أخبار عاجلة

ملابسات موقعتي الجمل وصفِّين من منظور رافضي (ج7)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يزداد شعور عبد الرَّحمن بن ملجم بالامتعاض تجاه الإمام عليّ، بعد سكوته عن اتِّهامه بالكُفر وتوعُّده بالنَّار، وهو عاجز عن الرَّدّ، ولكن تهدأ ثورة العامَّة بعد أن يتعهَّد الأغلبيَّة على تأييد الإمام عليّ وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه. غير أنَّ حرقوص بن زهير السَّعدي يتَّهم مؤيّدي عليّ من أهل العراق بالكُفر، مشبّهًا إيَّاهم بأهل الشَّام الَّذين ناصروا معاوية في بغيه. مع ذلك، تهدأ ثورة عامَّة العراق، ويتّفقون على نُصرة الإمام عليّ. في حين يصرُّ حرقوص على إثارة العامَّة ضدَّ الإمام، طالبًا من ابن ملجم مقابلة في دار ابن وهب، في تمهيد من الكاتب للكشف عن مخطَّط قتْل عليّ على يد ابن ملجم. يتفاجأ ابن ملجم عند لقاء حرقوص بن زهير في دار ابن وهب بإصرار الأوَّل على كُفر عليّ، الَّذي استحقَّ عليه القتل، تمامًا مثل عثمان. يذكّر ابن ملجم حرقوص بمكانة الإمام عليّ، لكنَّ السَّعدي يبرّر تكفير عليّ ووجوب قتله كما يلي (صــ598):

-يا رجل، ألم تخرج من الفسطاط للمديمة لكفْر عثمان؟ فما عليٌّ إلَّا كعثمان! ألم يكن عثمان صحابيًّا، وزوج ابنتي رسول الله، وقد كفَر؟ وها هو عليٌّ صحابي، وزوج فاطمة بنت رسول الله، وابن عمِّه، وقد حكَّم النَّاس في كتاب الله فباء بها وكفَر. لم تشفع سابقة عثمان لعثمان، ولم تشفع سابقة عليٍّ لعليِّ. أمَّا هؤلاء الَّذين يأبون إلَّا الاعتراف بكُفر هذا أو ذاك من صحابة رسول الله، فإنَّهم يُقدِّمون النَّاس على الله، وينظرون للاسم وللسَّابقة، ولا ينظرون إلى الفعل والحاضرة.

ويضيف حرقوص إنَّ عليًّا أبى التَّوبة والتَّراجع عن إنهاء المعركة قبل الانتقام من قتلة أهل العراق وقهْر معاوية وجيشه، مشيرًا إلى أنَّ بيعة الإمام ونُصرته تكون بأفعاله، لا بنسبه أو انتمائه القَبَلي. يشارك شريح بن أوفى في النّقاش، مذكّرًا بأنَّ أنصار عليّ أيَّدوه حتَّى انتصر في موقعة الجمل، وبأنَّهم تراجعوا عن مطالبته بقبول التَّحكيم، لكنَّه لم ينزل على رأيهم. ويوضح شريح سبب اللوم على عليّ في قبوله الاحتكام إلى كتاب الله لفضّ النّزاع مع معاوية (صــ599):

-فحاربنا معاوية لأنَّنا على حقٍّ وهو على باطل، فإن حكَمنا بينه وبيننا فيصبح أحدُنا على حقٍّ وأحدُنا على باطل، فهل حاربناه وهو على حقٍّ فإذًا كنَّا فَسَقة عُصاة حِدنا عن صراط القرآن؟ وهل حاربناه وهو على باطل فكيف نُحكِّم القرآن بين حقٍّ وباطل؟

ويضيف شريح إنَّ اختيار عمرو بن العاص للتَّحكيم كان يخالف أمر الله؛ فالله تعالى يقول ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [سورة المائدة: 95]، وابن العاص أبعد النَّاس عن العدل، كما يدَّعي الكاتب على لسان شريح. يولّي الخوارج عبد الله بن وهب، الَّذي اجتمعوا في بيته، أميرًا عليهم، معتبرين أنفسهم جبهة الحقّ، وعازمين على الهجرة إلى بلد يشنُّون منهم حملتهم على أهل الباطل؛ ويجد ابن ملجم نفسه في النّهاية مدفوعًا إلى الانضمام إليهم، بعد أن استمالته حُجَّتهم (صــ603):

-اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنقاذ حُكم الله، فإنَّكم أهل الحقِّ، فلنخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذ أبوابها، ونخرج على سُكَّانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدِمون علينا.

أدرك ابن مُلجم أنَّهم قرَّروا الحرب حين فكَّروا في ركوب بلدة، وطرْد أهلها وحُكمها، فخشي أن يتَّهموه بالجُبن حيث لا يُبايَع، فصاح بسرعة:

-أنا معكم.

مخطَّط خلْع عليٍّ عن الخلافة وتولية معاوية

يوظّف إبراهيم عيسى شخصيَّة عمرو بن العاص في تدبير المكائد والمؤامرات كعادته؛ ويباشر ابن العاص بعد نجاح حيلته في معركة صفِّين مهمَّة جديدة، وهي تأليب العامَّة على خلافة الإمام عليّ، اعتقادًا منه بأنَّ عليًّا لا يصلح لأمور السِّياسة والحُكم وغير ذلك من الأمور الدُّنيويَّة، بل لأمور الدِّين والآخرة. يتوجَّه ابن العاص إلى بيت الصَّحابي أبي موسى الأشعري في الشَّام، في محاولة لإقناعه بعدم صلاحيَّة عليّ للخلافة، متظاهرًا بأنَّه يفضّل أن يكون الخليفة الجديد من المهاجرين الأوَّلين، وإن كان معاوية هو وليّ دمّ عثمان والأولى بالخلافة. لا يعارض الأشعري الفكرة، دون الدِّفاع عن عليّ أو التَّفاوض من أجله، برغم أنَّه كان من المُحكّمين بين طرفي النّزاع في صفِّين، مرشّحًا عبد الله بن عمر بن الخطَّاب للخلافة. حينها، ينتفض ابن العاص، مرشّحًا ابنه، عبد الله بن عمرو، المشهود له بالصَّلاح، ليكون الخليفة الجديدة. ويُصدم الأشعري من موقف عمرو (صــ632):

ارتاع أبو موسى الأشعري تمامًا. نعم، لم يدَع عمرو بن العاص مكانًا في عقل أبي موسى إلَّا وطَعَنه فيه بمفاجأته، إنَّه يريد ابنه خليفة، نعم عبد الله ابنه رجل مؤمن ومؤتَمَن، ولكنَّ أيَّ مُحكِّم هذا الَّذي يطلب النَّاسُ حُكمَه فيمنحها لابنه؟! لكن ها هو عمرو يناقشه في الاسم؛ بما يعني أنَّه لا يمسك معاوية بقبضتَيه.

يستبعد الأشعري عبد الله بن عمرو، مذكّرًا ابن العاص بأنَّ غمس ابنه في الفتنة، وأجبره على القتال بجانبه لتنفيذ مخطَّطاته، وليس ابتغاء لمرضاة الله. يسكت عمرو عن الإساءة كي ينتزع من أبي موسى إقرارًا نهائيًّا بضرورة خلْع عليّ؛ ويرى أبو موسى أنَّ الأفضل هو خلْع عليّ ومعاوية، وترْك أمر تعيين الخليفة الجديد للمسلمين. يؤيّد عمرو ذلك الرَّأي، ويحتفي بالأشعري، ويُشهد العامَّة على أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) مات وهو راضٍ عنه، تمهيدًا منه لقبول العامَّة رأيه بشأن خلْع عليّ، إذا ما احتُكم إليه. يجتمع العامَّة في المسجد، ويستعدُّ أبو موسى الأشعري للإدلاء برأيه، موقنًا بثورة معاوية إذا ما سمع أنَّ من الأفضل استبعاده عن الخلافة، ومقتنعًا في الوقت نفسه بأنَّه كان سيرحّب بخلْع عليّ، وبأنَّه كان سيجد طريقته في إخضاع الخليفة الجديد. غير أنَّ ما كان يوغر صدر الأشعري هو أنَّه كان “يعلم حدَّ اليقين أنَّ ابن العاص يرسم خطَّة ويطبّق مخطَّطًا” (صــ637). أثار رأي الأشعري العامَّة في المسجد، ممَّن أعابوا عليه خيانته للإمام عليّ، بينما أصيب عبد الله بن عبَّاس بصدمة أسكتته. يؤيّد ابن العاص رأي الأشعري في خلْع عليّ، لكنَّه يتراجع عن وعده السَّابق للأشعري بخلْع معاوية معه، مرشّحًا الأخير ليكون الخليفة. يبرّر ابن العاص ذلك بأنَّ معاوية هو ولي دمّ عثمان والأولى بخلافته، لكنَّه يتفاجأ بالأشعري يجذبه من عباءته ويتَّهمه بالغدر (صــ644):

-ما لكَ لا وفَّقك الله، غدرتَ وفجرتَ!

ثمَّ دنا بوجهه من وجْه ابن العاص، وحملق في عينيه بنظرات تنفجر كراهيةً، ونفث فيه بصوت أودعه كلَّ ما يقدر عليه من احتقار:

-إنَّما مثلك كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

تصل أخبار خلْع عليّ بمؤامرة من عمرو بن العاص إلى مسامع عبد الرَّحمن بن ملجم، الَّذي فقد ثقته في الإمام منذ سكوته عن رفْع السُّيوف والرّماح في وجهه، وعجْزه عن فرْض رأيه وردْع المتمرّدين عليه. وكما أشار الكاتب من قبل، نجح الخوارج في استمالة ابن ملجم وإقناعه بكُفر عليّ الَّذي يستجب قتْله. ويقف ابن ملجم يراقب الإمام عليّ وهو يخطب في النَّاس، دون أن يجد سوى الشَّكوى للرَّد على تمرُّد معاوية وابن العاص والأشعري والخوارج (صــ650):

-إلى الله أشكو من معشر أناس يعيشون جهَّالًا ويموتون ضُلَّالًا، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعًا ولا أغلى ثمنًا من الكتاب إذا حُرِّف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر.

أمَّا معاوية، فقد احتفل في قصره بخلْع أبي موسى الأشعري لعليّ، وجمَع النَّاس حوله لمشاركته فرحته. ويحرص مروان بن الحكم، المتخاذل عن نُصرة عثمان وحمايته وقت قتْله، على تأييد بيعة معاوية (صــ653):

-لقد خلَع الأشعريُّ صاحبَه كما خلعناه، فلم يكن أميرًا علينا ولا نحن طوع له، ثمَّ ثبَّت عمرو أميرنا، الآن لا خليفة ولا أمير مؤمنين للمؤمنين، فقد خلَعه التَّحكيم بضلفتيه، ولأنَّ معاوية بن أبي سفيان وحده مَن ثبَّته فهو أمير المؤمنين كافَّةً، حيث لا أمَّة بغير أمير، فالأمير المثبوت خير من الأمير المخلوع.

يتحيَّن ابن العاص الفرصة لمطالبة معاوية بالوفاء بوعده وإعادته واليًا على مصر، وبالفعل يرحّب معاوية بالأمر، ويوافق على خروج ابن العاص إلى مصر لخلْع محمَّد بن أبي بكر، في جيش من 5 آلاف جندي. تصل الأنباء في تلك اللحظة عن تعيين عليّ لمالك الأشتر واليًا على مصر، وحينها يفكّر ابن العاص في مكيدة جديدة لتنفيذ باقي مخطَّطه. والمفارقة أنَّ معاوية، وبعد سفْك دماء الآلاف، يأمر بقتل عمرو بن الحمق، الَّذي يعترف بقتل عثمان بتسع طعنات، في تأكيد من الكاتب على أنَّ الزَّعم بالثَّأر من قتلة عثمان لم يكن إلَّا حيلة من معاوية للانقضاض على الخلافة وانتزاع الحُكم من الإمام عليّ (صــ669):

رماه أحدهم بالرُّمح فكانت تلك الطَّعنة الَّتي ترنَّح على إثرها، وسقط على ظهره، ينتفض جسده تقلُّصًا ووجعًا، فاقترب منه أحدهم، وصاح فيه وهو ينزع الرُّمح عن بطنه النَّزف دمًا كانفجار بئر:

-أمَرنا معاوية بتسع طعنات يا رجل!

يفطن مالك الأشتر إلى أنَّ سبب توليته على مصر هو محاولة الإمام عليّ إنقاذ حُكمه من مكائد معاوية وعمرو بن العاص، اللذين كانا سيبدآن بمصر في حملتهما لتمزيق دولة الخلافة لتسهيل الاستيلاء عليها. يعتقد الأشتر أنَّ الفرصة جاءته لإنقاذ دولة الإمام عليّ، وردّ كيد ابن العاص عليه، والانقضاض على دولة معاوية بجيشين، من مصر والعراق (صــ672):

هي فرصة إذًا أن يرد الأشتر إلى عمرو بن العاص. أوَيظنُّ ابن النَّابغة أنَّه سيشرب عسل مصر دون أن يقف الأشتر في حلْقه؟! هي مصر الَّتي يمكن أن تردَّ سهم معاوية إلى نحْره، أحكُمها، وأقوِّيها، وأُنهي تمرَّد رجاله فيها، وأقضي على ولاءات ابن العاص بها، وأُعمي عيون ابن النَّابغة وجواسيسه فيها، وأحلب ضرعها، وأركب نيلها، فتكونَ قوَّة ابن أبي طالب الضَّاربة، فيطبق على الشَّام بجيشين، من العراق يقوده قيس بن سعد، ومن مصر أقوده أنا، ونُعيد ابن العاص إلى بيت أمِّه في مكَّة، وليس إلى قصر الجنِّ في الفسطاط.

غير أنَّ الأشتر يعجز عن الوصول لمراده؛ فما أن يصل إلى مصر، يستضيفه مصريٌّ يصرُّ إلى إطعامه. وما أن يأكل مالك الطَّعام الَّذي أعدَّه المصريُّ حتَّى يشتر بتمزُّق في أحشائه، ليدرك حينها أنَّه تسمَّم بتدبير من أعوان ابن العاص (صــ680):

-فعلتَها يا ابن النَّابغة!

ثمَّ كأنَّه رأي عليَّ بن أبي طالب أمامه، فبكى وسال الدَّمع منهمرًا مع الدَّم، وهو يهمس بصوت يختنق من الألم الهادر:

-سمَّمني معاوية!

تنتهي أحداث الجزء الثَّاني في ثلاثيَّة “القتلة الأوائل” بموت أقوى رجال الإمام عليّ وأقدرهم على إنقاذ خلافته، وتهيئة المشهد لقتْل الإمام وإزاحته عن رأس السُّلطة لتولية معاوية. وكالعادة، ينال الصَّحابي عمرو بن العاص القسط الأكبر من الإدانة والرَّمي بالغدر والمكر والخداع، وكأنَّما كان حُلم استيلائه على ولاية مصر ونهْب خراجها هو المحرّك الأساسي للفتنة الكبرى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً

ملابسات موقعتي الجمل وصفّين من منظور رافضي (6)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن أكاديمي مصري. أصيب ابن ملجم بصدمة …