مقالات

السكوت علامة الرضا؟

محمود الجاف

كاتب وصحفي عراقي
عرض مقالات الكاتب

قبل أن تطلق النار على رأس الضحية هل تتكلم أم تصمت؟ وهل السكوت هنا علامة على الرضا؟. وإن خيرتها بين قبرين في أحدهما بعض الحب أو التعبير عنه جسديا، ثم يعقبهُ مقبورون صغار وهم على قيد الموت. أيهما ستختار؟.. الليل المظلم المُخيف أم النهار.. البطولة أم العار.. لنور أم النار؟
من الذي علا صوته ولم يصمت عندما أهينت كرامته.. وكم صرخة صداها مزق أوراق اللعب حين انتُهكت الأعراض وقُتل البرىء وصودرت القيم؟
كم كبير وطأت رأسه أقدام الصغار؟ .. وكم عفيفة فارقتها الفضيلة بعد ان اعتلاها الذين ولدوا في الزواية المُظلمة من شوارع الخطيئة.. وكم، وكم أيها الشعب الذي كان يلبسُ تاج الوقار؟

الى أين المسير ومتى يطلع النهار ؟
هل تعلمون أن العقل الباطن يثرثر أيضا أيها الكبار؟ .. فإذا سكت اللسان تكلمت العيون، وإذا تحركت الأيدي التي تبطش أحيانا كتبت ألف حكاية ورواية في عالم السكون، ثم تتبعها القدمان اللتان تنقلان الجسد معبرة عن دلالات عديدة في خفايا النفس. كنا كثيرًا ما نقول للطفل الصغير الذي يُحاول أن يكشف خربشات صوته قبل غفوة الصباح أو يبحث عن ساحة اللعب التي لن يدله عليها أحد.

اخرس أيها الولد.. وصمته هنا دلالة على الإذعان الى الأبد، كذلك دمى السلطة في الدول التي أنجبت شعبا ليس له لساناً بين فكيه، لهذا لا يعرفون سوى التلفظ بعبارات خادشة للحياء ضد حكامهم، ولا يتحملون المسؤولية، لأنهم ببساطة ضيعوا الأحلام وفقدوا الهوية، وبالتالي ألزموهم بالإنصياع والرضا عن الحال أو بعضه بعد ان تركوا البندقية، فسكوت الذين يمتلكون أدوات الكلام يدل أما على القهر أو عدم القدرة على تغيير الوضع الراهن..

تابعنا في فيسبوك

إن البلد يغيب وهو ليس مجرد غياب، بل لقد نسيه البشر، وفي الجانب الآخر من الظلام أصبح الرعب أكثر حضوراً في أجواء السكوت، الصمت الذي يعيدنا الى الأعماق حيث الهوة السوداء السحيقة. حيث تختبىء الحقيقة، المكان الذي يتفجّر منه الكلام، لكن أي كلام؟.. كلمات الهمس ونوح الحمام الذي كان يشعر بالسلام.. أيُّ كلام؟..

فاليوم لم يعد هناك سوى هواة التأمّل الغارقون في عالم الهيام ، هم الذين ينصتون للصمت، القابعون في الخيام،
ألم يأن الأوان لنحلم بالحرية ونبصق الدماء من أفواهنا ونطلق صيحات الغضب؟.. متى نعود الى سير الأجداد ونغوص في أعماق التاريخ الذي كتبناه بحروف من نور؟.. يا للعجب.. ألا نستحق أن نحيا ونبتسم ونحلم ونشعر بالفخر والسرور أيها المُسلمون.. أيها العرب؟

أيتها الزلازل والبراكين التي روعت الدنيا الصامتة في ساعات الفجر.. ضاعت شعوبا تحت ركام الغزاة الجدد.. غزاة يحملون جواز مرور أصفر موسوما بالحقد الأبدي.. يتحملون كامل المسؤولية عن كل ماجرى من زلازل دمرت وادي الرافدين وجعلت زوارقه وأقدام الصيادين تغوص في قاع الصمت مثل لوحة إدوارد هوبر التي تروي لنا قصة عامل في محطة وقود يؤدي واجبه في الغسق صامتًا صمت المضخات.

من الذي يستطيع أن يبني جدارا كبيرا من الماء ؟.. لبناته مجرد حروف ضعيفة تواجه محيطا كبيرا من السكون، صمتٌ بلا أنين.. وشوقٌ بلا حنين.. أو كما يقول الكاتب كاغي: “إن المعرفة بنظر أفلاطون وأرسطو تكمن حيث تتوفى الكلمات”.

ألم تسمعوا عن شعب أصمٌ أبكم مسلوب الإرادة زار طبيبا نفسيا يروم العلاج، فطلب منه الدكتور ألا يأتي مرة أخرى لأنه لايفهم لغة الإشارة، فكتب له على باب العيادة رسالة يقول فيها: من كانت له عينان يرى بهما، وآذن يسمع بها، وعقل يفكر فيه، يفهم ما يرى ويفسر ما جرى.

فليعلم أن في الصمت لغة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. في الحديثِ الشريفِ المُتفق عليه ” رواه البخاري ومسلم” :عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلَم قال (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ).
    في الحديث المشهور الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلَم قال ل مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رضي الله عنه-
    (أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ فقُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْك هَذَا. قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ – أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ – إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟).
    في كلا الحديثين ، ما تلزم للتعليق على المقال هي الفقرة الأخيرة منهما حيث التوجيه لنا ليس لعدمِ الكلامِ مع الناس و إنما “ضبط اللسان” بحيث لا يتكلم أحدُنا الكلامَ المحرَّمَ مثل القولِ على اللهِ و على المُسلمين بغيرِ عِلمٍ ، والخوْضِ في أعراضِ النَّاسِ ، والغِيبةِ والنميمةِ . أي يكون الأساس هو ” اتْرُكِ الكلامَ فيما لا يُفيدُ وفيما لا مَعنى له ، فإذا تَكلَّمتَ فلا تَتكلَّمُ إلَّا بخير” ، و خير الكلام – بعد ذِكْرِ الله – هو بالأمْرِ بالمعروفِ و بالنهي عن المُنكر ،و بِالأمْرِ بالصَّدقةِ و بِالإصلاحِ بينَ الناسِ .
    أحياناً يكون عدم الكلام فيه سلبية هائلة ، حيث أن “الساكت عن الحق شيطانٌ أخرسٌ” و واضحٌ أن هذا كان مَقصِد الشاعر معروف الرصافي – رحمه الله – حين قال في قصيدته الرائعة الطويلة :
    يا قومِ لا تتكّلموا ** إن الكلامَ محرَّمُ
    ناموا ولا تستيقظوا ** ما فاز إلاّ النُوَّمُ
    حيث أن التحكم الاستبدادي –المُستنِد لتعليماتِ الاستعمار – في الوطن العربي جعل حُرَاس مصالحِ الاستعمار يتبعون سياسة “تكميم الأفواه ” القمعية بأوامرٍ من أسيادِهم . بطبيعة الحال ، لا يوجد لدى البلدان الاستعمارية أدنى سياسات “مكارم أخلاقٍ” تجاه البلدان الواقعة تحت سيطرتِها. عندي قصصٌ كثيرةٌ عن تغييبِ مُفكرين و عُلماء و مُثقفين في سجون قمعستان” الكلمة التي أنشأها الشاعِرُ الراحل نزار قباني– رحمه الله- لوصف الوطن الممتد من الخليج النائم إلى المحيط الهائم” لمُجرَد كلمةٍ أو مزحةٍ أو انتقادٍ بنَاءٍ أو قصيدةٍ . طاغوتُ الاستعمار يُعْجِبُهُ في أداته أن يكون شديد القمع نحوه الشعب فيمتدحه أحد أصحاب الفيل هناك قائلاً عنه “ديكتاتوري المُفضَل”، أي أن غرور و عنجهية هؤلاء الأعداء لا يوجد فيهما حسابٌ أن رفع منسوب القهر لدى الشعوب له حدودٌ ستؤدي إلى ثوراتٍ عارمةٍ فيها تكسيرٌ للقيودِ من دون اكتراثٍ بالعواقب و هذا بالضبط هو المشهدُ القادِمُ في قمعستان ، و اللهُ أعلمْ .
    قبل الوصول إلى نقطة أو درجة الغليان ، السائِدُ لدى شعوبنا حالياً ما تحدَث عنه الشاعِرُ الراحل إبراهيم طوقان – رحمه الله- في قصيدته الرائعة ” لا تَسلْ عن سلامتِهْ ” التي اقتطف منها :
    صامتٌ لوْ تكلَّما ** لَفَظَ النَّارَ والدِّما
    قُلْ لمن عاب صمتَهُ ** خُلِقَ الحزمُ أبكما
    وأخو الحزم لم تزل ** يدُهُ تسْبِقُ الفما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى