلاميًّا، برغم عداء النظام للإخوان المسلمين. هرب المسيحيُّون من العالم الإسلامي بشكل عام بسبب الاضطهاد، بعد أن كانوا همزة الوصل بين الشرق-حيث وُلدوا ونشأوا-والغرب-حيث يمارسون طقوسهم الدينيَّة بحريَّة ويجدون تماهيًا مع أهله، الذين يشاركونهم جوهر العقيدة الدينيَّة، وإن وُجدت اختلافات مذهبيَّة.
للاستزادة نرجو مراجعة هذا المقال
https://resalapost.com/2021/02/12/%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%91%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%85%D8%A4%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D9%91%D8%AF%D8%A9-%D9%84/