دين ودنيا

كلام عن السحر والسحرة (4 من 5)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

وقبل ذلك، وأنا مدرس مساعد ولم أكن ذهبت بعد إلى بريطانيا، كنت فى بيت أختى الكبرى بالقرية، فأتت سيرة ‏الفنجان والمندل بوصفهما الطريقة التى يعرف بها الساحر شخصية السارق. وكنت أسمع كلاما كثيرا ‏فى هذا الموضوع لا أصدقه. وفى هذه المرة جاء ذكر فلان الفلانى بوصفه من الذين يقرأون الفنجان ‏ويفتحون المَنْدَل، وكان فلان هذا معنا فى الكتاب، بل كان بيتهم القديم لصق بيت خالى على مبعدة أمتار من بيت ‏أبى. وقال لى زوج أختى إنه الآن يبيع الملح على عربة كارّو يشدها حمار. وكانت المصادفة فى ذلك ‏اليوم كريمة، فقد أتت به رجلاه يبيع الملح هناك، إذ كان يتنقل فى شوارع القرية شارعا بعد شارع إلى أن ‏يتمها جميعا. فأحضرناه وأخذت أسأله عن الأمر، وهو يشرح لى، ولكنى حين قلت له إننى قد ضاع ‏منى شىء وأريد أن أعرف مَنْ سرقه أحذ يتهرب ولم أستطع قط أن آخذ منه “عُقَادْ نافعْ” كما يقول ‏الريفيون. وعبثا قلت له إننى سوف أعطيه من المال ما يرضيه. لكن على من تريد أن تضحك؟ على ‏بائعِ ملحٍ سرِّيح؟ أما إنك لواهم حقا!
ومعروف أن كثيراً من النساء اللاتى لا يلدن يذهبن إلى بعض الدجالين ممن يُسَمَّوْن بـ”المشائخ” حتى يحملن، وكثيراً ما تحدث مآسٍ، إذ تحمل الواحدة منهن فعلا، ولكن لا عن طريق الأحجبة والأعمال السحرية كما يظن الأزواج المغفلون، بل عن طريق معاشرة الذئب الدجال بطريقة أو بأخرى للزوجة حين ينفرد بها فى غرفته الشيطانية المظلمة أو عن طريق قطنة مبلولة بماء الدجال يعطيها إياها لتستعملها فتحبل، وأحيانا ما تسكت الزوجة وتترك الأمر يمر حتى لا يطلقها زوجها إذا لم تنجب له، ويظن الزوج أن بركة الشيخ وأعماله السحرية قد حصلت، وها هو ذا الدليل حاضراً أمامه وأمام الجميع، وأحيانا ما ينكشف الأمر ويعرف الناس به وتتحدث الصحافة عنه وتصير فضيحة، ومع ذلك لا أحد يتعظ ويتعلم الدرس بل يظل المغفلون سادرين فى تخلفهم واعتقاداتهم الغبية الإجرامية وتتكرر المأساة من جديد. أما إذا لم تأت النتيجة المطلوبة فالجواب حاضر، وهو أن المواد التى طلبها السادة الجن على لسان المشعوذ الدجال من عُرْف ديك صفته كذا وكذا أو مرارة غراب وحيد أبويه أو رِجْل بومة بنت أسبوعين أو ريشة هدهد أمه مترملة منذ أربعة أشهر لا تزيد ولا تنقص لم تتوافر فيها الشروط المطلوبة، أو لم تقدَّم فى الوقت المحدد، أو أن التعزيمة لم تُتْلَ على النحو الصحيح، أو أن المكان المعين لم يتم اختياره اختيارا دقيقا، أو أن الجن لم يكونوا راضين لسبب أو لغيره… إلى آخر الأعذار الكاذبة التى لا ينغلق لها باب. فهذا هو السحر، وهذه ثماره السامة.

كلام عن السحر والسحرة (3 من 5)


أما العلم فهناك ما يسمى بـ”الحقن المجهرى”، وكثيرا ما ينجح، وتحمل الزوجة وتأتى الأطفال على النحو الشرعى الحلال عن طريقها هى وزوجها فعلا دون دجل أو شعوذة أو ارتكاب ما يسخط الله سبحانه. ثم يا ترى من الذين اكتشفوا هذا الطريق العلمى الآمن المؤدى إلى حصول الحمل فى كثير من الحالات؟ إنهم العلماء فى الغرب، واكتشفوه بعد تجارب مضنية واجتهادات طويلة مخلصة، والبركة بعد الله فى العقل والعلم والمعامل والأدوية والاختبارات. وكنا نحن المسلمين أجدر أن نكون مكتشفى هذا الطريق، ولكن كيف نأمل فى ذلك، وقد كرهنا العلم وكل ما يتعلق به سوى ما يسمى بـ”العلم الشرعى” عند ضيّقى الأفق، مع أن العلم الشرعى هو كل علم تعرفه البشرية ما دام يؤدى إلى حل المشاكل وراحة الناس وتخليصهم من متاعبهم وأمراضهم وتحقيق مطالبهم وإشباع حاجاتهم، وما دام مراعًى فيه أوامر الدين ونواهيه؟ إلا أن المتخلفين يفضلون طريق الدجل والشعوذة تفضيلا عظيما.
ثم أمامى الآن كتاب صدر فى أمريكا عام 1910م عن السحر بعنوانMagic” ” لمؤلفه Ellis Stanyon، وفيه يشرح الكاتب كيف يمكن أى إنسان تعلم فنون الخداع السحرى بالكف والمنديل والقبعة والكرة وعلى المسرح وفى الجو المعتم… إلخ. أى أن المسألة تعتمد على التعلم أولا، وعلى الخداع ثانيا، وليس فيها جن ولا عفاريت ولا تعازيم ولا رُقًى ولا تغيير لطبيعة شىء على الإطلاق، بل الأمر كله منحصر فى خفة اليد والقدرة على إيهام مَنْ أمامك بأنك تمارس السحر. ومع أنه من الواضح التام الوضوح أن من يدَّعون عمل السحر ليسوا أكثر من كذابين دجالين بدليل أنهم يمدون أيديهم ويأخذون ما يعطيهم إياه الناس من فلوس، ولو كانوا سحرة حقا لاستطاعوا الحصول على ما يريدون من أموال بما يمارسونه من سحر دون أن يحتاجوا إلى ما عند الآخرين، فإن التخلف غرام شديد عند كثير من البشر بحيث إنهم لو انكشفت عن عيونهم وبصائرهم الغشاوة لماتوا أو حُمُّوا فى الحال ولما أفلح معهم طب ولا علاج ولا دواء. وعبثا تقول لهم: ثور، فيأتيك جوابهم فى الحال: احلبوه!

كلام عن السحر والسحرة (2 من 5)


وفى يدى أيضا الآن كتاب للدكتور بول غليونجى اسمه “طب وسحر” يتناول تطور الفكر البشرى من السحر إلى الطب، أو قل: من السحر إلى العلم، ومنه يتبين لنا أن السحر فى البدايات الأولى كان هو العنصر السائد فى الحياة البشرية بل هو الكل فى الكل، ثم كانت بعض لمعات ضئيلة محدودة جدا من العلم تتسلل إلى الميدان على استحياء وضعف وشحوب شديد، ثم تتالت اللمعات شيئا فشيئا، وكلما زادت واتسعت مساحة العلم قلت رقعة السحر بنفس النسبة… وهكذا حتى صار الغرب اليوم يتنفس علما، اللهم إلا بعض بقايا من التعلق بالسحر بعيدا عن ميدان الحياة العامة بما لا يؤثر على التفكير العلمى ولا يعوقه ولا يفكر فى الحلول محله. وحتى هذه البقايا القليلة يعمل الغرب دائما على أن يتناولها ويتعامل معها تناولا وتعاملا علميا ولا يسلم نفسه إسلاما أعمى غبيا للجهل والاعتقاد فى السحر والخرافة كما نرى فى الشعوب المتخلفة التى لا تريد أن تخرج من بين أطباق الظلام إلى النور والنظافة والعلم والنظام وممارسة الحياة على أساس من قوانين الطبيعة التى أجرى الله كونها على أساسها لا على أساس الخزعبلات التى لا حقيقة لها.

كلام عن السحر والسحرة (1 من 5)


وديننا هو دين العلم بامتياز حسبما وضحت وشرحت وبينت، بل هو الدين الوحيد الذى يقوم على العلم ويدعو إلى احترام العقل وتشغيله والانتفاع بعمله ويحثه على طلب الدليل وإبدائه فى كل نقاش وجدال. فماذا ينتظر المسلمون بعد هذا كله؟ أَمَا إنّ أمر كثير من المسلمين لعجيب! أيظنون أنهم سوف ينجون وينجحون بما يعشش فى أذهانهم من خرافات وخزعبلات؟ إن التاريخ يقول بملء فمه وبصوته العالى إن كل من تمسك بالخرافات والشعوذات كان مصيره الهوان والضياع، وربما الفناء. إن الحياة لا تهزل ولا تلعب بل هى جِدٌّ مُرٌّ، والعلم هو الأداة الوحيدة للانعتاق من التخلف والضعف والضياع، مع العمل الجادّ طبعا وإتقانه والحرص على النظام والتخطيط، وقبل ذلك كله الإيمان بالله واستمداد العون منه والإيمان بأن العقل الذى وهبه سبحانه وتعالى لنا إنما وهبه لنشغِّله ونستعمله لا لنخلعه ونرمى به فى غرفة الكرار أو فى أكوام الزبالة، وإلا فإن الحساب سيزداد عسرا وعناء لا فى الدنيا فقط كما نرى ونقاسى بل فى الآخرة كذلك. إن المسلمين الذين يتمسكون بالخرافات والخزعبلات إنما يسيرون عكس تيار الحياة، فالتاريخ يخبرنا أن العلم كان ينسخ السحر قليلا قليلا حتى صارت له السيادة الآن، لكن أولئك المسلمين يقلبون الأوضاع رأسا على عقب بعملهم على إحلال السحر محل العلم. إن هذه ردة حضارية وثقافية وقبل ذلك: دينية. إنها ضد الإسلام كما نعرفه من كتاب ربنا جل وعلا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى