مقالات

كلام عن السحر والسحرة (1 من 5)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

مما يلفت النظر فى الحوار الذى جرى بين موسى وسحرة فرعون قوله عليه السلام لهم: “ما جئتم به السحر. إن الله سيبطله. إن الله لا يصلح عمل المفسدين”. ومع وضوح الكلام وسطوع معناه، وهو أن السحر لا يُوَصِّل لشىء، نرى المسلمين فى عصرنا هذا لا العوام وحدهم بل ومعهم كثير من المتعلمين تعليما عاليا يؤمنون بالسحر وجدواه فى تحقيق المنفعة والضرر مراغمين ما يقول القرآن! وأعجب من هذا كله أن المؤمنين بالسحر بمعناه عند العامة يؤكدون أن الإيمان به جزء من العقيدة وأن إنكاره إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة. ترى أَوَلَوْ أنكرتُ أن يكون الناس يسكنون فى بيوتٍ أأكون قد أنكرت معلوما من الدين بالضرورة ما دام القرآن قد ذكر أن الناس تسكن فى بيوت؟ إن مثل تلك الأمور إنما تدخل فى باب الصواب والخطإ المعرفى ليس إلا، ولا صلة بينها وبين الإيمان. ذلك أن الإيمان هو أن نؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، ولا يدخل فى ذلك السحر حتى لو كان السحر يغير طبيعة الأشياء كما يتوهم العامة وأشباه العامة، وهو بطبيعة الحال لا يغير شيئا.

بل إن هناك إصرارا عجيبا على القول بأن النبي عليه السلام قد سحره أحد اليهود أو أحد من كانت لقومه صلة باليهود فى المدينة. وثَمَّ علماءُ كثيرون يتمسكون بهذا تمسكهم بأقدس الأقداس ويرَوْن فى رفضه إثما عظيما، ولا أزيد على ذلك. وبادئ ذي بدء أسوق الحديث الخاص بهذا، وهو من رواية البخاري: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُحِرَ حتى كان يرَى أنه يأتى النساءَ ولا يأتيهِنَّ. قال سفيانُ: وهذا أشدُّ ما يكونُ من السِّحْرِ إذا كان كذا. فقال: يا عائشةُ، أعَلِمْتِ أن اللهَ قد أفتانى فيما استفتَيتُه فيه؟ أتانى رجلانِ: فقعَد أحدُهما عند رأسي، والآخَرُ عند رِجْلي، فقال الذى عند رأسى للآخَرِ: ما بالُ الرجلِ؟ قال: مَطْبوبٌ. قال: ومَنْ طَبَّه؟ قال: لَبِيدُ بن أعْصَمَ (رجلٌ من بنى زُرَيقٍ حَلِيفٌ ليهُودَ كان منافقًا). قال: وفيمَ؟ قال: فى مُشْطٍ ومُشَاقَةٍ. قال: وأينَ؟ قال: فى جُفِّ طلعةٍ ذكَرٍ تحت رَعُوفَةٍ فى بئرِ ذَرْوانَ. قالتْ: فأتى النبى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البئرَ حتى استخرجه، فقال: هذه البئرُ التى أُرِيتُها، وكأن ماءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأن نخلَها رُؤوسُ الشياطين. قال: فاستُخْرِجَ. قالتْ: فقلتُ: أفَلا (أى تنَشَّرَتْ)؟ فقال: أمَا واللهِ فقد شفانى اللهُ، وأكرَهُ أن أُثِيرَ على أحدٍ من الناسِ شَرًّا”. 

تابعنا في فيسبوك

وهناك، كما هو معروف، من ينكر وقوع السحر للنبى لأنه يناقض رد القرآن على متهميه بالسحر، إذ كانوا يقولون: “إنْ تتَّبِعون إلا رجلًا مسحورا”. وأنا معهم فى إنكار السحر، وأرى أنه لا يليق بنبوته أن يكون أعداؤه قد تسلطوا عليه بالسحر حتى وصل إلى تلك الحالة التى تثير الشفقة والرثاء من جانب محبيه، والشماتة والابتهاج من جانب شانئيه، ويظهر فيها عاجزا لا يمكنه هو أو غيره أن يصنع إزاءها شيئا. بل إنه ليبدو وكأنه غير واع بالأمر أصلا. وهذه معضلة أخرى أنكى وأشد. وفوق هذا ففى النص أشياء جديرة بالملاحظة: فمثلا تقول القصة إنه عليه السلام بعد أن سُحِرَ كان يرى أنه يأتى نساءه ولا يأتيهن. ولا أدرى كيف يكون ذلك. لو قيل إنه كان يريد إتيانهن لكنه لا يستطيع لكان الكلام مفهوما بغض النظر عن موافقتنا على صحته أو لا. أما القول بأنه كان يرى أنه يأتيهن لكنه لا يأتيهن فأمر غير مفهوم. 

على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل هناك روايات أخرى تقول إن شعر رسول الله قد تساقط، وكان يخيل له أنه يأتى الشيء ولا يأتيه، وإنه كان يذوب ذوبا، واستمر ذلك مدة. ومعناه أن أحواله كلها قد اضطربت، والعياذ بالله، وكأن النبوة لعب عيال يستطيع اليهود الأدناس أن يؤثروا فى صاحبها كل هذا التأثير الشنيع، وهو الذى أدبهم الأدب الشرعى وأراهم حجمهم الصحيح وجعلهم يمشون على العجين فلا يلخبطونه أبداً، وطهَّر منهم ومن إجرامهم وتآمراتهم وفتنهم بلاد العرب.

ثم تمضى القصة قائلة إن مَلَكَين قد أتياه وهو نائم، فسأل أحدهما الآخر: ما بال الرجل؟ وكأن ملكين قد أرسلهما الله لمعالجة رسوله يمكن أن يجهلاه إلى هذا الحد فلا يعرفا أنه رسول الله بل مجرد رجل من ملايين نكرات الرجال. إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا تخيلنا أن الملكين كانا مُدْلِجَيْن ذات ليلة على غير هدًى فصادفا رجلا مجهولا نائما تحت شجرة، فقالا ما قالا. كذلك نفهم من القصة أن أحدهما لم يكن يعرف ماذا أصاب الرسول، إذ يسأل زميله: ما بال الرجل؟ فلماذا إذن كان مجيئهما إليه صلى الله عليه وسلم؟ 

ثم لم وضع الساحر سحره فى بئر ولم يضعه فى بيته مثلا حتى يطمئن إلى أن أحدا لن يمكنه الوصول إليه، فضلا عن أنه سوف يكون أسهل عليه من تكلف الذهاب إلى البئر المذكورة والنزول فى الماء والطين لإخفاء العمل السحرى الذى جهزه واحتمال رؤية أحد من الناس له وهو يفعل ذلك؟ ولماذا لم تَشْفِ السماء النبى مباشرة بدلا من هذا السبيل المعقد الذى قرأناه؟ وتقول القصة

إن النبي، بعد استخراجه السحر، لم يشأ أن يثير على أحد من الناس شرا. وهى عبارة غامضة: فهل المقصود بالناس هنا هم المسلمون؟ لكن أى شر يمكن أن يصيبهم جراء ذلك؟ هل هو الخوف من الفتنة؟ لكن الفتنة وقعت وانتهى الأمر، إذ علم المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم مسحور وعاجز عن فعل أى شيء ينقذه من الحالة السيئة التى كان عليها. بل إن الروايات الأخرى فى البخارى ومسلم وابن حبان تقول إنه صلى الله عليه وسلم، حين قصد البئر ليستخرج منها السحر، قصدها فى جماعة من أصحابه، بالإضافة إلى أنهم لا بد أن يكون قد ثار فى أذهانهم السؤال التالي: كيف ينفى القرآن عن الرسول السحر، وهو ذا أمامنا مسحورا بلا أى جدال؟ أم هل المقصود بـ”أحد من الناس” هو الساحر؟ لكن ألم يأت فى بعض الأحاديث أن الساحر يجب أن يُقْتَل؟ فلماذا لم يطبَّق هذا الحكم عليه؟ ثم من استخرج السحر من الماء؟ أهو الرسول؟ فهل يليق به صلى الله عليه وسلم، وهو النبى والحاكم والقائد والمشرع والقاضي، أن ينزل بئرا ليبحث فيها عن عمل من أعمال السحر؟ أم هو واحد من الصحابة؟ فمن هو يا تري؟ ولماذا لم يقدم لنا تقريرا عما رأى وسمع؟ وهل اكتفى الساحر بسحره مرة واحدة فقط؟ 

وفى الرواية الموجودة فى “لباب النقول” للسيوطى يأمر الرسول صحابته بأن يذهبوا إلى البئر المذكورة فينزحوا ماءها حتى تظهر الصخرة التى وُضِع السحر تحتها فيستخرجوه ويحرقوه. وهو عمل مرهق يأخذ وقتا ويلفت الأنظار، ولا يتسق مع قول الرسول إنه لا يريد أن يثير بين الناس فتنة، إذ لا بد أن يعلم به القاصى والدانى من أهل المدينة على الأقل. بل هل يمكن نزح بئر أصلا؟ وهذا نص رواية “لباب النقول: “مَرِض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضا شديدا، فأتاه ملَكان: فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذى عند رجليه للذى عند رأسه: ما تري؟ قال: طُبَّ. قال: وما طُبّ؟ قال: سُحِر. قال: ومَنْ سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: أين هو؟ قال: فى بئر آل فلان تحت صخرة فى كريّة. فأْتُوا الركية فانزحوا ماءها وارفعوا الصخرة ثم خذوا الكرية وأحرقوها. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمار بن ياسر فى نفر، فأَتَوُا الركية، فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الكرية وأحرقوها، فإذا فيها وترٌ فيه إحدى عشرة عقدة. وأنزلت عليه هاتان السورتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة: قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس”. ولنلاحظ أن أحد الرجلين اللذين أتيا النبى فى الرؤيا، والمفروض أنهما ملكان، لا يعرف معنى “طُبّ” كما هو واضح. فهل يعقل هذا؟ ثم إن هذه الرواية تتحدث عن إحراق السحر، بينما فى رواية أخرى للبخارى غير الرواية السابقة لا إحراق للسحر ولا حتى استخراج له، علاوة على أن لبيد بن الأعصم فيها يهودى وليس من الموالسين معهم.

وفى رواية أخرى فى “فتح الباري” لابن حجر نقرأ ما يلي: “فقالت أختُ لبيدِ بنِ الأعصمِ: إن يكن نبيا فسيُخْبَرُ، وإلا فسيُذْهِلُهُ هذا السِّحْرُ حتَّى يُذْهِبَ عقلَه”. وها هو ذا قد أخبر الله نبيه بالسحر وشفاه منه وأبطل كيد ابن الأعصم، فماذا فعلت أخته؟ ولماذا لم يحاجّها المسلمون بشفاء رسول الله ويطالبوها هى وأخاها باعتناق الإسلام؟ لكننا ننظر فنجد أن الأمر قد أُكْفِئَ عليه ماجور وأُهْمِل تماما بعد ذلك، وكأنه لم يكن. بل إن لبيد بن الأعصم، فيما لاحظتُ، لا يأتى له ذكر فى غير هذا الحديث. أفلم يكن للرجل أى دور فى الحياة غير سحر النبى عليه السلام؟ لكأنه ممثل من ممثلى الكومبارس ممن يظهرون فى المسرحية أو الفلم فى لقطة خاطفة يقولون فيها جملة سريعة ثم يختفون تماما حتى نهاية القصة، وهم مع ذلك سعداء أن قُدِّر لهم الظهور فى عمل فنى جماهيرى مع الممثلين الكبار. كذلك من الصعب جدا أن نتصور نازحى البئر من الصحابة الكرام وقد سكتوا تماما بعد الحادثة فلم يتعرضوا هم ولا غيرهم من المسلمين للبيد بن الأعصم هذا ولو بتقريع. 

إن أمراً كهذا لا يمكن أن يكون قد مرّ مرور الكرام على النحو الذى رأينا وكأننا قبالة موضوع نظرى مجرد بارد لا موضوع حياة يومية فيها معاناة وحيرة وألم ومؤامرات وصراعات؟ ألم يكن للصحابة ردّ فعل على ما يرَوْنَه فى رسولهم الكريم؟ أين عمر مثلا فلم يهتم بتمحيص المسألة حتى يضع يده على الفاعل الشرير ويعاقبه العقاب اللازم؟ لقد رأينا فى حادثة الإفك وغيرها عالَما موّارا من الوقائع والمشاعر والاتهامات والردود والتقصى والتمحيص، أما هنا فكلمتان سريعتان أقرب إلى عالم التنظير والتجريد البارد لا تشفيان غليل الباحث. هل يعقل أن يحدث هذا لزعيم دولة وحاكمها وقائدها العسكرى وقاضيها وموجهها، وقبل ذلك كله رسولها، ثم لا نسمع شيئا عن موقف أهل المدينة تجاه هذا الأمر سواء من المسلمين المؤمنين، أو خصومه من اليهود والمنافقين والكافرين؟ وقبل ذلك كله كيف يرضى الله سبحانه وتعالى تعريض نبيه لهذا الاضطراب القبيح المُذْهِب للوعى فى أمر علاقته مع زوجاته وغيره من الأمور على يد واحد من أعدائه؟…

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى