ثقافة وأدب

الخطّاط.. صاحب الدراجة

تليد صائب

أديب سوري
عرض مقالات الكاتب

قبلت دعوة أحمد لشرب (كازوزة) في الكشك الذي ساعده أهله على شرائه والعمل به.

أحمد زميلي في الدراسة في المرحلة الإعدادية، أمضى أربعة عشر عامًا في معتقلات النظام وكان ذنبه أنه فتح باب بيت أهله لشخص رن الجرس، واختفى تاركًا رسالة على باب البيت..

وجدت الرسالة (وليتني لم أجدها) أدخلتها البيت وفتحتها، ظننت -وأنا المراهق وقتها – أنها رسالة من ابنة الجيران.. طرت بها فرحًا، لأطير بعدها بسببها من بيت أهلي إلى المعتقلات ! ويطير النوم من عيني وعيون أهلي لسنوات، كانت الرسالة من شقيقي المطلوب للنظام والذي استطاع الفرار للعراق عبر نهر الفرات، يخبرنا بوصوله سالمًا.

أربعة عشر دهرًا أمضاها أحمد ابن الرابعة عشرة، عذّبوه كثيرًا، وتنقل من معتقل لآخر بدءًا بفرع الأمن العسكري بدير الزور وصولًا إلى تدمر مرورًا بفرع فلسطين وفرع التحقيق، لكن الأسوأ كما قال لي: حين كان يستدعى من سجنه بالأمن العسكري إلى المخابرات الجوية أو أمن الدولة،للتحقيق معه … 

-: عندها يا صديقي، ستتمنى لو أن أمك لم تنجبك،بل تحقد عليها وعلى والدك لأنهما سبب مجيئك للحياة،حيث يحاول المحققون بالمخابرات الجوية وبأمن الدولة أن ينتزعوا منك اعترافاتٍ لم تقلها بالأمن العسكري، ليتفاخروا أمام رؤسائهم أنهم وصلوا لمعلومات لم تصل إليها الشعب الأمنية الأخرى، أمضي فترة بضيافتهم (الخمس نجوم) ثم أعود للأمن العسكري فأنا من (أملاكهم).

التقيته بعد خروجه من معتقله في خيمة عزاء ابن عمه،لم أكن أعرف أنه خرج أخيرًا، نظر إليَّ.. ثم ركض وعانقني عرفته حين ضمني إلى صدره،بكى وبكيت معه.. شعره الأبيض و تجاعيد وجهه لا توحي أنه ابن ثمانية وعشرين عامًا. 

رآني وهو على باب (الكشك) الصغير يرش الماء أمامه قبيل غروب الشمس بقليل، ابتسم وأصرَّ أن أجلس معه لشرب (كازوزة ستيم) باردة، قال لي: كنت مستعدًا لدفع نصف عمري لآخذ رشفةً منها وأنا بالمعتقل، كانت تخطر ببالي كثيرًا اشرب يا صديقي واستمتع, ودعني استمتع بها وبمجالستك..

صفو جلستنا قطعته سيارة المرسيدس الزرقاء الفاتحة التي وقفت قربنا، كلانا نعرف السيارة كما يعرفها كل أبناء الدير، ونعرف من صاحبها، ولمن تعود ملكيتها.

-: ماذا يفعل رئيس فرع المخابرات الجوية أمام الكشك؟! أنا متأكد أنه هو لضخامة جسده وكبر رأسه، لابدّ أنه ينتظر أحدا مهما.

ضحك أحمد على استنتاجي.. نعم مهم جدًا وجدًا.. ضباط الأمن يا صديقي همهم بالدنيا بعد الولاء لولي نعمتهم، أمران أن يمتلئ الجيب وأن يشبعوا غرائزهم، إنهم ذكور وليسوا رجالًا، يعذبون المعتقل ويضطهدون المواطن ويبحثون عن النساء لإثبات رجولتهم التي يعرفون بقرارة أنفسهم أنهم لا يمتلكونها.

صدق أحمد.. فالشخص المهم جدًا وجدًا. أقبلت من بعيد ببنطالها الجينز والتيشيرت الأبيض،تتبختر بمشيتها كطاووس، وهي ترى العميد الذي يقف العشرات من الضباط والآلاف من المدنيين أمامه خوفًا ورعبًا، يقف ككلب جائعٍ ينتظر وصولها. مشيتها تغيّرت وسرعتها ازدادت قليلًا حين ظهر جارها ابن العشرين ربيعًا، على دراجته الهوائية،وصار يلتف حولها بدائرة كبيرة جدًا لتراه على دراجته كعبلة حين ترى عنترة على فرسه.. لم نكن نرى عينيه، لكننا توقعنا منظرهما تسترقان النظر إليها. ولم نرَ عيني العميد لكننا توقعنا أنهما يتقادحان شررًا ..

وصلت (الغزالة) فتحت باب السيارة حركة يديها أوحت لنا بما قالته للحبيب الولهان..

ثوانٍ فقط واستدارت السيارة بالاتجاه المعاكس للسير بسرعة رهيبة وانطلقت باتجاه الدراجة التي لم يجد قائدها بدًا من تركها والقفز على الحاجز الأسمنتي الذي يقسم الطريق طولًا للذهاب والإياب. ويفرّ راكضًا على قدميه..

نزل العميد من سيارته حمل الدراجة بيديه ووضعها بصندوق السيارة الخلفي وانطلق في الظلام..

بعد وقت ليس بالقصير جاء الجار بحذر يبحث عن دراجته، قال له أحمد:

-: أخذها العميد، نصيحة اذهب لبيت جدك ونم عندهم، قد يرسل لكم دورية للبحث عنك نصيحة أخرى لا تحكِ لأحد ما حصل قل لأهلك إن الدراجة سرقت منك!.

حكى لي أحمد قصة جارته هي ابنة رجل بسيط زوجها كان موظفًا بسيطًا يريد الوصول للغنى بأي ثمن بدء يعمل بالتجارة كسمسار يتاجر بالحديد والأسمنت بالسوق السوداء تعرّف على سمسار العميد في مؤسسة العمران التي تبيع الحديد والأسمنت والأخشاب والسيراميك للمواطنين بالسعر النظامي بشرط أن يكون لديهم رخصة بناء وموافقات البلدية والمحافظة وغيرها. تحسّن وضعه المالي حاول أن يتقرب من العميد رئيس فرع المخابرات الجوية عن طريق سمساره، لم يستطع في بادئ الأمر لكن حين سمع العميد بجمال زوجته التقاه بل وقرّبه منه ثم صار يزوره بالبيت أحيانًا، ونشأت العلاقة بين الزوجة (بعلم زوجها) والعميد، وكبرت تجارة الزوج وصار يقضي ويمضي ويتكلم باسم رئيس الفرع، تغيّرت أحواله المادية وصار ميسورًا، ومازال (أعمى) لا يرى العلاقة بين زوجته والعميد.

بعد أيام زرت صديقي وسألته عن حال الجار المسكين وإن كانوا اعتقلوه، فأجابني بالنفي وأن الجار عاد لبيت أهله بعد ثلاثة أيام ولم يتعرض له أحد وأنه عمل بنصيحته ولم يخبر أحدًا بقصة الجارة ولا الدراجة.

كان يوم جمعة،حين حوصرت دير الزور من كل مداخلها ومخارجها الإشاعات ملأت الدير، ثمة من يقول مهربو مخدرات اشتبكوا مع الأمن والحصار لأجل القاء القبض عليهم، وثمة من يقول إنّ مطلوبًا كبيرًا للأمن، يعيش بالعراق دخل الدير خلسة بأوامر من الاستخبارات العراقية للقاء بعض الديريين! 

(يا خبر بفلوس صار بعد يوم واحد ببلاش).. إذ تبين أن جدران الملعب اليتيم بالدير الذي جمع الفتوة وجبلة قد امتلأت كتابات ضد النظام، بل وسبّت ولعنت حافظ الأسد شخصيًا وكل عائلته وأفراد نظامه. واضح أن من قام بكتابة كل هذه العبارات (خطّاط) إذ أن الخطّ وطريقة الكتابة بالفرشاة العريضة لا يمكن أن يقوم بها إنسان عادي، طمس الأمن بالدهان كل الكتابات فقد ألغى الحكم  (مباراة الناشئين) واعتبر الفريقين متعادلين ليعطي عناصر الأمن ساعتين من الزمن مكنتهم  من طمس الكتابة  قبل السماح للجمهور واللاعبين بالدخول بعدها وسط توتر أمني شديد، للعب مبارتي الشباب والرجال.

تم اعتقال كل (الخطّاطين) بدير الزور بل ومن يمتلكون ذوقًا بالخط أو حتى الرسم دون أن يمارسوه حرفةً والتحقيق معهم،بعضهم أمضى أيامًا طويلة قبل إطلاق سراحه، وشارك بالاعتقال كل فروع الأمن (الأمن العسكري والجوي والسياسي وأمن الدولة ) وكل فرع تفنن بتعذيب واستجواب المعتقلين ليصل للفاعل قبل غيره من الفروع.

زرت أحمد بعد أيام، فبادرني بالقول بعد السلام مباشرة:

-:هل تعرف أن الأمن الجوي اعتقل جاري – ما غيره صاحب الدراجة -بتهمة الكتابة على حيطان الملعب ؟!  مع أن خطّه على دفتر المدرسة يكاد لا يقرأ! ولا يزال موقوفًا، ورئيس الفرع شخصيًا هدد والده إن سأل عنه فسيعتقله معه فتهمته خطيرة جدًا، فهي تمس سيادة الوطن!

مضى شهر. ثم آخر ، وثالث ورابع ، ولا خبر عن صاحب الدراجة. بل مضت سنة وسنتان وثلاثة، ولا خبر.

اختفى صاحب الدراجة، ولم يظهر مرةً  أخرى حتى بعد انتقال العميد إلى محافظة ثانية،بل وحتى بعد موت رئيس النظام وتوريث ابنه قيادة المافيا الحاكمة  من بعده.

من يومها حرّمت على نفسي ركوب الدراجة، وملاحقة بنت الجيران حتى بالسيارة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى