بحوث ودراسات

ملامح الفكر السياسي المستند إلى الوهابية (6 من9)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب


تغيُّر جذري في علاقة ابن سعود بالإخوان: انقلاب على المبادئ وتنصُّل من الوعود
عرفنا أنَّ ابن سعود ما كان ليحقق الانتصار العسكري المؤزَّر إلَّا من خلال رفع رايَّة الجهاد، واستقطاب الإخوان وفق مبدأ نشر العقيدة الإسلاميَّة الصَّحيحة، كما عرفنا أنَّ ابن سعود تعاوَن مع الإخوان وفق خطَّة وضعتها أيادي الاستعمار البريطاني، المتحكِّمة في المشهد من وراء الستار. ولمَّا برزت علاقة ابن سعود ببريطانيا، الَّتي حدَّدتها معاهدة دارين، إلى السَّطح، شعر الإخوان، الَّذين لم يكونوا على علمٍ بها من الأصل، بالحرج بالالتزام بالولاء لإمام يدين بالولاء للاستعمار الأجنبي، ويُطلق يده في شؤون المسلمين. بدأ الانشقاق بين ابن سعود وعناصر انتصاره في توحيد جزيرة العرب تحت حُكمه، بعد السَّيطرة على الحجاز، وطرد الهاشميين منها؛ والسَّبب، كما يقول الكاتب، هو أنَّ الحرب على الحجاز كانت تحت شعار ‘‘تحرير الحجاز من الكفَّار والمشركين’’، إلَّا أنَّ ابن سعود ما لبث أنَّ غيَّر من لهجته تجاه أهل الحجاز، واعتباره إيَّاهم ‘‘مسلمين’’، كما يشير خطابه إليهم. ما ضاعف من توتُّر علاقة ابن سعود بالإخوان، عزوفه عن مواصلة حربه التطهيريَّة لجزيرة العرب ومحيطها من مظاهر الشِّرك والابتداع، بالذَّات في الأردن والكويت والعراق، بالإضافة إلى تخلِّيه عن نبرة التكفير تجاه الشِّيعة في المنطقة الشَّرقيَّة، والتساهل في التَّعامل مع شيعة البلدان المجاورة. ويعتبر الكاتب أنَّ توقُّف البدو من الوهابيين عن القتال تحت شعار الجهاد وتطهير أرض الإسلام من مظاهر الشِّرك بمثابة حُكم إعدام، وصار عليهم “إمَّا الالتزام بقرار ابن سعود وانتظار الموت جوعًا في الصحراء، أو التمرد على القرار ومواصلة (الجهاد)، والفتوح والحصول على الغنائم” (صـ194-195).

اقرأ: ملامح الفكر السياسي المستند إلى الوهابية (5من 9)


بدأ ابن سعود سياسة التخلُّص من الإخوان من خلال استصدار فتوى تحصر في يده صلاحيَّة اتِّخاذ قرار بالجهاد، لكنَّ الإخوان لم يرضوا بذلك، وشنُّوا حملة جهاديَّة في العراق، وبدأ لعابهم يسيل على الغنائم، كمل يصوِّر الكاتب، واستأذنوا ابن سعود في مواصلة الحملات الجهاديَّة، لكنَّ الأخير رفض، ومن هنا ازداد التوتُّر مع إصرار كلِّ طرف على رأيه. أدَّى استمرار حملات الإخوان المستهدفة العراق تحديدًا، حيث يتركَّز وجود الشِّيعة، إلى اعتقال ابن سعود لبعض قيادات الإخوان، مما أشعل ضدَّه حملة تشهيريَّة. فكما أورد هارولد ديكسون في كتابه الكويت وجاراتها، وصف الإخوان ابن سعود بأنَّه “أداة في أيدي الإنجليز” (جـ1، صـ307). وينقل ديكسون في نفس الكتاب نصَّ قول الإخوان لابن سعود بشأن تغيُّر سياسته عن النهج الَّذي تحالف معه على أساسه “أنت كإمام كنت تدعو إلى الجهاد ضد الكفار والمشركين، ولطالما دعوت وكررت الدَّعوة إلى أنَّ العراق كدولة شيعيَّة يجب أن يدمَّر، وأن كل ما يؤخذ من أهله حلال…والآن وبأمر من الإنجليز الكفار أنفسهم تدعونا نحن فرسانك المختارين سيوف الإسلام إلى إعادة ما أخذناه…فإمَّا أن تكون أنت دجال منافق تحب ذاتك وتبحث عن منفعتك، وإمَّا أن يكون القرآن كتابًا غير صحيح” (صـ314). وهنا شعر ابن سعود بوقوع في شَرَك لا خلاص منه، خاصَّة بعد أن طلب الإخوان الاحتكام إلى كتاب الله للفصل بين الطَّرفين، ولم يكن أمامه سوى المضي معهم، وإلَّا افتضحت حقيقة استغلاله شعارات الوهَّابيَّة زورًا لتحقيق مصالح فرديَّة، هي تأسيسه مملكة تسيطر على جزيرة العرب، تخدم مصالح فرديَّة أخرى، هي إحكام سيطرة الاستعمار الغربي على جزيرة العرب ومحو فكرة تأسيس خلافة فيها، ولو على يد أعوانهم الهاشميين، ممن انتقلوا إلى العراق وشرق الأردن لاحقًا. نشأ إثر ذلك جدل تشريعي، حاول كلُّ طرف إثبات أنَّه على صواب، استنادًا إلى أدلَّة شرعيَّة ساقها. غير أنَّ إيمان ابن سعود بأنَّ الحُكم للغلبة والقوَّة النَّافذة كان سيِّد الموقف، فقد روى عنه أمين الرِّيحاني في كتاب ملوك العرب قوله “إنَّ العشائر لا يفهمون إلَّا بالسَّيف. وإلَّا فهم يركبون على ظهر الحكومة، ويسوقونها والبلاد إلى مهاوي الخراب” (صـ555).

تابعنا في فيسبوك


ويعتقد الكاتب أنَّ حلَّ استخدام القوَّة كان الأنسب؛ لأنَّ تعاوُن ابن سعود مع الإخوان لم يكن على أساس الشُّورى والتفاهم الجدلي، إنَّما على أساس القوَّة. وبالفعل، شنَّ ابن سعود حملة تأديبيَّة للمعارضين من مشايخ الوهَّابيَّة، من بين العزل من الخطابة، والتعذيب، كما استخدم خطاب التَّهديد، في رسائل وجَّهها إليهم، حذَّرهم فيها من الانسياق فتاوى هدَّامة خارج إطار هيئة العلماء المساندة له. غير أنَّ ذلك لم ينجح في السَّيطرة على الإخوان والحد من تهديدهم حتَّى مع استصدار فتاوى تعتبرهم خوارج ومتمردين وغلاة، خاصَّة مع أخذ قوَّتهم العسكريَّة الهائلة في الاعتبار. هنا تدخَّلت بريطانيا في منع البلدان الَّتي لجأ إليها مشايخ الوهَّابيَّة الهاربين، من مساعدتهم. هكذا، حمى المستعمر البريطاني عرش ابن سعود، وحوَّل الوهَّابيَّة من “حركة عقائديَّة طامحة إلى فتح العالم الإسلامي ‘‘المشرك’’، ونشر التَّوحيد فيه، إلى مؤسَّسة دينيَّة تابعة للدَّولة السَّعوديَّة”، على حدِّ قول الكاتب (صـ206).
دور مشايخ الوهَّابيَّة في السِّياسة
لم تكن علاقة النِّظام الحاكم في المملكة العربيَّة السَّعوديَّة بالمؤسَّسة الدِّينيَّة الوهَّابيَّة مقنَّنة، وقد رأينا أنَّ الملك المؤسس، ابن سعود، استعان بتلك المؤسَّسة في منح الشَّرعيَّة للتخلُّص من الإخوان لمَّا رأى خطرهم على عرشه، وهم الَّذين أوصلوه إليه من الأصل، واستنادًا إلى فتوى من مشايخ الوهَّابيَّة. لهذا السَّبب، يرى الكاتب أنَّ تدخُّل مشايخ الوهَّابيَّة في الحُكم يكون بطلب من النِّظام الحاكم، “في الظروف الحرجة عندما يحتاج الى الشَّرعيَّة الدِّينيَّة”، مضيفًا أنَّ المشايخ لم تُعرف عنهم معارضة أحكام الملك، بل ظلُّوا يوظِّفون الفتاوى بحسب موقف النِّظام الحاكم، بهدف تسيير الشَّعب على رغبة الحاكم وضمان عدم تذمُّره (صـ234). وكان العزل من المنصب أو تجميد العضويَّة في هيئة كبار العلماء مصير كلِّ مَن خالف إرادة الحاكم، ويضرب الكاتب المثل في ذلك بما حدث مع الشَّيخ عبد الله بن قعود والشَّيخ حمود بن عقلاء الشَّعيبي، عندما اعترضا على الاستعانة بقوَّات أجنبيَّة في حرب الخليج الأولى عام 1991م.
أخيرًا، يحدد الكاتب مكمن الخطر في عقيدة الوهَّابيَّة، وهو تكفير المسلمين وتطوير مفهوم جديد للتوحيد، هذا إلى جانب الركون إلى الغَلَبة والقوَّة، بدلًا من الشُّورى، في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين. ولا يجد الكاتب حلًّا لهذه الأزمة إلَّا بإعادة النظر في أساسيَّات الفكر الوهَّابي العقائديَّة، معتبرًا ألَّا سبيل إلى التقدُّم والإصلاح الدَّاخلي إلَّا بالتَّخلِّي عن الوهَّابيَّة.
موقف السِّياسة السَّعوديَّة الجديدة من الوهَّابيَّة: تبرُّؤ تام
أجرت مجلَّة تايم الأمريكيَّة حوارًا مع ولي العهد السَّعودي، الأمير محمَّد بن سلمان، خلال زيارته الرَّسمية في مارس من عام 2018م، والَّتي امتدَّت إلى ثلاثة أسابيع كاملة، لتكون بذلك من أطول الزيارات الرَّسمية لمسؤول أجنبي إلى الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، تزامنًا مع وصول نسبة عدم ثقة الأمريكيين في السَّعوديَّة، وفق إحصاء لشركة غالوب للبحوث الإحصائيَّة، أشار إلى أنَّ 55 بالمائة من الأمريكيين لا يرضون عن المملكة. وكان من بين ما سُئل عنه الأمير الشَّاب، في سياق حديثه عن التغييرات الشَّاملة الَّتي يواصل إحداثها على المستوى الثَّقافي، عن خطورة إجراء تعديلات من هذا النوَّع قد تثير رد فعل سلبي من الوهَّابيين.
وبرغم ما سبق استعراضه من تضافُر جهود الحركة الوهَّابيَّة الدَّعويَّة مع قدرات آل سعود القتاليَّة في تأسيس الدَّولة السَّعوديَّة، في أطوارها الثَّلاثة، تبرَّأ الأمير الشَّاب من الوهَّابيَّة، بادئًا ردَّه بتساؤله التَّعجُّبي “وما هي الوهَّابيَّة؟ علينا أن نوضح ماذا تعنيه الكلمة أوَّلًا؛ لأنَّه لا يوجد شيء اسمه الوهَّابيَّة”، معتبرًا أنَّ الحركة الَّتي تعاونت مع الملك المؤسس في توحيد جزيرة العرب تحت سُلطته مطلع القرن العشرين، “إحدى الأفكار الَّتي اختلقها المتشدِّدون في أعقاب عام 1979م؛ لكي يفرضوا على السَّعوديين فِكرًا لا ينتمون إليه”، ويقصد حادثة احتلال الحرم المكِّي على يد جماعة جهيمان العتيبي، كما سبقت الإشارة. أضاف ولي العهد السَّعودي أنَّه لا يوجد ما يُسمَّى ‘‘الوهَّابيَّة’’ في بلاده، وأنَّ المسلمين هُناك إمَّا من أهل السُّنَّة أو من الشِّيعة، ولكلٍّ مذاهبه الفقهيَّة، ويعيش الطَّرفان جنبًا إلى جنب. أمَّا عن مصادر التَّشريع، فهي القرآن الكريم والأحاديث النَّبوية.
بعد إشارته إلى أنَّ الدَّولة السَّعوديَّة الأولى تأسست قبل قرابة ثلاثمئة عام، شهدت تغييرات ملحوظة أدخلتها نُظُم الحُكم الخاصَّة بكل مَلك من أسرة آل سعود، يوضح ولي العهد السَّعودي أنَّ جانبين يتولَّيان التَّرويج لانتماء المملكة للفكر الوهَّابي. الجانب الأوَّل هو المتشدِّدون، الَّذين لا تروق لهم التَّحديثات الطارئة على البلاد، ويتمسَّكون بالماضي؛ أمَّا الثَّاني، فهو النِّظام الحاكم في إيران، الَّذي يجتهد في إشاعة أنَّ السَّعوديَّة تنتمي إلى طائفة دينيَّة تختلف عن البلدان المحيطة، لعزلها عن العالم الإسلامي. غير أنَّ الواقع يثبت خلاف ذلك، لأنَّ هيئة كبار العلماء، على حدِّ وصف الأمير محمَّد بن سلمان، تضمُّ علماء يطبِّقون مختلف الآراء الفقهيَّة.
سبقت الإشارة في الدِّراسة السَّابقة إلى ترحيب الإعلام الخليجي بصورة عامَّة، والسَّعودي بصورة خاصَّة، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ للاستفادة من منجزاتها في مجال تطوير التقنيات الحديثة. وقد تقدَّم رئيس رابطة الطيارين الإسرائيليين بدعوة إلى ولي العهد السَّعودي، الأمير محمَّد بن سلمان، والطيارين السَّعوديين للمشاركة في مؤتمر للطيران، هو الأهم على مستوى الشَّرق الأوسط، وفق ما جاء في افتتاحيَّة نشرتها صحيفة جيروساليم بوست الإسرائيليَّة في 17يناير من عام 2019م.


يبدأ الطَّيَّار الإسرائيلي بالتَّعريف بنفسه، وبعمله السَّابق لدى الخطوط الجويَّة الإسرائيليَّة، والحالي لدى شركة أل عال، أكبر شركة إسرائيليَّة للنقل الجوي. ينتقل كاتب الافتتاحيَّة بعد ذلك إلى مداعبة ولي العهد السَّعودي، بالإشارة إلى تقارُبهما في العُمر، وهو متوسط عُمر الطَّيَّارين العاملين لدى شركات الطَّيران المدني، مضيفًا أنَّه يمكن الاتفاق على أنَّ الطيَّارين في عمرهما من المحتمل جدًّا أن ينعموا بفرصة الاستفادة من التطوُّرات الجيوسياسيَّة في المنطقة، الَّتي من شأنها أن تسمح لهم بالتحليق فوق السَّعوديَّة، بعد المرور في الأجواء الأردنيَّة، في طريقهم إلى قطر، ومنها إلى الهند.
يشير الطيَّار صاحب الدَّعوة، إلى أنَّ بلديهما تأويان مقدَّسات إسلاميَّة، والعربيَّة هي المستخدمة فيها، وإلى أنَّ كافَّة الطَّائرات السَّعوديَّة والإسرائيليَّة تُصنَّع في مكان واحد، وهو أمريكا، وإلى التقاء البلدين في المؤتمرات والمناورات العسكريَّة، وهي فرص للتقارب واكتشاف كلِّ طرف مدى بساطة الآخر وحميميَّته. يتصافح الطَّرفان، ويبتسم كلٌّ في وجه الآخر، بلا خوف من مشاركة الآراء السِّياسيَّة، أو آمال الوصول إلى مستقبل أفضل. ويختتم الطيَّار دعوته بقوله إنَّ معظم جسور العالم تُبنى من الحديد والصُّلب، وأمام السَّعوديَّة وإسرائيل فرصة لبناء جسر من الشَّجاعة والرؤيَّة، وهما أقوى من المواد الصَّلبة. يفتح الآلاف من أعضاء رابطة الطيَّارين الإسرائيليين أبوابهم أمام قرنائهم السَّعوديين، وأبراج المراقبة في مطار تل أبيب على استعداد للسماح لهم بالهبوط، وسنكون في مدرج الهبوط لاستقبالكم عند الوصول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى