مختارات

“معاوية” وتثبيت الشحن الطائفي

ليس موضوع الحديث هنا العمل الدرامي الذي قررت إحدى القنوات العربية المحسوبة على دول الخليج بثه خلال شهر رمضان وقد قدرت تكاليف إنتاجه بمئات ملايين الدولارات بحسب مصادر مختلفة. وليس مدار الكلام هنا عن تفاصيل الصراع التاريخي بين أعداء معاوية من جهة وأنصاره من جهة ثانية لكن مدار القراءة إنما ينحصر في الأسباب التي تجعل النظام الرسمي العربي لا يبرح دائرة الشحن الطائفي وإذكاء النعرات المذهبية.

السنة والشيعة

لا يختلف اثنان حول حجم الخسائر البشرية والمادية والحضارية التي تسبب فيها هذا الصراع المذهبي وقد راح ضحيته ملايين الأبرياء من المسلمين. ولا يتجادل عاقلان في أن التمزق الحاصل في بلاد المسلمين من اليمن إلى سوريا إلى العراق إلى لبنان وصولا إلى حواضر أخرى إنما سببه الأساسي اللعب على الوتر الطائفي وتذكية الصراع المذهبي بين السنة والشيعة.

اقرأ: معالجة الصراعات الطائفية في الدولة الحديثة المسلمة

كان يمكن للخلاف أن يقتصر على الجانب الفكري وعلى اجتهادات العلماء والمختصين لكن أن يتحول هذا النزاع إلى قلب المجتمعات وإلى داخل الفعل السياسي والعسكري الأمني فتلك واحدة من أخطر المنزلقات الحضارية. خذْ بلدا مثل العراق الذي صار بعد الاحتلال الأمريكي وبفعل الشحن الطائفي بلدا تمزقه المليشيات المسلحة المتأسسة على التطرف المذهبي مما تسبب في موت مئات الآلاف من الأبرياء كلهم مسلمون.
كان للفاعل الإيراني دور مركزي في تذكية هذا الصراع لأهداف توسعية وسياسية أساسا لا لأسباب عقائدية إذ نشطت إيران منذ ثورة الخميني في زرع خلاياها الطائفية داخل الجسد العرابي عامة والعراقي خاصة من أجل تفتيت اللحمة الداخلية للبيت العربي. سقط العرب وخاصة الشيعة العرب في المصيدة الفارسية التي كانت تتغطى بغطاء التشيع وهو القناع الذي سهّل لها التوغل داخل النسيج الاجتماعي وسط انشغال الأنظمة بالصراعات البينيّة.

إلى اليوم لا يزال الخلاف العقائدي الذي حدث منذ أكثر من أربعة عشر قرنا يؤجج النزاع الطائفي وسط دعوات التكفير والاتهام بالضلال والشرك من الطرفين. لقد عرفت أمم وحضارات كثيرة هذا النوع من الصراعات لكنها تجاوزتها منذ قرون وتحولت التحديات فيها إلى تحديات إقتصادية وعلمية وتكنولوجية وكاد العامل المذهبي يختفي منها إلى الأبد بعد أن كلّفها عقودا من التناحر والتقاتل خاصة في أوروبا.
الدراما وتنشيط الطائفية

تعودت الجماهير العربية على دراما شهر رمضان التي صارت سوقا نشطا للأعمال الفنية وقد خرجت منذ عقود عن طور الفن الهادف إلى مجال الابتذال والتخدير لكنها عرفت في السنوات الأخيرة ومنذ عشر سنوات تقريبا توجها طائفيا سياسيا يعمل عن قصد على تأجيج النعرات الطائفية. توجهت الدراما العربية في طورها الأخير من التوظيف السياسي إلى شيطنة الخصوم السياسيين للنظام الرسمي العربي فحاربت الإسلاميين وعملت على الاستثمار في تهمة الإرهاب التي صاغتها دوائر الاستخبارات الأمريكية منذ اعتداءات الحادي عشر سبتمبر.

لكن مع انحسار الموجة الأولى للربيع العربي تحولت بوصلة الدراما العربية الممولة خليجيا نحو إذكاء السعار الطائفي من أجل إبقاء المنطقة تحت الضغط الداخلي وصناعة عدوّ جديد تستطيع توجيه كل الانتقادات نحوه. فما الفائدة اليوم من نبش جراح الماضي؟ وماذا ستجني الشعوب من البقاء حبيسة معركة بين طرفين من الماضي السحيق؟ ما الجدوى من تنصيب محاكم التفتيش الجديدة؟

لا شيء سوى إحياء جراح لا يراد لها أن تندمل فتتحرر الأمة من أغلال صراعات الماضي وآلامه. لا تخدم هذه المشاريع سوى أعداء الأمة وهم أولا النظام الاستبدادي العربي من جهة والنظام الفاشي الايراني من جهة ثانية لأنهما في النهاية وجهان لعملة واحدة تقمع الحريات وتحارب الإصلاح وتضيّق على النقد وتهدر ثروات الشعوب في صراعات عبثية تسمح لها بالبقاء طويلا في السلطة.

تابعنا في فيسبوك

قد لا نتخلف مع أحد في الإقرار بأن الفضاءات الرمزية العربية بما فيها الفن والسينما والمسرح كانت منذ نشأتها تدار وتوجه من قبل السلطة السياسية. وقد ظهر بالدليل القاطع كيف انبرت هذه المنصات خلال ثورات الربيع إلى الدفاع عن النظام الاستبدادي وكيف أعلنت عداءها الصريح للثورات ورموزها وساهمت في شيطنتها وإفشالها. وهو ما يسمح بالقول إنّ الدراما العربية جزء أساسي من جهاز التضليل السياسي مثلها مثل المنصات الإعلامية التي تؤثث المشهد وتوجهه.

من جهة أخرى لا تزال المجتمعات الشرقية مجتمعات محافظة يلعب فيها الدين بفهمه الوراثي وتصوراته النقليّة دورا مركزيا وهو ما يجعلها شديدة القابلية لكل ما يتعلق بالدين من تصورات ومقولات ومشاريع. لكن خطورة هذه الخاصية هو أنها تجعل من العنصر الديني عنصرا شديد الحساسية شديد القابلية للتأثر بتحولات السياسة على غرار ما يجري من تحولات عميقة في دول الخليج. هو سلاح ذو حدين لأنه في أصل وظيفته عنصر جمع وتأليف وصهر للمجتمع في نطاق واحد متجانس متناغم في خصائصه ووظيفته لكنه حُوّل في الحالة العربية إلى عنصر تقسيم وهدم وتضليل.

لقد تحول العنصر الديني بموروثه التاريخي ورمزيته الحضارية وفعله الاجتماعي إلى أداة من أدوات الفعل السياسي في الأنظمة الاستبدادية، وهو ما ينقله إلى مجال الصراع الذي قد ينتهي به إلى عامل من عوامل الفوضى العارمة بدل أن يكون سببا من أسباب تحصين الدولة والفرد والمجتمع.

المصدر: عربي 21

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى