مقالات

الكائن السوري بمناسبة الزلزال

على مستويات الوجود الإنساني الثلاثة: “الطبيعيّة والمدنيّة والسياسيّة” جرى بناء الدول الحديثة والأفكار والمفاهيم والقيم اللاحقة، وفي حين لا تهمل الدول الديمقراطية سيادة الأرض؛ لكنها تميل إلى سيادة الإنسان أكثر فيما تميل الدول والثقافات الأخرى إلى سيادة الأرض وتشترك الأنظمة الاستبداديّة بمزاودتها تجاه سيادة غير الإنسان كأرض الوطن، أو القضيّة المُقدّسة!
وفيما تقوم الدول والثقافات الليبراليّة على جملة حقوق إنسانيّة طبيعيّة تم تطويرها لتكون “حقوقاً مدنيّة” يمكن حتى لأعتى محاربي حقوق الإنسان التمتع بها ما إن ينال جنسيّة تلك الدّول؛ ظل الإنسان الشرق أوسطي -ما عدا تركيا- مواطناً قيد اختبار مواطنته من قبل الأنظمة أو إنساناً مشكوكاً بمدنيّته بحسب تصورات المستشرقين!
عند الحديث عن “حق” لابد دائما من تصور جهة ما يترتب عليها “واجب” وفي حين أن الحق الإنساني يتطور إلى حق مدني فإنّ مهمة الدولة -في الدول الديمقراطيّة- تتجسّد في تلبية ذلك الحق كواجب على الدولة؛ والدولة تنتمي بطبيعة الحال إلى المنظومة العالميّة مدنيّا ثمّ سياسيّا.

اقرأ: متلازمة الهرس” تهدد حياة الناجين من الزلزال شمال سوريا


تحمي المنظومة السياسيّة العالميّة الإنسان بصفته مواطناً لدولة ما عضو في الأمم المتحدة؛ وتحمي منظمات حقوق الإنسان ذلك المواطن في حال تعرضت حقوقه المدنيّة للإساءة حتى من قبل دولته؛ وفي حال انهارت خدمات الدولة ولم تعد قادرة على تلبية تلك الحقوق المدنيّة لمواطنيها فإنّ منظمات حقوق الإنسان العالميّة تسعى لتقديم الحدّ الأدنى من تلك الحقوق المدنيّة بوصفها “حقوق إنسان”!
منذ اليوم الأول لحلول كارثة “زلزال الشمال والساحل السوري وجنوب تركيا” خرج الرئيس التركي ليطلب المساعدة الإنسانيّة من كل الدول بغض النظر عن الحالة السياسيّة، وحين يطالب رئيس منتخب لدولة ديمقراطيّة بالمساعدة فهو لا يستجدي، بل يطلب حقّا إنسانيّا لمجموع مواطنيه؛ وفي السياق ذاته فقد زار وزير خارجيّة -مؤخّرا- اليونان تركيا وأعرب عن الوقوف بجانب الحكومة التركيّة لمساعدة المنكوبين رغم “خصومة البلدين”.
رغم تسميّة الصفائح التكتونيّة بالعربيّة والأناضوليّة فإنّ الزّلزال كارثة طبيعيّة لا تميّز بين مواطن تركي وبين سوريين مقيمين؛ كما لا تميّز بين حدود وسيادات الدول الحديثة؛ وفيما أنّ مصاب المواطن التركي أليم ويستحق كلّ التعاطف الإنساني والرّسمي معه فإنّ مصاب الكائن السوريين مضاعف!
في تركيا نسمي أنفسنا -نحن السوريين- لاجئين؛ وفئة من الإخوة الأتراك الذين لديهم تصور معين تجاه التراث يسمّونا “مجازا” بالمهاجرين في إشارة إلى العلاقة بين “المهاجرين والأنصار” في التراث الديني؛ إلّا أنّ مفاهيم الدولة التركيّة الوطنيّة الحديثة تعرّف المهاجر بطريقة أخرى!
بحسب دراسة منشورة عام 2021 لمركز استشاري قانوني “عرسان شن” فإنّ مفاهيم المدنيّة التركيّة الحديثة تستند إلى مصدرين لتعريف المهاجر:
1- تاريخ الدولة الحديثة وارتباط مفهوم المهاجر بالأتراك المنتمين عِرقا ولغة إلى تركيا لكنّهم يقيمون في بلد آخر، ومنهم السكّان الأتراك الذين تم تبادلهم مع اليونان إبّان ترسيم الحدود بين البلدين عام 1923.
2- الاتفاقيات الدوليّة الخاصّة باللجوء والتي وقّعت عليها الحكومة التركيّة حيث تعترف باللاجئ القادم من جهة الغرب فقط!
أما اللّاجئ المشروط الذي ينتظر إعادة توطينه في دولة ثالثة فهو الذي يلجأ بصفة فرديّة وهذا لا ينطبق مرّة أخرى على تدفّقنا الجماعي كسوريين إلى تركيا؛ ورغم صدور قانون الحماية المؤقّتة فإنّ مفهوم “المؤقّت” يعني أنّ على السوريين العودة لأنّ “الحرب الأهليّة” انتهت بحسب نصائح المركز الاستشاري ذاته للدولة التركيّة!
ليس من اللائق الحديث هنا عن الفرق بين ثورة ومعارضة ونظام؛ لكن تكفي الإشارة إلى أنّ انزياح المفاهيم العالمية تجاه ثورة السوريين إلى اعتبارها “حربا أهليّة” أفرز خللا مضاعفا: إذ أتاح للنظام القاتل إمكانيّة تزوير تمثيل الدولة السوريّة الغائبة عن أي تأثير إيجابي تجاه حقوق السوريين؛ كما منح قوى الأمر الواقع كذلك بعض الشرعيّة باعتبارهم “ممثلي” الحرب الأهليّة!
حتى المناكفات السياسيّة في تركيا بين حكومة العدالة والتنمية وبين الأحزاب المعارضة يمكن أن تصب في مجملها في صالح التنافس على تلبية الحقوق المدنيّة لمجموع المواطنين الأتراك؛ أو الحقوق الإنسانيّة على أقل تقدير للمصابين والمتضرّرين جراء كارثة الزّلزال ومن ثمّ كسب مشروعيّة تمثيله السّياسي؛ بالمقابل فإنّ تعدد المعارضات السوريّة المقابلة لحكومة بشار الأسد لا يمنح السوريين المعنى ذاته!

تابعنا في فيسبوك


عوضا عن الحكومة التركيّة الواحدة يمكننا الحديث عن أربع حكومات سوريّة تحتلّ التمثيل السّياسي للسوريين، ويمكننا فهم مدى شرعيّة أي من تلك الحكومات بتسليط الضوء على توجه العمل السياسي لتلك الحكومات وهل يصبّ في الدفاع عن الحقوق المدنيّة للسوريين أو حتّى لفئة منهم؟!
ثمّ وفي حال حدوث كارثة إنسانيّة: هل النداءات الإنسانيّة لطلب المعونة قائمة على اعتراف محلّي بحقوق الإنسان؟!
إن كان الجواب: “نعم” فإنّ السوريين -في الداخل خاصّة- ينعمون في ظلّ أربعة أنظمة ديمقراطيّة؛ وإن كان: “لا” فلعلّنا كسوريين منكوبين جرّاء الزلزال سنشترك مع نداء مبعوث الاتحاد الأوروبي لحكومة نظام الأسد -ولسواها بالمناسبة- بالقول: لقد سلبتمونا تمثيلنا السياسي ولم تعترفوا بحقوقنا المدنيّة فنطلب إليكم أخيرا “عدم تسييس قضيّة المساعدات” لأنّها إنسانيّة!.
من قبل الزلزال وبذريعة “السيادة الوطنيّة” تبتز حكومة نظام الأسد المجتمع الدولي لجني مكاسب سياسيّة على حساب حقوق الإنسان السوري، وما الحملة التي يشنّها أتباعه لرفع العقوبات عن النظام إلّا استثمار في المنحى ذاته!
حكومة أو “إدارة” شرق الفرات تمارس السياسة أيضا بإرسال مساعدات باسمها كجهة شرعيّة فيما عينها على إدانة تركيا أكثر من عينها على إمكانيّة وصول المساعدات؛ أمّا حكومة عبد الرحمن مصطفى فترفض المساعدات بنصف الفم وتطمئن العالم إلى أنّ الحدود التركيّة مفتوحة لإيصال المساعدات بنصف الفم الآخر؛ فيما حكومة الإنقاذ تستقبل وفدا أمميا لبّى “دعوة من إدارة الشؤون السّياسيّة” في اليوم الثامن لكارثة الزلزال لتنسيق العمل الإنساني خلال الأيام القادمة؛ وفي سعير الحراك السياسي، غير المجدي للسوريين، ظل السوريون يقاومون كارثتي الزلزال والبرد بأنفسهم!
للإنسان التركي المنكوب -هوّن الله عليه- دولة تعمل بكامل طاقتها للتخفيف عنه إنّ لم يكن على مستوى الحقوق المدنيّة فعلى مستوى الحقوق الإنسانيّة؛ بالمقابل يظل الإنسان السوري غير المواطن في بلده وغير اللاجئ في دول الجوار وغير المعترف بإنسانيّته حتّى اللحظة صاحب الألم الحي مضاعفاً مرّات عديدة!
ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ البرد ليس “أساس كلّ علّة” كما يقول المثل الشّعبي بل إنّ كارثتنا كسوريين قبل الزلزال وفي أثنائه تتمحور حول عدم وجودنا السياسي والقانوني، ولعلّنا لا نبالغ أيضاً إذا زعمنا أنّ كارثة الزلزال على فجاعتها هي كارثة طبيعيّة يمكن أن تحدث لأي شعب لكنّ كارثة غياب صوت شعب كامل ما يزال ينفرد بها السوريّون دون غيرهم!
وحدت كارثة الزلزال بين ألم السوريين والأتراك من جهة؛ لكنّها كشفت الفارق الكبير بين أن تكون مواطنا وبين أن لا يكون لك وطن؛ وكشفت أيضا عن تضامن شعب سوري قادر على إثبات طبيعته سوريّة خيّرة ما تزال تنبض بالحياة تحت أنقاض الشعارات السياسيّة التي تخدم قوى الأمر الواقع والدول الداعمة لها لكنّها لا تخدم السوريين لا في حقوقهم المدنيّة ولا حتّى الإنسانيّة!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى