دين ودنيا

كلام عن السحر والسحرة (5 من 5)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

والآن لماذا يراني القارئ مستميتاً فى نفي السحر؟ الواقع أن هناك أسبابا متعدة أقتصر منها هنا على الآتى: فأولا لا يشيع الإيمان بالسحر إلا فى البيئات المتخلفة، أما الشعوب المتقدمة فلا تشغل أنفسها ولا تستعين به فى أى أمر من أمورها حسبما قلنا آنفا. وهذا دليل قاطع على سخف هذا الاعتقاد. سيقول معظم المسلمين: لكن السحر موجود فى القرآن. وجوابى هو هو ما قلته قبلا: نعم، السحر موجود فى القرآن، لكن بمعنى غير المعنى الذى يعتقده العوام وأشباههم من المتعلمين الذين لم ينجِّرهم التعليم فظلوا بـ”الجلخ” الذى أَتَوْا به من بيئاتهم المتخلفة لم يُصَنْفَروا. وسوف أوضح هذا بعد قليل. الشىء الثانى هو أنه لو كان السحر، على النحو الذى تفهمه العامة وأشباه العامة، صحيحا لعاش الناس جميعا فى بُلَهْنِيَةٍ من العيش ونغنغةٍ لم يحلم بها إنسان قط. كيف؟ كلما أراد الواحد منا شيئا فما عليه إلا إخراج التعزيمة الخاصة بذلك الشىء ويرددها مستعينا بشمهورش وأقاربه وذريته، فيأتونه فى الحال ويحققون له ما يريد أيا كان هذا الذى يريد: طعاماً أو لباساً أو مسكناً أو شفاء من مرض أو حصولا على سلطان… إلخ إن كان لذلك من آخر. لكننا ننظر فنجد السحرة لا يعيشون بالتعازيم بل بالضحك على ذقون المتخلفين، وما أكثرهم بحمد الله فى بلاد العالم الثالث، ومنها بلاد العرب والمسلمين! وبطبيعة الحال سوف يتقدم لى فلحاس من الفلاحيس قائلا فى تحدٍّ: طيب، وماذا يفعل المعزِّم، حين تصير الحياة سهلة إلى هذا الحد، مع من يريد إيذاءه بالسحر؟ والرد من أيسر ما يمكن، إذ ما عليه إلا أن يستخرج من عُبِّه تعزيمة إيقاف السحر وإبطال أذاه ويستخدمها فلا يقع به شىء من الضرر. وهذا مثل القبة الحديدية التى تتصدى للصواريخ المصوبة على بلد ما فتعترضها فى الجو وتسقطها قبل وصولها إلى هدفها. وكما أن هناك ردعاً نووياً فبحمد لله سيكون عندنا ردع سحرى، وتتعادل الكِفَّتان: كِفَّة المؤذِى وكفة المؤذَى، فلا معتدٍ ولا معتدًى عليه، ويعيش الطرفان فى وئام وسلام لا عن حب بل عن ردع.
وثالثا إذا فتشنا القرآن الكريم من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله فلن نجد دعوة إلى الاستعانة بالسحر بتاتا بل بالعلم. وفوق هذا فالقرآن، على العكس، إنما يحقر من شأن السحر ويؤكد أنه باطل وأنه لا قيمة له وأنه لا يضر بشىء، وأن القيمة كلها للعلم والعلماء. لكن كثيرا من المسلمين قلبوا الآية وصاروا يكرهون العلم ويتمسكون بالسحر، وحجتهم أن السحر قد ورد فى القرآن، ولا يريدون أن يفهموا أن القرآن لا يمكن أن ينزل إلى مستواهم المتخلف، ومن ثم لا يمكن أن يكون معنى السحر فى القرآن هو معناه فى أذهانهم الخربة. أى أنهم فى الوقت الذى يتوهمون أنهم متمسكون بدينهم يكونون فى الواقع مهملين له واقفين منه موقفا عدائيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهيهات ثم هيهات! والعجيب المريب فى الأمر أن من يرددون دائما أن السحر مذكور فى القرآن لا يخطئون قط فيقولوا إن العلم مذكور فى القرآن مرارا وتكرارا وإن الله قد رفع أهله فوق غيرهم درجات.
ورابعا فإن الأمم التى تقدمت وصارت تعيش فى رفاهية ونظافة وملابس لائقة جميلة ونظام حياتى مريح وتعليم متقدم الشَّأْو ومصانع وشركات تنتج حاجات البلاد والعباد ومستوًى من المعيشة راقٍ وحرية وشورية وعدل وتعاون وتفاهم واحترام للقانون وتأمين صحى شامل وارتفاع فى متوسط العمر وشوارع ممهدة وأرصفة سليمة واسعة عريضة وغير ذلك مما نراه ونسمع عنه، هذه الأمم إنما صارت إلى ما صارت إليه جراء اعتمادها فى كل أمورها على العلم واتخاذها له منهج حياة لا تعرف غيره من أمور الهلس والتخريف التى تعيش عليها شعوب العالم المتخلف فتشقى فى كل أحوالها وتعانى الأمرين على نحو لا يبشر بأى أمل وتقاسى عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.
وخامسا فإن الله قد أقام كونه على نظام وقوانين مطردة، ولا يستطيع اكتشافَ هذه القوانين ومعرفةَ طرق استغلالها لخدمة البشرية إلا العلماء، وهو ما تفعله الدول المتقدمة كما أشرنا ووضحنا من قبل. أما الساحر فيزعم أنه يصل إلى مبتغاه بالقفز فوق القوانين الكونية، وهذا أمر مستحيل، وإلا لكانت البشرية تعيش فى بُلَهْنِيَة لا يمكن تخيلها، وبدون أدنى تعب أو جهد. نعم ليس من المعقول أن يُجْرِىَ الله سبحانه كَوْنَه على قوانين منضبطة، ثم يأتى الساحر فيفسد كل هذا وينجح فى نيل مبتغاه على عكس ما يريد الله منا، إذ يأمرنا ربنا تبارك وتعالى دائما بالعمل ثم العمل ثم العمل مع مراعاة الميزان، أى القانون، ونبذ السحر، وإلا كفرنا به وبأوامره وقوانينه وموازينه. فلنغلق إذن المدارس والجامعات والمعامل ونسرح العلماء ونستبدل بهم السحرة ونجعلهم مرشدينا وهداتنا فى جميع أمور حياتنا حتى نوغل أكثر مما قد أوغلنا حتى الآن فى التخلف والجهل الغليظ والفقر الأكيد والغضب الإلهى المبير.
إن العوام وأشباههم، وهم كُثْرٌ، يظنون بجهلٍ أن السحر قادر على تحقيق العجائب مع أننا لم نر ولا رأى غيرنا ساحرا يصنع أية عجيبة. نعم هناك كلام فى “ألف ليلة وليلة” وما يشببها من القصص عن “البلورة المسحورة” وعن “بساط الريح” وما إلى ذلك، لكن هذه مجرد أوهام وتطلعات ليست لها حقيقة فى الواقع، أما الآن فقد اخترع العلمُ المرناءَ، الذى نرى فيه كل ما يقع فى العالم فى التو واللحظة على تنائى المسافات والأبعاد حتى لو كان الحدث يقع فوق سطح القمر، واخترع المُنْطَاد ثم الطائرة ثم سفينة الفضاء، واخترع الغواصات والمشباك والكاتوب وجعل الأصم يسمع، وسوف يجعل الأعمى يبصر، وكله بفضل الله سبحانه خالق العقل، الذى يستطيع ذلك كله وأكثر من ذلك كله. أما السحرة فناس جهلة أغبياء متخلفون كذّابون لا يخدعون إلا الأغرار الساذجين الذين يستحقون الخداع والتضليل لأنهم لا يريدون أن يخرجوا من الظلام والجو العفن إلى النور والهواء الطلق النقىّ.
ومع ذلك كله فلا يزال هناك حتى الآن من يؤمن بأن السحر يغير طبيعة الأشياء ويحول الرجل إلى امرأة! وقد قرأت لتوى الخبر التالى فى جريدة “إِرَم” الضوئية وأنا أكتب هذا الفصل وهو عنوان “خليجى بالإمارات يحاول حرق جدته لمنعها من تحويله إلى أنثى”: “خفضت محكمة استئناف أبو ظبى مدة حكم قضائى كان قد صدر بحق خليجى تسبب عمدا بإشعال النار فى جدته بقصد قتلها، من السجن 5 سنوات إلى 3 سنوات وإلزامه بدفع 50 ألف درهم (13600 دولار) للمجنى عليها، فضلا عن دفع رسوم القضية. وبحسب تفاصيل المحاكمة فقد اعترف المتهم بأنه كان يحاول الانتقام من جدته بسبب كثرة مشاكلها معه، وتهديدها الدائم له بمعاقبته بالسحر لتحويله من رجل إلى امرأة، وهو ما دفعه للقيام بوضع عدد من أسطوانات الغاز مختلفة الأحجام داخل سيارته، وأقنع جدته بالذهاب معه لشراء هدية لها.
وبحسب ما جاء فى التحقيقات توجه الجانى بجدته إلى منزله القديم فى الوثبة، ووضع فى المركبة ولاعة بخور، وغادر المركبة قبل اشتعالها بدقائق، لكنه عاد سريعا بعد الاشتعال نتيجة ارتفاع صوت جهاز إنذار السيارة، إذ خاف من حضور الجيران، فقام بإخراج جدته من السيارة. وقال تقرير الطب الشرعى: إن الجدة عانت من حروق من الدرجة الثانية والثالثة فى وجهها وأذنيها ورأسها وعنقها وظهرها وأصابعها. وكانت الحروق تغطى 25 فى المائة من جسدها”. ثم قرأت الخبر التالى فى جريدة “المصريون” بعد ذلك بأيام، إذ أحرقت حشود غاضبة في إحدى قرى جواتيمالا خبيرًا في الطب التقليدي بعد اتهامه بممارسة السحر. وقد وقع الحادث في 6 يونيو 2020م في إحدى القرى شمالي جواتيمالا، إذ اتهم العديد من السكان المحليين الضحية، وهو ممارس لطب المايا التقليدي، باستخدام السحر لقتل رجل توفي في مستشفى محلي قبل عدة أيام وفقًا لبيان للشرطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى