مقالات

مُدرِّس السجن الكبير

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب


هذه قصة حقيقية تحكي واقع التعليم والوظائف والفساد الأكاديمي من أدنى لأعلى الهرم في الشام. وتوثق حقبة هي الأقذر في تاريخ العائلة العلوية.

نشأتُ في بيئة شامية، من عائلة متوسطة الحال ومتدينة، وبعد حصولي على الثانوية العامة، وكنت من الأوائل، وهذا المؤهل يمكنني من الدخول إلى كل الكليات العلمية والأدبية، واخترت بعد استخارة ومعارك مع الأقرباء دخول كلية اللغة العربية، لحبي القديم بالأدب واللغة.
ولم تمض أشهر عليّ في الكلية إلا وكنت محط نظر المدرسين والطلاب، وصارت لي صحبة بينهم، وكثر من حولي الأصحاب، وكالعادة في قصص الحب التقليدية تعرفت على فتاة لطيفة كنت أساعدها ببعض الملخصات، وتعمقت الصلة بيننا ثم تحولت من إعجاب إلى صداقة إلى حب، وكانت من عائلة متوسطة الحال ومتدينة، تجمع بيننا قواسم كثيرة، مرت أجمل أيامنا ونحن نخطط ونعد كيف سيكون بيتنا المستقبلي، وتكلمنا في كل شيء، حتى في تسمية الأولاد واختيار ألوان غرف المنزل.
واتفقنا أن نشق طريق العيش معا، وأن لا يُفرقنا شيء، وأن نهتم ونتفوق في دراستنا، وأن نصل إلى أعلى المراكز، وكنت أحلم أن أكون معيدا في الكلية لكوني الأول على الدفعة، وهو مركز مرموق اجتماعياً، ويؤهلني لأكثر من أن أكون أستاذا في مدرسة، ككاتب أو محرر، أو حتى مدير تحرير، وحضرت جيدا للامتحان وحفظت الكتب بصورة عالية ، وجاءت السنة الثالثة بامتحانها وكانت الأسئلة بسيطة، وضمنت الأولية في نفسي ، ولم أعتقد إلا أنها كذلك، وكنت اعرف من خلال إجاباتي وأُقدر العلامة فتكون كما قدرتها تمام تزيد أو تنقص قليلا، وعند ظهور النتائج كانت الصدمة التي لم تكن في الحسبان، ليتبين أن ترتيبي الثالث وتقدم عليي اثنان طالب وطالبة، الأول من جبلة، والثانية من حلب، كانت الفتاة تستحق الدرجة وفعلا كانت مميزة، ولكن كل طلاب الجامعة يعلمون أن الطلاب العلوية من كان من الدائرة المتنفذة ينجحون تنفيعة ( أي بالواسطة )، لكن لم يكن معتاداً أن يحوزوا المرتبة الأولى، إلا ليحصلوا على البعثات الخارجية، ولكن مع تواتر الأيام لم يعد أحد يبالي وزادت الأمور جلاء وزاد البغاة صلفا وخسة، وصار معروفاً في الجامعة أن من الفتيات من يقمن بتقديم تنازلات لبعض المدرسيين للحصول على امتيازات ودرجات عالية، وبعض الأغنياء يشتري الدكاترة.

اقرأ: باﻷرقام الرسمية: الواقع التعليمي في سوريا تتراجع 20% ما بين عامي 2001 و2020


بل حتى أن بعض مدرسينا كان لا يبالي بهم ويرسبهم، ولكنه ما يلبث أن يتلقى تلفونا من أحد فروع الأمن يلزمه أن يضع لهم العلامة العليا ولا يكون منهم من يعترض.
قدمت اعتراضا لإدارة الجامعة وطلبا لتصحيح ثان للأوراق، ثم قدمت بعدها اعتراضا آخر، وكانت النتيجة في المرتين أنك تستحق العلامة التي حصلت عليها، وأحسست بتحامل المدرس الغير مبرر، وعندما قابلته ظهرت منه مخايل الخجل واطرق رأسه قائلاً: “بدنا نعيش”.
لم أفهم ما الذي مر به وما الضغوط التي مورست عليه، ولا مما يخشى ويحاذر؛ لأنني قليل التجربة صغير السن.
ولهذا غضبت وواجهت إدارة الكلية وارتفعت الأصوات، وقلت لهم لمَ ندرس إذا كانت الأمور شوربا؟ (وهي كلمة تستخدم عندنا وفي بعض البلاد الأخرى يقولون كوسا) ، مما أدى إلى طردي من الكلية سبعة أيام عقابا تأديبياً.
أحسست بظلم عظيم، وقهر بالغ، وضاقت الدنيا في عيني ودخلت في دوامة الحزن، حاولت العائلة أن تخفف عني ولكن دون جدوى، وبلغت حبيبتي في أن تخرجني من هذه الحالة التي طالت عدة أشهر، ولكوني لا اعرف كيف تسير البلد، ولم أخدم العسكرية، نعم كانت صدمة عارمة بالنسبة لي.
ولأن الإنسان ينسى ويتعود تأقلمت مع الأمر وحاولت أن أتغلب على مشاعر القهر، وتجرعت الألم، وعدت إلى نشاطي السابق ورجعت إلى الكلية، ومرت السنة على خير، وكانت السنة الرابعة، وكنت قد فقدت الشغف وجاء ترتيبي من العشرة الأوائل..
تخرجت حبيبتي أيضاً، وتقدمنا لمسابقة التعيين، وتم تعييننا في محافظة ريف دمشق، ولكن كل في بلدة، ثم قدمت طلب انتقال إلى بلدة زوجتي المستقبلية، وتم ذلك، وبدأنا مشوار العمل وتحصيل الرزق، وجمع المال اللازم، للزواج، وبمساعدة الأهل والزملاء تمت الخطبة، واستأجرنا شقة صغيرة وأثثناها كما نحب، وكانت حفلة العرس على الضيق لنوفر الفلوس وندخر لعلنا نشتري سيارة صغيرة أو بيتا، وأن الحفلة الصغيرة كانت أولى من النفقات الباهظة، لأننا في مقتبل الحياة، ورضيت العائلتان عن قرارنا وباركاه، ومرت أجمل أيام العمر وقد نعمنا بحياة لطيفة هادئة، مستقرة، منتظمة، وجمعنا بعض المال، وادَّخرنا ما يمكننا من تقسيط سيارة، وكان ذلك، فصرنا نذهب إلى المدرسة معا ونعود، ثم تشاورنا في إنجاب طفلنا الأول، وكنت أرى تأجيل الأمر لكن ضغط الأقارب والأهل دفعانا إلى إنجاب مولودتنا الأولى وجاءت سارة لتحول حياتنا إلى ربيع، وكانت فرحة عارمة، ثم لم يمض عام حتى جاء مولودنا الثاني زيد.
ومرت الأيام هانئة، ها نحن السنة الخامسة زواج وقد عشنا أياما مستقرة رائقة، لا شيء يعكر صفوها، حتى كان يوم الخميس الأسود.
ذهبت إلى المدرسة كما العادة، فأرسل المدير في طلبي، ففوجئت بوجهه محنقاً، وهو صامت لايدري ما يقول، ثم سلمني كتابا من التربية، يفيد بنقلي إلى مدرسة بعيدة عن المدينة التي اقطن فيها أكثر من ثلاثين كيلوا مترا دون أي مبرر يذكر ؟ ثم فهمت أنه تم تعيين آنسة من الساحل السوري، إذ أنها توصلت إلى أحد ضباط الأمن الذي أمر وزارة التربية التي لا تملك إلا الانصياع له.

تابعنا في فيسبوك


نزل الخبر عليي كالصاعقة، وجف الدم في عروقي وتلعثمت، ثم انفجرت غاضباً، ولعنت التربية، ومدير التربية، والدولة، ولكن لحسن الحظ أنني والمدير فقط في الغرفة. وقال لي هدِّئ من روعك فقد قضي الأمر، ولا تهلك نفسك، قلت : لا لن أسكت وسأعترض على التربية، وسأرفع عليهم دعوى بالرشوة والفساد الإداري، وسأفعل وأفعل.
ثم عدت إلى المنزل ونزل الخبر كالصاعقة على زوجتي، وقضينا ليلة من الألم والقهر لايعلم بها إلا الله، وقالت ماذا ستفعل؟
قلت لن أسكت، قالت: وما بيدك من حيلة ؟ أرى أن تتحمل الأمر ويغينك الله على الطريق والمواصلات والأمر ليس بعيدا، والحمد لله ليس النقل لمحافظة أخرى.
قلت بلهجة متحدية متبرمة: لا لن أنتقل ولن أسكت.
وكان أن ذهبت باليوم التالي إلى مديرية التربية وقابلت الموجه التربوي وغاضبته، وقال قدم اعتراض، ثم قدمت إلى مكتب مدير التربية فلم يستقبلني، فحاولت ثلاث مرات حتى تمكنت من الدخول إليه وأخبرته بما حدث فاعتذر بلطف، وقال أنت تعلم أنني جديد بالدائرة وأنا عبد مأمور ولو كنت مكاني ستفعل ما فعلت. هنا انفجرت لدي القصة القديمة أيام الجامعة، وانفجر الصبر فقلت له كلاما بلهجة متبرمة، فقال انتهت المقابلة أخرج، وفي اليوم الثاني ذهبت إلى المدرسة وقابلت المُدرّسة الجديدة البديلة، وقلت لها كيف تقبلين أن يبتعد أب عن عائلته وأطفاله ومنزله لتحصلي على مكانه؟
فكان ردها من أنت حتى تجرؤ أن تكلمني؟ احمد ربك أنك انتقلت إلى غير قرية، ولو لم تلزم حدودك ستنقل إلى جهنم.
وعلا صوتي واجتمعت المدرسات، ثم هدأت العاصفة.
مرت أيام هي الأصعب، وكالعادة في كل البلاءات السابقة تجرعت السم، وقررت أن استسلم للأمر الواقع، وخاصة أن ما باليد حيلة وتكاليف الحياة باهظة.
وكنت متوجسا من الإدارة التربوية بعد أن علا صوتي هناك وتوقعت فصلي، وبعد أيام اتصل بي الموجه التربوي ليخبرني أنه جاء قرار بنقلي إلى محافظة الحسكة في أقصى البادية، فقلت له: تباً لك ولمديرك ووزيرك ولبلد انتم فيها أصحاب الأمر.
وشتمت الساعة التي درست فيها، وقررا أن أشق لنفسي طريقا آخر في مجال العلم، وبحثت في البدائل المتاحة ثم لشهور تلت حاولت أن أعمل عملاً حراً، كالتدقيق اللغوي أو التنضيد أو الكتابة والنسخ والتحقيق، ولكن دون جدوى فالرواتب قليلة والعمل كثير والكل يعتذر.
بدأت أحوالي النفسية والجسدية تسوء ثم بدأت مدخراتنا تقل، وبدأت الأمور تتحول إلى كارثة.
أنا الآن لا أجد رزقاً مما أحرزنه من شهادة علمية، فقررت العمل بالدنيا، ولشهور عديدة تنقلت بين عدة أعمال ولم اصبر على شيء منها.
ثم مضت ثلاث سنوات وانا حارس مزرعة لأبقى بجوار أبنائي وزوجتي، ألعن كل صباح ومساء سوء المنقلب، وكآبة الحال، والظلم والظالمين.
حارس مزرعة وأنا أحد العشرة الأوائل على الكلية، لايقتل الأسى في نفسي غير الوقت الكبير الذي أقضيه في المطالعة وقراءة الكتب فقد عزفت نفسي عن الناس. ومعروف نفسيا “أنك إذا لدغتك أفعى تصبح تخاف من الخرطوم”.
حتى كانت السنة العاشرة بعد الألفية الثانية، وحملت الدولة شعار علمنة التعليم، وصدر مرسوم رئاسي يقضي بطرد 1200 معلمة منقبة من سلك التعليم، وتم نقل بعضهم لوظائف إدارية في الدولة، كما وتم فصل عدد من المدرسيين الذين ينتسبون للمدارس الدينية، حتى أنه تم طرد سبعة دكاترة من جامعة دمشق لذات الغرض.
وكانت أزمة في الشام، وأزمة في بيتنا لأن زوجتي احدى المنقبات المطرودات.
عندها علمنا أننا في أحد أقسى السجون على وجه الأرض شراسة، تديرنا أقذر حثالة عرفتها البشرية، إلى أن جاءت شرارة الثورة، فهل من المعقول بعد كل هذا أن لا نثور؟
ثم ما ضير الإنسان أن ينتصف لنفسه وينتقم من ظالميه، أليس شفاء الصدر مطلب وغاية، ثم أنا لمَ لا اثأر لنفسي وهو حق لي، بل لزوجتي ولكل مظلوم، وما أكثرهم في هذه الغابة؟
نعم ثُرت ولو عاد التاريخ لأثورنَّ ألف مرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى