أخبار عاجلة

ملابسات موقعتي الجمل وصفّين من منظور رافضي (6)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

أصيب ابن ملجم بصدمة دفعته إلى إعادة التَّفكير فيما مضى؛ لدرجة أنَّه تساءل إن كان عمَّار بن ياسر قد مات شهيدًا أم قتيلًا، إن لم تكن الفئة الباغية الَّتي قتلته منحرفة عن صحيح الشَّرع. تبدأ القوَّات المؤيّدة لعليّ في الرَّحيل عن معسكره، بعد أن نجحت حيلة رفْع المصاحف، وعجَز الإمام عن فرْض رأيه وإجبار المحيطين به على الامتثال لأمره؛ ممَّا فاقم من صدمة ابن ملجم، الَّذي أيقين بزوال سطوة عليّ وهيبته، بعد تخاذُل أنصاره وميلهم إلى رأي معاوية (صــ558):

انخلع قلب ابن مُلجم، وأوشك أن ينفطر، فهذا الَّذي يراه يوخزه بشوك في جلْده ويدمي روحه، فالإمام ليس إمامًا، والأمير ليس أميرًا، فهل لنا إلَّا أن نتَّبع إمامنا ركوعًا وسجودًا؟ فماذا لو أقام صلاة فانصرفنا عنه فلا نحن مأمومون ولا هو إمام؟ والأمير يأمر فنطيع، فإن لم يقدِر على الأمْر، ولم يطعه طائعٌ، فليس أميرًا، فالأمير بما يُطاع لا بما يأمر.

في تلك الأثناء، يدور نقاش بين عليّ ورجاله حول الأجدر بالتَّحكيم، يصرُّ فيه أعوان الإمام على اختيار أبي موسى الأشعري، على غير رغبة الإمام؛ كون الأشعري قد هرب وتخاذل عن نُصرته. يخضع الإمام عليّ لضغوط المحيطين به، وينزل على رغبتهم باختيار الأشعري حَكَمًا، وهو “المتخلّي عنه والخاذل له والعاصي الهارب”، على حدّ وصْف عيسى (صــ560). حينها، يشعر مالك الأشتر بأنَّ عليًّا قد فقد شرعيَّته، وأصبح دمية في أيدي أنصار معاوية في معسكره (صــ562):

سمعوا تهليلات وتكبيرات ترتفع وتعلو وتتعالى، حين قال عليٌّ بصوت انسحب عنه أمله، وركب عليه حزنه:

-اصنعوا ما أردتُّم.

كأنَّ طعنة رُمح بقرت كبد الأشتر، فشعر بنفسِه هاويًا في حمى تقتلعه، فأمسك بكتف قيس وهو يقول:

-لقد قتَلَ عليٌّ بن أبي طالب نفسَه الآن يا قيس!

عودة إلى المدينة وموقف أهلها من الفتنة

يتطرَّق الكاتب في تلك المرحلة من تصاعُد الأحداث إلى ردّ فعْل أهل المدينة تجاه ما كان يحدث، مشيرًا إلى وصول أنباء التَّحكيم إلى مسامع عُبيد الليثي، قريب أمّ المؤمنين عائشة، الَّذي ينقل إليها الأنباء. يجدّد الكاتب توظيف مشاهد العلاقات الحميميَّة والتَّلهُّف على النّساء في أحداث روايته، بما لا يتناسب مع سياق الحديث عن واقعة الاحتكام إلى كتاب الله لفضّ نزاع صحابة النَّبيّ (ﷺ). على كلّ حال، ينتقل المشهد إلى بيت عائشة، الَّتي ظنَّت أنَّ موقعة الجمل حسمت الصّراع لصالح عليّ، وأوقفت مساعيها لإسقاط شرعيَّة الإمام بعد موت طلحة والزُّبير. يذكّر الكاتب بأنَّ هدف عائشة كان تولية ابن أختها، عبد الله بن الزُّبير، الخلافة، لتستعيد قدرتها على التَّسلُّط، حتَّى وأن كلَّفها ذلك معصية أمْر النَّبيّ (ﷺ) بالتزام بيتها وعدم هتْك سترها. إمعانًا في تشويه صورة عائشة، يشير الكاتب إلى تناقُض موقفها من عليّ مع موقف أمّ المؤمنين، أمّ سلمة، الَّتي ترسل لعليّ ابنها ليؤازره ضدَّ جيش معاوية. وترسل أمُّ سلمة إلى عائشة رسالة لتأنيبها على عدم إطاعة النَّبيّ (ﷺ) عند خروجها إلى العراق للوقوف في وجه عليّ، وكان مضمون رسالتها (صــ543):

إنَّ القرآن الَّذي ألزم ذيول ثوبكِ البقاء في منزلكِ لا يصحُّ معه أن تفكِّي عقدتها وتسترخصيها خارجة من منزلكِ حيث حجابكِ عن النَّاس، وإنَّ الله قد نهاكِ كما أمَّهات المؤمنين عن الإفراط في الدِّين.

تردُّ عائشة على أمّ سلمة بأنَّها لم تخرج من بيتها إلَّا للصُّلح بين فئتين متخاصمتين من المسلمين؛ فيعلّق عبد الرَّحمن بن أبي بكر بقوله إنَّ ذلك الرَّد كان قيمته ستتضاعف، لو أنَّ عائشة نجحت في مهمَّتها. في خضمّ نقاش عائشة مع أخيها، يصل قريبهما عُبيد الليثي بأنباء عن معركة صفِّين.

عقْد اتِّفاق الصُّلح بعد تخاذُل رجال عليٍّ عن نُصرته

يُجبر الإمام عليٌّ على مجالسة معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، بعد أن كاد يمرّغ أنفيهما في التُّراب؛ ويراقب ابن ملجم المشهد في حيرة ودهشة، فاقدًا المزيد من ثقته في الإمام، الَّذي زالت هيبته، ويتساءل (صــ565):

أليس هم البُغاة العصاة؟ فكيف بعليٍّ يجالسهم الآن ويفاوضهم ويختم معهم على أن يَحكُم رجلان فيما بينهما، بينما أحدهما محارب منازل هو عمرو بن العاص؟ أوغلت الحيرة في قلب عبد الرَّحمن بن مُلجم حتَّى سدَّت أوردته حين علِم أنَّ عمرو بن العاص سيكون أحد الحكمين، ليس بسبب السُّؤال البديهي وهو: كيف يكون الخصم هو الحَكَم، بل للسُّؤال الأكثر بداهةً: كيف يقبل عليٌّ ويرى بأن يكون اليد السُّفلى هكذا؟

يرفض مالك الأشتر المشاركة في جلسة تفاوُض عليّ مع خصومه، بينما يحضر عبد الله بن عبَّاس في استسلام للأمر الواقع. أمَّا أنصار عليّ من العراقيين واليمنيين، فقد جلسوا في نشوة، وكأنَّما “في حفل نصْر” (صــ565). في حين حضر عمرو بن العاص، مصطحبًا أبا الأعور السَّلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد، وعُتبة بن أبي سفيان. يرفض ابن العاص تسمية عليّ بأمير المؤمنين في اتِّفاق الصُّلح، وحينها يعلّق عليٌّ مشبّهًا ما يحدث بما فعله كفَّار قريش عند كتابة اتِّفاق صُلح الحديبية، حينما رفضوا الاعتراف بنبوَّة مُحمَّد (ﷺ)، وأرادوا الاكتفاء باسمه واسم أبيه. ينتفض ابن العاص، معترضًا على تشبيه فرقة معاوية بقريش زمن الجاهليَّة، فيسبُّه عليٌّ بمعايرته بماضي شرف أمَّه (صــ569):

-سبحان الله! تُشبِّهنا بالكفَّار ونحن مؤمنون!

انتفض عليٌّ وهو يجلجل بكلماته:

-يا ابن النَّابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليًّا، وللمسلمين عدوًّا؟! وهل تشبه إلَّا أمُّك الَّتي وضعَت بك؟!

يُكتب اتِّفاق الصُّلح بعد مغادرة عمرو بن العاص المجلس، دون الإشارة إلى عليّ باعتباره أميرًا للمؤمنين؛ ويتَّفق الطَّرفان على إنهاء المعركة، ووضْع السِّلاح، ومنْح العامَّة الأمان في أنفسهم وأموالهم وأهليهم أينما ذهبوا. يشير الكاتب في تلك المرحلة إلى حالة الحزن والكدر الَّتي أصابت الثَّكالى من أهل الكوفة، ممَّن لم يُثأر لهنَّ من قتلة ذويهنَّ، في الوقت الَّذي كان يعاني فيه عليٌّ من الغمّ بعد أن خذله أنصاره؛ وكأنَّما أراد الكاتب التَّمهيد لانقلاب أهل الكوفة عليه متَّهمين إيَّاه بالتَّهاون في حقّ قتلاهم. لم يكن بوسعي عليّ إلَّا التَّرحُّم على القتلى، ماضيًا إلى قبر الصَّحابي خبَّاب بن الأرَتّ، متحدّثًا إليه، بينما هو يحدّث نفسه (صــ574):

-أبلِّغك ما جرى يا خَبَّاب، ها أنا ذا كنتُ أميرًا، فأصبحتُ اليومَ مأمورًا، وكنتُ أمس ناهيًا، فأصبحتُ اليوم منهيِّنًا، يقولون إنَّ عليًّا كان له جمْع عظيم ففرَّقه، وكان له حصن حصين فهدَمه، فحتَّى متى يبني ما هدَم، وحتَّى متى يجمع ما فرَّق.

مال على قبر خَبَّاب وهمَس متسائلًا:

-أأنا هدمتُ أم هم هدموا؟! أأنا فرَّقتُ أم هم فرَّقوا؟!

نشأة الخوارج وبداية تمرُّد أهل العراق على الإمام عليٍّ

يقف الإمام عليٌّ على منبر جامع الكوفة يخطب في النَّاس، الَّذين كانوا لايزالون متحمّسين للانقضاض على خصومهم، بينما أراد الإمام حقْن الدّماء وإنهاء الفُرقة، طالبًا من الحاضرين أن يعينوه على أنفسهم؛ ليتفاجأ بصوتٍ يردّد “إن الحُكم إلَّا لله” (صــ590). تتعالى الأصوات مكرّرة الشّعار ذاته، ليشارك عليٌّ من فوق منبره في ترديده، ويُصاب ابن ملجم حينها بدهشة كبيرة. يؤنّب الإمام عامَّة العراق بعد اختيارهم تحكيم كتاب الله بينه وبين خصومه، الَّذي كان أدرى النَّاس ببغيهم ومكرهم (صــ592):

قلتُ لكم إنِّي أعلم بالقوم منكم، إنَّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنِّي صحِبتُهم أطفالًا ورجالًا، فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال امضوا على حقِّكم وصِدقكم، فإنَّما رفَع القوم هذه المصاحف خديعةً ودَهنًا ومكيدة. فرددتم عليَّ رأيي وقلتم لا، بل نقبل منهم. فقلتُ لكم اذكروا قولي لكم، ومعصيتكم إيَّاي.

ويلقي عليٌّ باللوم على العامَّة، متّهمًا إيَّاهم بإجباره على قبول التَّصالح مع فرقة معاوية، بعد أن صدَّق العامَّة خديعة رفْع المصاحف، وموضحًا إنَّ قبولهم للتَّحكيم كبَّله بالالتزام باتِّفاق الصُّلح، تنفيذًا لأمر الله تعالى في قرآنه الكريم ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة النَّحل: 91]. يطلق حرقوص بن زهير السَّعدي شرارة انطلاق تمرُّد الخوارج على الإمام عليّ، بأن قاطَع خطبته، مطالبًا إيَّاه بالتَّوبة عن عدم استكمال موقعة صفِّين، ليؤيّد زُرعة بن البُرج ذلك، متوعّدًا عليًّا بالقتل، إن لم يعد عن التَّحكيم. يدرك ابن ملجم حينها إنَّ الإمام فقد هيبته لمَّا تخاذل أصحابه عن نُصرته، لكنَّ عليًّا يتظاهر بالتَّماسك، مهدّدًا الخوارج بالقتل، إن لم يعودا إلى طاعته. غير أنَّ احتدام غضب العامَّة يسود الموقف، ليجد الإمام تهديدًا مماثلًا من الخوارج (صــ594):

-إن سكتوا غممناهم، وإن تكلَّموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم.

حين سمعوا كلمة قاتلناهم كمَن ضربهم برقٌ، وثب يزيد بن عاصم على أكتاف البعض وهو يصرخ:

-يا عليّ، أبالقتل تخوِّفنا؟! أما والله إنِّي لأرجو أن نضربكم بها عمَّا قليل غير مصفَّحات، ثمَّ لتعلمنَّ أيَّنا أولى بها صِلِيًّا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً

ملابسات موقعتي الجمل وصفِّين من منظور رافضي (ج7)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن أكاديمي مصري. يزداد شعور عبد الرَّحمن …