ثقافة وأدب

قالت العرب: يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا ** يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ

نصير محمد المفرجي

إعلامي وباحث في اللغة العربية.
عرض مقالات الكاتب

يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا

يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ

وقائل البيت الشعريّ هذا؛ الإمام عبد الرحمن بن عبد الله السهيليّ   

كان عالمًا جليلًا في العربيَّة والقراءات والنحو والتفسير والحديث والفقه والأصول والتاريخ، وكان شاعرًا مُجِيدًا مُكثِرًا.

تُوفِّي رحمه الله بمُرَّاكش سنة 581هـ.

وهو القائل أيضًا:

يَا دَارُ مَا فَعَلَتْ بِكِ الأَيَّامُ

ضَامَتْكِ وَالأَيَّامُ لَيْسَ تُضَامُ

إنَّ شَدائد الحياة كثيرةٌ، تعجز في كثيرٍ من الأحيان قُوَى المرء بل قُوَى البشر عن عِلاجها والتغلُّب عليها، وتَبقَى قوَّة الله العليِّ القادر هي التي لا تستَعصِي عليها شدَّةٌ مهما عظُمت.

يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ

أَنْتَ المُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ 

يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا

يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ 

مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ

فَبِالاِفْتِقَارِ إِلَيْكَ فَقْرِي أَدْفَعُ 

مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ

فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ 

وَمَنِ الَّذِي أَدْعُو وَأَهْتِفُ بِاسْمِهِ

إِنْ كَانَ فَضْلُكَ عَنْ فَقِيرِكَ يُمْنَعُ 

حَاشَا لِفَضْلِكَ أَنْ يُقَنِّطَ عَاصِيًا

الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالمَوَاهِبُ أَوْسَعُ

فلا مَلجَأ ولا مَنجَى من الله إلا إليه، ولا مَفزَع إلا إليه.

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏

وقد رُوي عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “لو أخذ الناس كلّهم بهذه الآية لكفتهم”‏‏.

 وقوله‏:‏ ‏{‏‏مَخْرَجًا‏}‏‏ عن بعض السلف‏:‏ أي من كلّ ما ضاق على الناس.

تابعنا في فيسبوك

وقال عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما: ” أي: يُنجّيه من كلّ كرب في الدنيا والآخرة”.

 ومن كان الله معه فلا خوفَ عليه

قال تعالى: ﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾‏[‏طه‏:‏ 46‏].‏

الخُطوب والمُلمّات والدواهي

الخَطْبُ: الشَّأْنُ أَو الأَمْرُ، صَغُر أَو عَظُم، والخَطْبُ: الأمر الذي تَقَع فيه المخاطَبة، والشأْنُ والحالُ؛ ومنه قولهم: جَلَّ الخَطْبُ أَي عَظُم الأَمرُ والشأْن.

وفي التنزيل العزيز:(قال فما خَطْبُكُم أَيـُّها الـمُرسْلون). وجمعه خُطُوبٌ.

مُلِمَّةُ الدَّهْر:- مُصِيبَتُهُ العَظِيمَةُ، الشَّدِيدَةُ، وجمعها: مُلِمَّات.

دَاهِيَةٌ: جمعها: دَوَاهٍ، الدَّوَاهِي، نَزَلَتْ بِهِ دَاهِيَةٌ:- مُصِيبَةٌ، عَظِيمَةٌ، نَازِلَةٌ، بَلِيَّةٌ. :- تَوَالَتْ عَلَيْهِ الدَّوَاهِي.

قال لَبيد بن ربيعة العامِريّ وهو أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية، وهو أحد أصحاب المعلقات، وقد أدرك الإسلام، ووفد على النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويُعدّ من الصّحابة،

قال لبيد:

إنَي أُقاسي خُطوبًا ما يَقُومُ لَهَا

إلاَّ الكِرامُ على أمْثالِها الصُّبُرُ

وقال قيس بن الخطيم الأوسيّ، وهومن صناديد الجاهلية وأشدّ رجالها:

 وَمِن عادَةِ الأَيّامِ أَنَّ خُطوبَها

إِذا سَرَّ مِنها جانِبٌ ساءَ جانِبُ

وفي هذا السياق قال أبو تمّام حبيب بن أوس الطائيّ:

تَروحُ عَلَينا كُلَّ يَومٍ وَتَغتَدي

خُطوبٌ كَأَنَّ الدَهرَ مِنهُنَّ يُصرَعُ

وقال أيضًا:

كَذا فَليَجِلَّ الخَطبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ

فَلَيسَ لِعَينٍ لَم يَفِض ماؤُها عُذرُ

وقال المتنبي:

وَفِيّ ما قَارَعَ الخُطُوبَ ومَا

آنَسَني بالمَصائِبِ السُّودِ

وفي المُلِمّات قال عنترة بن شدّاد:

جازتْ مُلِمّاتُ الزَّمانِ حدودها

واسْتَفْرغَتْ أيَّامُها مجهُودَها

وفي الدواهي قال لبيد بن ربيعة العامري:

 وكلُّ أُنَاسٍ سوْفَ تَدخُلُ بَينَهُمْ

دُوَيْهة ٌ تصفَرُّ مِنها الأنَامِلُ

قد جاء التّصغير هنا في (دويهيةٌ) للتّعظيم، أراد بالدّويهية الموت، ولا داهية أعظم منها.

الصبر ومنزلته

وللصَّبرِ على الشدائد والابتلاءاتِ ثَوابٌ عَظيمٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك أنَّ اللهَ جعَل الابتلاءاتِ كفَّاراتٍ لذُنوبِ المُؤمنِ ورِفعةً لدَرجاتِه.

وعلى المسلم إذا أصابته مصيبة أن يسترجع ويدعو بما ورد.

قال الله تعالى: ( وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ).

فالبلاء يُصيب الجميع، ولكن البشارة لا ينالها إلاّ الصابر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها» البخاري ومسلم.

وروى مسلم (918) عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله ” إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها ” إلا أخلف الله له خيرًا منها ) .

البلاء والابتلاء

البــــلاء بأنواعه ودرجاته سُنَّة الله الجارية في خلقه.

والابتلاء والاختبار والفتنة في أصل اللغة العربية معناها إدخال الذهب إلى النار ليُصفّى من الشوائب ليخرج ذهبًا مُصفّى.

قال الأزهريّ: جماع معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيّد.

قالَ تَعالى ﴿هُنالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ١١].

وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة” [رواه الترمذي وصححه الألباني، صحيح الجامع (5815)].

فالبلاء من قدر الله المحتوم، وقدر الله لا يأتي إلّا بخيـــر

قال ابن مسعود رضي الله عنه: “لأن أعضّ على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد في يدي أحبّ إليّ من أن أقول لشيءٍ قضاه الله: ليته لم يكن”.

وينبغي أن يتصرَّفَ المؤمن وَفْق مُراد الله، ويدافع القَدَرَ بالقَدَرِ، ويسعى للتغيير، ويبادَر إلى العمل؛ للخروج من الضِّيق والكَرْب، وهذا سوف يَهديه اللهُ إلى الخروج من ذلك البلاء وذلك الضِّيق، وسيفتح له آفاقًا لم يكن يتوقَّعُها، ويُرشِدُه إلى خَيْرٍ لم يكن في الحُسْبان قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].

المصائب خير للمؤمن!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فكان خَيْرًا لَهُ، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكان خَيْرًا لَهُ)؛ رواه مسلم.


ولكنّ طلب الصبر إنما يكون بعد وقوع بلاء، أو حصول مصيبة، أو نحو ذلك مما يحتاج العبد فيه إلى الصبر، فحينئذ يشرع له أن يسأل الله الصبر.

قال تعالى: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ) البقرة/ 250، 251.

وقال تعالى عن سحرة فرعون : ( قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) الأعراف/ 125، 126.

وأما في حال العافية: فالمناسب أن يسأل الله أن يُتم عليه نعمته وعافيته وستره.

وذكر الجاحظ؛ أبو عُثْمان عُمَرُو بن بَحر بن مَحْبُوبٌ اللَّيْثِيّ الْكِنَانِيّ الْبَصَريّ؛ من كبار أئمة الأدب في العصر العباسيّ، ذكر في (البيان والتبيين) أنّ أحمد بن المعذل قال: أنشدني أعرابي من طيء:

وإني لصبَّارٌ على ما يَنُوبُني

وحَسْبُك أن الله أَثْنَى على الصبر

وكما قالت العرب:

في تقلّب الأحوال تعرف جواهر الرجال

إذا حلّ العُسْر قَرُب اليُسْر

سيقعب العسر يسُرًا إن شاء الله (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6].

(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق:7].

(.. لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ..) [النور: 11].

وقوله عزَّ وجلَّ {.. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

وأختم بقول أبي العتاهية؛ الشاعر العبّاسيّ:

رُبَّ أَمرٍ يَسوءُ ثُمَّ يَسُرُّ

وَكَذاكَ الأُمورُ حُلوٌ وَمُرُّ

وَكَذاكَ الأُمورُ تَعثُرُ بِالنا

سِ فَخَطبٌ يَمشي وَخَطبٌ يَكُرُّ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى