ثقافة وأدب

تحقيق أمني!

تليد صائب

أديب سوري
عرض مقالات الكاتب

لم تستطع ادارة مؤسسة الاسكان العسكرية أن تسدد لنا ما عليها من مبالغ مقابل توريد مواد خاصة بالبناء من إيطاليا كنا قد وردّناها لهم حين كنا نملك شركة مقاولات ،ولأن مدراء مؤسسة الإسكان  كانوا سيقبضون حصة من المبالغ ،فقد أفتوا لنا أن نرفع على المؤسسة دعوى قضائية ،نطالبهم بتسديد المبلغ ،فيعترفون لنا به ،ويصدر القرار لمصلحتنا ،فيصرفون لنا المبلغ تنفيذًا للحكم القضائي .

كان على الشركة الإيطالية أن تعمل وكالة لشخص بسوريا، ليرفع الدعوى و يطالب بالمبالغ … فصارت الوكالة باسم ابن عمي فيصل الديري المقيم بدمشق ..

ولأن الوكالات من الخارج لا تُقبل إلا بعد تصديقها من الخارجية السورية ، والخارجية لا تصدقها الا بعد موافقة الأمن العسكري و أمن الدولة عليها , خشية أن تكون الوكالة من سوري مطلوب للأمن و مقيم خارج القطر و يريد تصفية أمواله المجمدة في سوريا ليعيش بها … فقد تمّ تحويل الطلب للأمن العسكري أولاً (وبواسطة كبيرة) حصلنا على الموافقة بنفس اليوم .

سألني ابن عمي، إن كنت أستطيع أن أنهي له اجراءات الموافقة من أمن الدولة ،أو يبحث عن واسطة ( دقيت على صدري ) ووعدته بإنجازها بسرعة ،و قبل أن يعود من سفره إلى أوربا الذي سيبدأ بعد يومين .

أعطيت الأوراق لصديقي الذي تربطه برئيس أمن الدولة صداقة عائلية جيدة جدًا، وطلبت منه المساعدة ،قال لي : الحجي (رئيس الفرع) ،سيتغدى عندنا بالمزرعة بعد غدٍ ظهرًا ،تعال معنا ،تعرف عليه فهو جارك وبنفس حارتك ،و سنحدثه بالأمر ،وننهيه فورًا .

عاتبني رئيس الفرع أثناء الغداء، أنني لم أمر للسلام عليه و الترحيب به حين وصل للدير منقولا” اليها من دمشق ،كعادة الديريين بالترحاب بالجيران الجدد خاصة أبناء المحافظات الأخرى ،خجلت أن أقول له : إن من يزورك إما مخبر أو متملق و متسلّق … فقدمت اعتذارات غير مقنعة .

أخذ العميد الأوراق وأعطاها لسائقه ،وقال له : سلّمها غدًا لقسم التحقيق .

مرَّ يوم ،ويومان .. ثلاثة .. أسبوع .. لا حس ولا خبر

قلت لنفسي : أحسن شيء أن أنتظر خروجه من بيته صباحًا ،و أدعي أني أمر بالصدفة ،أسلم عليه ،وأسأله .

انتظرت صباحًا،على سطح بيتنا المطل على بيت العميد ،حين استنفر عناصر الحراسة ، وركض السائق باتجاه السيارة ،علمت أنه سيخرج ،نزلت مسرعًا باتجاه بيته، وصلت وهو يهم بركوب سيارته .

– : صباح الخير سيادة العميد

– : صباح النور .. أهلاً وسهلاً يا جار … كيفك .. طمنني .. صدّقت أوراقك من الخارجية بالشام بعدين !!

-: بس تخلص الأوراق من عندكم بالفرع أخلصها من الشام ،بالخارجية ما بدها واسطة .. المشكلة عندكم ،أنت واسطتنا و ما خلصت الأوراق .. الله يعين اللي ما عنده واسطة .

انتفض العميد وكأن تيارًا كهربائيًا مسّــه … كيف ما خلصت الأوراق , شلون؟! أنا أعطيت تعليماتي بإنجازها فورًا …

دخل المحرس ( الكولبة ) رفع سماعة الهاتف ،يبدو أنه اتصل بالفرع ،صوته وهو يسب و يلعن،ويرغي و يزبد ويهدد سمعته بوضوح .. أنهى المكالمة بقوله :

– ابن عم صاحب العلاقة راح يكون عندك بعد نص ساعة ،يا ويلكم لما أوصل

طلب من سائقه الآخر أن يأخذني للفرع لمقابلة المسؤول عن الموضوع ،وحين وصلت الفرع دخلت مع السائق لمكتب الضابط المسؤول .. كان صديقي أبو صلاح الذي تفاجأ برؤيتي كما حدث لي أنا أيضًا .. هذا أنت ؟! يا ابن الحلال تبهدلنا كرامتك … مسح العميد بينا الأرض .:تستاهل، إذا أوراق ابن عمي تقعد عندك أسبوع ،على الأقل من اسم  الكنية تعرف القرابة و تنهيها حتى من دون واسطة ..

– : أنا لم أقرأ الاسم ،وصلتني الأوراق ،وبلغوني أن العميد مهتم بها شخصيًا أعطيتها لمساعدي ليعمل دراسة كاملة عن صاحب الأوراق ،ليعرف العميد دقة دراساتنا ؛ ابن عمك يسكن بالشام ،لذلك كانت تحرياتنا ناقصة قليلا ً, ونحن نريدها شاملة وكاملة، أقسم بالله اليوم أنهيت التحريات , مع ذلك وعلى اعتبار أنت ابن عمه , سنسألك بعض الأسئلة عنه ،تفضل لغرفة المساعد ليسألك ،ويكتب التقرير؛ و نختمه الآن .

استقبلني المساعد بأدب شديد ،فواسطتي (المعلّم الكبير بالفرع) إضافة لمعلّمه المباشر أبو صلاح

قال لي في بداية التحقيق : طبعًا نحن نعرف عن ابن عمك أكثر منك .. و نعرف كل تفاصيل حياته ،وكل ما ستقوله لا أهمية له ،ولكن نسألك ( تحصيل حاصل)

ضحكت ؛ ثم قلت له : لو تعرف ابن عمي أكثر مني ،ما انتظرت أوراقي أسبوع عندكم ،أتحداك أنت ومعلّمك تعرفوا أكثر مني، اسألني ،خليني أرجع بيتي .

سأل عن اسمه ،واسم أبيه ،واسم أمه ،وزوجته و أولاده ،عن أعمامه و أخواله ،عن عمله ،وعن عنوان سكنه بدمشق … أجبته عن كل الأسئلة ،وبعد أن  أعطيته العنوان بالتفصيل الممل،قال لي : هل يزور ابن عمك القُطُر العربي السوري ؟ وهل يتردد عليه ؟! ومتى آخر زيارة له؟

-:ابن عمي مقيم بدمشق ،و أعطيتك العنوان، ويعمل بدمشق ،وتسألني يزور القطر ولا لأ ؟!

-: أقصد هل يغادر ابن عمك القُطر ؟! ومتى آخر مرة سافر فيها خارج القطر؟

– :ابن عمي مسافر الآن ،وهو دائم السفر بحكم عمله ،وحاليًا هو بفيينا .

ضحك المساعد ،بل قهقه بشدة ،و مال بكرسيه للخلف حتى كاد أن يقع …

– :وتقول لي أعرف أكثر منكم ! يا رجل ما في حدا يعرف أكثر مننا ..

نعرف ان ابن عمك مسافر خارج القطر العربي السوري، ولكنه ليس بفيينا ،تأكد من معلوماتك (الغلط ) ،أنا حبيت أشّوفك مين يعرف أكثر

– : ابن عمي بفيينا ،وأنا متأكد، وإذا عندك معلومات أخرى ،فهي معلومات (غلط) ،معلوماتي أنا صح 100% .

-: حبيبي؛ لا أحد معلوماته أدق من معلوماتنا ،و لا تنسى أني أنا من عمل تحقيق عن ابن عمك، وأنا لا أترك شاردة ولا واردة ،و تقاريري مثل السمن البلدي .

-: طيب يا سيادة المساعد ،قد تكون أنت الأصح، وأنا غلطان، بس ممكن تقول لي وينه ابن عمي ؟! من باب الفضول ،لأنه قال لي أنه مسافر لفيينا .

-: معلوماتي هي الأصح أكيد ، وابن عمك يا أستاذ موجود حاليًا بالنمسا و ليس بفيينا !! .. ثاني مرة لا يخطر ببالك أنك ممكن تعرف أكثر من المخابرات، خاصة أمن الدولة …

معه حق .. معلوماتي غلط .. أنا مواطن عادي من وين لوين لأعرف انه ابن عمي بالنمسا مو بفيينا !!

خرجت من مكتب المساعد،قلت لأبي صلاح : المساعد مُصِر أن ابن عمي بالنمسا مو بفيينا ،بس قول لي من وين جايبينه , وكيف تقبلوا منه يكتب لكم التقارير؟

-: هذا أذكى جحش عندي بالفرع ،من وين أجيب لك غيره ،من اليابان مثلاً ؟! أبو صلاح معه حق ،فالواضح أن المساعد هو أذكى جحش قابلته بحياتي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى