بحوث ودراسات

ملامح الفكر السياسي المستند إلى الوهابية (3 من 9)

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

من الملفت أنَّ أحمد الكاتب (2011م) يجد في فتوى السّيِستاني بتطبيق نظام ديموقراطي في العراق تحوُّلًا ملحوظًا عن الإرث العقائدي، المستند إلى حصر الإمامة في ذريَّة الحسين بن عليٍّ (رضي الله عنهما)، واشتراط النَّص والوصيَّة، إلى جانب عصمة الإمام، وفي ذلك تحرُّر من الاستبداد البعثي، ومن قيود ولاية الفقيه في آن واحد. والمفارقة أنَّ الكاتب يتهَّم الحركة السَّلفيَّة في العراق بالحيلولة دون تحقيق الدِّيموقراطيَّة، برغم ما سبق استعراضه من آراء المحللين عن أنَّ سبب خراب العراق هو تواطؤ أمريكا وملالي الشِّيعة، وقد قال ذلك غيورغي أساتريان، مشيرًا إلى اكتساب الشِّيعة في العراق سلطات واسعة، خوَّلتهم للسيطرة على الاقتصاد. غير أنَّ الكاتب يصرُّ على أنَّ الفكر الوهَّابي، متجسِّدًا في أبو مصعب الزرقاوي، وفي هذا يقول نصًّا في رسالته العلميَّة (2012م) الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة في الأنظمة السِّياسة الإسلاميَّة المعاصرة (صـ33-34):

تابعنا في فيسبوك

ولكنَّ الخيار الدِّيموقراطي لم يعجب الحركة السَّلفيَّة الَّتي ترفض الدِّيموقراطيَّة مبدئيًّا ولا تحترم إرادة الشَّعب العراقي “الكافر والمرتدِّ” في نظرها، وتطمح إلى إقامة نظام ديكتاتوري باسم الإسلام وإعادة الخلافة، وتعمد القوَّة والعنف سبيلًا وحيدًا لتحقيق أهدافها. وهنا التقت مصالح حزب البعث من جهة، والجماعات السَّلفيَّة بقيادة الزَّرقاوي من جهة أخرى، ووضعوا خطَّة مشتركة لمهاجمة الجماهير العراقيَّة (الشِّيعية) والحكومة العراقيَّة أكثر من مهاجمة القوَّات الأميركيَّة المحتلَّة، من أجل إفشال العمليَّة السِّياسيَّة وإسقاط النِّظام الجديد.

يذكر الكاتب أنَّ الزرقاوي ارتكب أعمال عنف قاسيَّة ضدَّ مرجعيَّات شيعيَّة لها وزنها، من خلال سلسلة من التفجيرات والعمليَّات الانتحاريَّة، ما يحمِّله الكاتب اللوم الأكبر في ضياع فرصة الانتقال الدِّيموقراطي. واصل الزرقاوي حملاته المعرقلة للتطوُّر السلمي، هذه المرَّة من خلال دعوته إلى مقاطعة الانتخابات الدُّستوريَّة في العراق، برغم تأييد مجموعة من القيادات السَّلفيَّة لها. ولمَّا لم يفلح بيانه المندِّد بالمشاركة في الانتخابات، أصدر الزرقاوي بيانًا آخر عنونه “هذا بيانٌ للناس وليُنذروا به”، جاء فيه “قرر التنظيم إعلان حرب شاملة على الشِّيعة الروافض في جميع أنحاء العراق، أينما وجدوا وحيثما حلُّوا، جزاء وفاقا فمنكم كان الابتداء، وأنتم من بادر بالاعتداء”. قُتل الزرقاوي في يونيو من عام 2006م، ولم ينتهِ بقتله العنف ضدَّ الشِّيعة، كما يتأسَّف الكاتب، بل تجدَّد بظهور خليفته أبو عُمر البغدادي، الَّذي أعلن عن ‘‘دولة العراق الإسلاميَّة’’، الَّتي صارت لاحقًا تُعرف بـ ‘‘الدَّولة الإسلاميَّة في العراق والشام’’، أو داعش.

جذور العنف في الفكر الوهَّابي وفق رأي الكاتب (2011م)

تركَّزت دعوة محمَّد بن عبد الوهَّاب، مؤسس المذهب الوهَّابي، على التَّوحيد بالله تعالى، ونبذ كافَّة صور الشِّرك، وأهم ما في ذلك الاستغاثة بالأولياء والتبرُّك بالأضرحة، معتبرًا أنَّ في التَّغاضي عن ذلك كُفرًا. وانتقد بن عبد الوهَّاب مشايخ عصره ممن لم ينتصروا للحقِّ، أو يدينوا النذر للأولياء الأحياء، من الأشراف والصُّوفيَّة، بهدف قضاء الحاجات، ما اعتبره من الكفر، بل واعتبر أنَّ من يشكك في كُفر هؤلاء فهو كافر مثلهم. أوضح الشَّيخ في رسالته إلى عبد الرحمن بن ربيعة، مطوع ثادق، مفهومه عن تكفير المشركين كما جاء في رسالة أحمد الكاتب العلميَّة (2012م، صـ86):

اقرأ: ملامح الفكر السياسي المستند إلى الوهابية (من 2 إلى 9)

وعندما وجَد لدى بعض النَّاس صعوبة في تقبُّل عمليَّة التَّكفير العامَّة الَّتي يقوم بها، قال: “قد بلغني أنَّكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم…فيا ليت قيامكم في عظائم في بلدكم تضاد ُّ أصل الإسلام: (شهادة أنَّ لا إله إلَّا الله وأنَّ مُحمَّدًا رسول الله)، منها وهو أعظمها: عبادة الأصنام عندكم من بشَر وحجَر، هذا يذبح له وهذا ينذر له، وهذا يطلب إجابة الدَّعوات وإغاثة اللَّهفات، وهذا يدعوه المضطرُّ في البرِّ والبحر، وهذا يزعمون أنَّه مَن التجأ إليه ينفعه في الدُّنيا والآخرة…فإن كنتم تزعمون أنَّ هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن فهذا مِن العجب”.

استند الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب في حجَّته على انتشار الشِّرك بالله تعالى في زمنه بحديث صحيح، رواه البخاري (3344) ومسلم (1046)، عن النَّبي (ﷺ) يقول ” لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يلْحق حيٌّ من أمتِي بالمشركين، وَحَتَّى يعبد فئامٌ من أمتِي الْأَوْثَان”، وحديث آخره عنه (ﷺ)، رواه البخاري (7068) بسند صحيح عن أنس بن مالك (رضي الله عنه وأرضاه)، يقول “ما مِن عامٍ إلَّا والَّذي بعدَهُ شرٌّ منهُ حتَّى تلقَوا ربَّكم”. اعتبر الشَّيخ أنَّ المسلمين اغتربوا عن صحيح دينهم، وافتتنوا بالبدع، وكان لا بدَّ من إعادته إلى جادَّة الحقِّ في زمن الغربة، الَّتي آل إليها حال الإسلام، الَّذي بدأ غريبًا وعاد غريبًا، مصداقًا لقول النَّبي الكريم (ﷺ). جدير بالإشارة أنَّ كثيرًا من علماء نجد رفضوا مبدأ تكفير الشَّيخ، بل وحكموا عليه بالكُفر (صـ93):

وحكم بعض هؤلاء، كالشَّيخ عبد الله المويس وابن إسماعيل وابن عبيد، على الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب وأتباعه بالرِّدَّة، والخروج عن دين الإسلام، وقاموا بإرسال رسائل تحريض عامَّة في إنكار الدَّعوة الوهابيَّة والبراءة من أصحابها. وأنكروا على الشَّيخ تكفير المسلمين وإعلان الحرب عليهم.

تعرَّض الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب إلى حملة تنديد واسعة، وزُعم أنَّه يكفِّر النَّاس جميعًا سوى أتباعه، وهذا ما نفاه الشَّيخ في إيضاحه الوارد في كتاب الدُّرر السنيَّة “إنِّي أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر؛ لأجل ذلك، وأنَّ الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام، فهذه المسائل حق وأنا قائلها” (جـ 1، صـ34). اعتبر الشَّيخ أنَّ الممارسات المحدثة على الدِّين الإسلامي تستلزم الهجرة من ‘‘المجتمع الجاهلي’’ إلى ما أطلق عليه ‘‘المجتمع الإسلامي الموحِّد’’، أو ‘‘دار الهجرة والإسلام’’، كما ينطبق على إمارة الدرعيَّة، لمَّا استقرَّ بها. ويصرُّ الكاتب على أنَّ الشَّيخ أسَّس مذهبه على تكفير النَّاس عامَّة، برغم نفيه ذلك، وقد جاء في كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، أنَّ الشَّيخ قد استقرَّ في الدرعيَّة عامين يدعو النَّاس إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يتَّهم أحدًا بالكفر، أو يبادر بالعدوان على أحد. غير أنَّ جماعة نادت بتكفيره هو وأتباعه، وأباحت سفك دمائهم، فأمر الشَّيخ أتباع بالمواجهة. وجاء في كتاب تاريخ نجد لابن غنَّام، أنَّ الشَّيخ أعلن بلاد المشركين دارًا للحرب، ويوضح الشَّيخ في كتاب تطهير الاعتقاد أنَّ مَن أسماهم ‘‘المشركين’’ من مسلمي عصر مهدور دمهم، ومباحة أموالهم وذراريهم، إن لم يتوبوا (صـ35). واستمدَّت الوهَّابيَّة هذه النزعة من إباحة ابن تيميَّة استخدام القوَّة ضدَّ كلِّ من يتخلَّف عن الالتزام بالشَّريعة، وبذلك لم يعد للشَّيخ أيُّ التزام تجاه الدَّولة العثمانيَّة، الَّتي نشرت الصُّوفيَّة، برغم بدعها المنافية لصحيح الإسلام.

لم يجد الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب سوى إمارة الدرعيَّة ترحِّب به، بعد طرده من إمارة العيينة، وقد ذهب أمير الدرعيَّة، محمَّد بن سعود، بنفسه إلى الشَّيخ في بيته للترحيب به، فبايعه الشَّيخ على النَّصرة والدَّعم في مساعيه لمحاربة الردَّة الَّتي انتشرت في إقليم نجد، وقد روى ابن بشر في كتابه عنوان المجد في تاريخ نجد أنَّ الشَّيخ قال لابن سعود “أنتَ ترى نجدًا كلَّها وأقطارها أطبقت على الشِّرك والجهل والفُرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعضًا، فأرجو أن تكون إمامًا يجتمع عليه المسلمون، وذريَّتك بعدك” (جــ1، صـ42). ويشبِّه الكاتب الموقع الَّذي احتلَّه الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب بموقع الولي الفقيه للخميني في إيران، معتبرًا أنَّ الأمير محمَّد بن سعود كان مجرَّد واجهة حرَّكها الشَّيخ من الخلف. ويعتقد الكاتب كذلك أنَّ محمَّد بن عبد الوهَّاب ومحمَّد بن سعود قد أسَّسا نظامًا ثنائيًّا للحُكم، تتشارك فيه الإمارة والفقاهة السُّلطة، معترفًا بأنَّ الإمارة الوهَّابيَّة الأولى وُلد سلميًّا، بهدف إصلاحي بحت. من هنا، لم يركِّز الشَّيخ على النِّظام السِّياسي الحاكم، ولم يعب النِّظام الوراثي القَبَلي للحُكم، فالشَّيخ الَّذي “كان يركز على موضوع إصلاح العقيدة الإسلاميَّة، ومحاربة الشِّرك في الأمَّة، لم يلتفت كثيرًا الى مشكلة النِّظام السِّياسي، وانخرط في النِّظام البدوي الوراثي القائم، بل كرَّس ذلك النِّظام وأعطاه شرعيَّة دينيَّة، وبايع الأمير محمد بن سعود بدلًا من أن يأخذ البيعة من الأمير له” (صـ124). يبدو هذا التَّوجُّه، وفق المنظور الدِّيموقراطي للدَّولة المدنيَّة الحديثة، ترسيخًا للهيمنة على الحُكم وتغليبًا للقوَّة القبليَّة على الشُّورى وحريَّة اختيار الحاكم ووضْع أُسس ثابتة لمحاسبة الحاكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى