بحوث ودراسات

ملامح الفكر السياسي المستند إلى الوهابية (5من 9)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

جزء 5
موقف الإمارة الوهَّابيَّة من الدَّولة العثمانيَّة
حاولت الدَّولة العثمانيَّة مهادنة الأمير سعود بن عبد العزيز، حفيد محمَّد بن سعود، محالِف الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، والتنازل إليه في مقابل الصُّلح، لكنَّ سعود رفض التنازل في مقابل الأموال والعطايا عن قبول الدَّولة العثمانيَّة الالتزام بصحيح الإسلام، والتَّخلِّي عن الملَّة الصُّوفيَّة. وقد أرسل الأمير سعود إلى والي بغداد، المؤيِّد لموقف السُّلطان العثماني، رسالة يقول فيها أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الدَّافع وراء حملته، معتبرًا أنَّ غير الملتزمين بصحيح رسالة النَّبي (ﷺ) ممن أدخلوا عليها البدع والعقائد الوثنيَّة، من الكفَّار والمشركين، ويصدق فيهم ما قال الله تعالى في اليهود والنَّصارى.
وكما جاء في نصِّ رسالة الأمير سعود إلى والي بغداد، كما وردت في كتاب الدُّرر السنيَّة والأجوبة النجديَّة (جــ1، صـ304-313)، قال سعود أنَّ في أوج زمن غربة الإسلام وانتشار المحدثات، “لا تزال طائفة من العصابة المحمديَّة بالحقِّ قائمين، ولأهل الشِّرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”، مضيفًا أنَّ الحُجج الَّتي ساقها علماء الصُّوفيَّة أثبت فقهاء الوهَّابيَّة بطلانها، وأنَّ تكفير الوهَّابيَّة لمتَّبعي بعض الممارسات الباطلة ليس جزافًا، وإنَّما يستند إلى أدلَّة شرعيَّة، وفي هذا قال “نحن بحمد الله لا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب، وإنما نكفِّرهم بما نص الله ورسوله وأجمع عليه علماء الأمَّة المحمَّديَّة”. وكما أوردها الكاتب (2011م)، يوجز الأمير سعود بن عبد العزيز جداله في هذه الفقرة التَّالية (صـ153):

اقرأ: ملامح الفكر السياسي المستند إلى الوهابية (4من 9)


قد قدَّمنا أنَّنا لا نكفِّر بالذُّنوب، وإنَّما نقاتل ونكفِّر مَن أشرك بالله وجعَل لله ندًّا…فإن كنت صادقين في دعواكم: (أنَّكم على ملَّة الإسلام ومتابَعة الرَّسول ﷺ فاهدموا تلك الأوثان كلَّها وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله من جميع الشِّرك والبدع، وحقِّقوا قوله: (لا إله إلَّا الله). ومَن صرف عن أيِّ نوع من أنواع العبادة لغير الله من الأحياء والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرِّفوه أنَّ هذا مناقِض لدين الإسلام ومشابهة لدين عبادة الأصنام، فإن لم ينتهِ عن ذلك إلَّا بالمقاتَلة، وجَب قتاله، حتَّى يكون الدِّين كلُّه لله…
فإن فعلتم ذلك فأنتم إخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا، يحرم علينا دماؤكم وأموالكم. وأمَّا إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشِّرك الَّذي أنتم عليه وتلتزموا دين الله الَّي بَعَث به رسوله، وتتركوا الشِّرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقاتلكم حتَّى تراجعوا دين الله القويم وتسلكوا طريقه المستقيم.
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّين كُلُّهُ لِلَّهِ﴾
وما كان من السُّلطان العثماني إلَّا أن أوعز إلى والي مصر حينها، محمَّد علي باشا، بالهجوم على الحجاز والنجد، في ظلِّ السَّيطرة شبه الكاملة للإمارة الوهَّابيَّة، ولكنَّ هذا لم يثنِ الأمير عبد الله، بن الأمير سعود وخليفته، عن الالتزام بالفكر الوهَّابي، كما لم يدفعه إلى إعلان الولاية للسلطنة؛ فكان مصيره الإعدام. وعن سقوط الدَّولة السَّعوديَّة الأولى، يقول الكاتب أنَّ سببه الأساسي الاستناد إلى القوَّة والتَّهديد المسلَّح، وهذا لا يفلح في تأسيس دولة دينيَّة؛ “إذ أنَّ السَّيف وحده لم يكن ليشكل يومًا أساسًا لدولة، وإنَّ الشَّعب الَّذي يخضع لحركة قويَّة قد يقبل بها مؤقَّتًا، ولكن رفض الشَّعب لها سيكون سلبيًّا وعنيفًا في المستقبل” (صـ154). ويؤيِّد محمَّد جلال كشك هذا الرأي في كتابه السَّعوديون والحل الإسلامي، القائل بأنَّ نشر العقيدة الصَّحيحة لا يمكن أن يستند إلى السَّيف، بل إلى استمالة القلوب.

تابعنا في فيسبوك


الوهَّابيَّة ودورها في تأسيس الدَّولة السَّعوديَّة الثَّالثة
يعتبر الكاتب أنَّ الوهَّابيَّة كان أكثر العوامل الدَّاعمة لتأسيس الدَّولة السَّعوديَّة الأولى منتصف القرن الثَّامن عشر، لكنَّ هذا لا ينطبق أبدًا على الدَّولة الثَّالثة، الَّتي تأسست بتشجيع الاستعمار البريطاني لعبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن سعود، الملك المؤسس، على غزو نجد والأحساء وحائل والحجاز، وإعلان جزيرة العرب مملكة موحَّدة عام 1932م. ويقول الكاتب عن بدايَّة تعاوُن الملك المؤسس مع البريطانيين “ابتدأت علاقة الملك عبد العزيز بن سعود مع بريطانيا في الكويت، عندما كان يعيش فيها لاجئًا مع أبيه (عبد الرحمن بن فيصل بن سعود) آخر إمام في الدَّولة السَّعوديَّة الثَّانية” (صـ176). وبعد سيطرة عبد العزيز آل سعود، أو ابن سعود، على إمارة نجد، بالقوَّة والغَلَبة المعهودة لدى أمراء الوهَّابيَّة، على حد وصف الكاتب، وقَّع مع بريطانيا في ديسمبر من عام 1915م معاهدة دارين، منح فيها المستعمر البريطاني الحق في التدخُّل في شؤون الحُكم في إمارته، والإشراف على علاقاته الخارجيَّة، وإتاحة المجال للهيمنة الاستعماريَّة على الخليج.
والمفارقة أنَّ هذا التَّعاون مع القوى الغربيَّة المسيحيَّة صاحب تحالُف جديد مع مشايخ الوهَّابيَّة، بزعامة الشَّيخ عبد الكريم المغربي، وبدأت حملة دعويَّة جديدة تنشر الفكر الوهَّابي، وتنصح النَّاس بالعودة إلى صحيح الدِّين، والهجرة إلى القرى والواحات البعيدة عن مظاهر الابتداع والإحداث في الدِّين، الَّتي سُمِّيت ‘‘يثربيَّات’’، وهو اسم مُشتق من اسم المدينة المنوَّرة قبل هجرة النَّبي الكريم (ﷺ)، وهو يثرب. ويأتي تعليق جديد من الكاتب (2011م)، يجدِّد في اتِّهامه لأتباع الوهَّابيَّة باستغلال الدِّين في تحقيق مصالح دنيويَّة، وبالحُمق والاندفاع (صـ184):
وقد تفاعَل البدو الَّذين اعتادوا على الغزو والنَّهب والقتل في الصَّحراء، مع العقيدة الوهَّابيَّة الَّتي كانت تبرِّر لهم ذلك بما تصوِّره لهم من أنَّهم وحدهم “المسلمون” وأنَّ غيرهم “كفَّار ومشركون” لا حرمة لدمائهم وأموالهم وأعراضهم، وأنَّهم يمارسون في غزوهم الجهاد في سبيل الله.
استغلَّ ابن سعود النَّزعة الاندفاعيَّة، الَّتي يصفها الكاتب، لدى أتباع الوهَّابيَّة، الَّذين عُرفوا أيضًا بالإخوان، في تنفيذ مخططاته التَّوسُّعيَّة في جزيرة العرب؛ بسبب سهولة إخضاعهم للانصياع إلى أوامره، بناءً على مبدأ السَّمع والطَّاعة للإمام القائد. ويقول جون فيلبي، أو فيلب العرب، وهو مستشار للملِك المؤسِّس، كان في الأصل مستكشفًا بريطانيًّا وضابط استخبارات لدى مكتب المستعمرات البريطاني، أنَّ بريطاني تدخَّلت في تأسيس جيش الإخوان، القوَّة الباطشة لابن سعود في محيطه. وكما تكشف موسوعة ويكيبيديا عن دور فيلبي، فقد كان مكلَّفًا بتحديد أجور العناصر المشاركة في الحروب التَّوسُّعيَّة في جزيرة العرب، والَّتي كانت لها مهمَّتان أساسيتان: الأولى هي محو الوجود العثماني من المنطقة من خلال الثَّورة العربيَّة الكبرى، والثَّانية كانت حمايَّة آبار النَّفط بالقرب من البصرة وشط العرب. واعترف فيلبي في كتابه تاريخ آل سعود، أنَّ إحياء الوهَّابيَّة كانت من بين مهامِّه، خاصَّة في تنظيم غزو إقليم الحجاز، وانتزاع الحرمين من شريف مكَّة، الحسين بن عليٍّ، الَّذي ربطته بابن سعود عداوة متأصِّلة تعود إلى زمن سقوط الدَّولة السَّعوديَّة الأولى، واستعادة الهاشميين حُكم الحجاز بعد إعدام عبد الله بن سعود. وينقل محمَّد جلال كشك في كتابه السَّعوديون والحل الإسلامي قولًا يُنسب إلى ابن سعود، قاله لجون فيلبي “يكفي أن أصدر النداء ليهب للقتال تحت رايتي ألوف من بيشة إلى نجران ومن رانيَّة إلى تثليث وغيرها، ليس فيهم من لا يحب الموت في سبيل العقيدة، وكلهم يؤمنون بأنَّ الفرار من الزحف يُدخلهم النار” (صـ395).


يشير الكاتب إلى مفارقة جديَّة بالذِّكر، وهي خلو الخطاب السَّعودي بعد غزو ابن سعود نجد وتسلُّمه إمارتها مطلع القرن العشرين، من الفكر التكفيري، لكنَّ الأمر اختلف تمامًا بعد تكوين جيش الإخوان، وتبنِّي ابن سعود الحركة الوهَّابيَّة عام 1916م. وقد دوَّن الشَّيخ سليمان بن سحمان، أحد مشايخ الوهَّابيَّة كان مُكلَّفًا تعبئة جيش الإخوان، رأيه في مُعتقد العرب في زمانه في كتابه منهاج أهل الرَّأي “إنَّ مَن في جزيرة العرب لا نعلم ما هم عليه جميعهم، بل الظاهر: أنَّ غالبهم وأكثرهم ليسوا على الإسلام، فلا نحكم على جميعهم بالكفر لاحتمال أن يكون فيهم مسلم. وأما من كان في ولاية إمام المسلمين فالغالب على أكثرهم الإسلام لقيامهم بشرائع الإسلام الظَّاهر” (صـ79). واستمرَّت نظرة الوهَّابيَّة إلى الشِّيعة باعتبارهم ‘‘روافض’’، وقد أصدر الشَّيخ محمَّد بن عبد اللطيف آل الشَّيخ، حفيد الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، والقاضي والمستشار الدِّيني في عهد ابن سعود، مطلع عام 1927 بيانًا، بمشاركة أربعة عشر عالمًا، يقضي بإلزام الشِّيعة (الرَّافضة) بالبيعة على الإسلام، وفق العقيدة الوهَّابيَّة، أو النَّفي إلى خارج البلاد، تجنُّبًا لممارستهم شعائرهم الباطلة، بالإضافة إلى منع شيعة العراق من الاختلاط بالمسلمين في جزيرة العرب. ويقول الكاتب أنَّ التكفير لم يقتصر على الشِّيعة وغير المتَّبعين للوهَّابيَّة، إنَّما امتدَّ إلى بعض متَّبعيها، ممن لن يبدوا التزامًا كاملًا بقواعدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى